الطقس لا يحتمل.. هل نستطيع أن نفتح النافذة؟
بقلم/ محمد العلائي
نشر منذ: 14 سنة و 5 أشهر و 5 أيام
الإثنين 21 يونيو-حزيران 2010 07:50 م

كنت أحد المشمولين بالعفو الرئاسي ممن أغلقت محكمة الصحافة ملفاتهم قبل اسبوعين.

في كل مرة وقفت فيها أمام القاضي كنت أختبر شعورا جديدا، وكنت أطرح على نفسي هذا السؤال: إلى أي مدى هذه التجربة جديرة بالكتابة عنها؟

حاولت أكثر من مرة الكتابة وأخفقت. رغم أني افتقر لروح الدعابة، إلا أني ظننت أن علي تناولها بطريقة تهكمية. عبثا كنت أتظاهر باللااكتراث، رغم يقيني بأنني أخاطر بشيء ما. وحينما كنت أشرع بالكتابة كان يغمرني فجأة إحساس كثيف بالضيق ربما لاكتشافي كم إن محاكمتنا جدية بصورة لا تقهر.

كنت على غرار بطل رواية "المحاكمة" لكافكا، أتضايق من تصرفي كمذنب، "كان تصرفي كأنني مذنب مع أني لست مذنبا، يشعرني بشيء من الخزي أحاول إخفاؤه"، وهذا الطور من أطوار شخصية جوزيف. ك، يطلق عليه كونديرا في "الوصايا المغدورة": "النضال العابث من أجل الكرامة المفقودة".

لا تستهويني صورة المناضل، ولم يكن تقديم نفسي بهيئة المخلّص الذي يتألم من أجل المجموع حلما لي في أي مرحلة من مراحل حياتي. ولم أنجح قط في تخيل أنني سأمثل يوما أمام محكمة. كانت التهمة الموجهة لي لا تصدق: المساس بالوحدة والتحريض على العنف المسلح!

في غرفة التحقيق، قبل أن تحال القضية إلى المحكمة، حاولت أن أمثل دور المتهم الحاذق الذي يشدد في أجوبته على الاقتضاب والتهكم والنكران. ولسوف أعتقد لبعض الوقت بأن المحقق سيأخذ دفوعاتي أثناء جلسة الاستجواب الأولى حرفيا وأنني سأنجو.

لا أدري ما إذا كنت حصيفا حينها، لكن، والحق يقال، كانت الأسئلة مربكة وطويلة لدرجة جعلتني أوزع نظراتي بين المحقق والكاتب أحيانا والمحامي غالبا الذي كان يجلس أمامي، كنت ابحث عن إيماءات تشجيع أو استياء, واضعا نصب عيني حقيقة أن كل ما يبدر من المتهم من تعابير وهمس يصبح تحت تصرف المحكمة لاحقا (في الواقع لا أتذكر من أين اكتسبت مثل هذه الحقيقية، من الروايات والأفلام على ما أظن). وربما لأنني أفرطت في ثقتي بنفسي فتوهمت أن منطقي كان قاطعا بحيث لا يمكن لأحد إغفاله.

لكن القضية أحيلت إلى المحكمة بالفعل. أتذكر أن خدمتي أخبار المحمول "ناس موبايل" و"الصحوة موبايل" وزعت خبرا أثار الهلع في قريتي: الصحفي محمد العلائي يمثل غدا أمام محكمة الصحافة بتهم تصل عقوبتها إلى الإعدام. اتصلت لأمي وكانت تنشج بالبكاء، حتى إن أصدقائي القدامى بادروني بالاتصال وأخضعوني لامتحان تمييز الأصوات: من معي؟ أسأل. ما عرفتني؟ يرد.

كان بودي لو أكتب على غرار كافكا الذي خلق، في رواية "المحاكمة"، بتعبير ميلان كونديرا، أقصى صورة شاعرية لعالم لا شاعري لأقصى حد، "حكاية الإنسان الذي فقد حياته الطبيعية والذي لا يسعه الاتصال بها إلا خلسة عبر نافذة". بيد أن هنا لا شيء مما نقرأه في رواية كافكا، لا أحداث غريبة ومتنافرة يمكن مزجها بشكل بليغ ومدهش، من قبيل ذلك الطالب الهزيل والقبيح الذي ارتكب حماقة شوشت خطاب المتهم جوزيف ك أثناء الاستجواب: لقد نجح في إلقاء زوجة الحاجب أرضا ومارس الحب معها بين الحضور.

حتى لو بدا هذا مضحكا قليلا، إلا أنني أحب أن أقول بأني اختبرت الكثير من المشاعر التي خالجت المتهم "ك". على سبيل المثال كافحت كي لا أبدو شديد الانضباط وكنت أتعمد التأخر عن مواعيد الجلسات أو التغيب عن بعضها.

في قصر العدالة، ينصب اهتمام المرء في مراقبة قواعد السلوك والطريقة التي ينبغي عليه أن يجلس بها كي لا يعرض نفسه لتوبيخ القاضي.

كان المتهم "ك" لا يكف عن التماس المساعدة لكنه كان يضجر في نهاية الأمر. وفي إحدى المرات زار رسام قيل له أنه يتمتع بنفوذ لدى القضاء وأن بوسعه مساعدته. لكن الرسام جعل كل الدروب مسدودة في وجه "ك"، أعترى الأخير شعور بالضيق والكآبة: "إن الطقس هنا غير محتمل، هل نستطيع أن نفتح النافذة؟" قال "ك".

"لا، فإنها ليست سوى لوح من الزجاج مثبت في الجدار ولا يمكن فتحه"، رد الرسام بإمعان وحشي لإبقاء كل النوافذ الممكنة مطموسة.

يجدر بي أن انقل هذه العبارة لميلان كونديرا، كاتبي المفضل، الذي اعرض نفسي للسخرية بسببه لاني أفرط في الاقتباس من رواياته ومقارباته النقدية. وردت هذه العبارة أثناء استعراض كونديرا لرواية المحاكمة في كتابه "الوصايا المغدورة".

"كلما تقلصت حرية التفكير وحرية الكلام والمواقف والمزاح والتأمل والأفكار الخطرة والإثارة الفكرية، وراقبتها المحكمة الساهرة على الإمتثالية العامة، ازدادت حرية النزوات"، يقول كونديرا.

...

حياة "لا تنبعث منها رائحة الطلاء الجديد"

سئمنا ندب الحظ أو الادعاء بأننا على ما يرام.

نفتقد إلى المخيلة. توقفنا عن أن نحلم. وأيامنا متشابهة على نحو لا يطاق. لا شيء غير متوقع، لا لقاءات غير متوقعة، لا مكالمات غير متوقعة. لا تسارع لضربات القلب لدى حصول المرء على مجد مفاجئ لطالما داعب خياله سرا.

حتى المفاجآت المأساوية فقدت بريقها. ألفنا الموت والكوارث والاضطرابات. توقعنا الأسوء واستمرت الحياة.

كان جياكوميتي، وهو نحات ورسام سويسري شهير، يعبر ميدان ايطاليا طيلة عشرين سنة. ذات مساء صدمته سيارة فأصيب بجرح والتوت ساقه. عندما أفاق من الإغماءة التي راح فيها شعر أولا بنوع من البهجة: "أخيرا شيء ما حدث لي". وردت هذه القصة باقتضاب في كتاب سارتر المشوق "الكلمات". وهذا الكتاب عبارة عن استحضار عميق ولعوب لطفولة سارتر.

"وفي العاشرة من عمري كنت أدعي بأني لا أحب غير المفاجآت. كان على كل خيط من نسيج حياتي أن يكون غير متوقع، وأن تنبعث منه رائحة الطلاء الجديد"، هكذا كتب سارتر.

خذوا هذه القصة الملهمة أيضا. استضافت المذيعة الأمريكية اللامعة أوبرا وينفري 4 شبان من كندا وضعوا قائمة لـ100 حلم تضم كل ما يرغبوا أن يفعلوه قبل أن يموتوا. رغبات فائقة الغرابة، فيها نبل وجنون ومخيلة وابتكار. كأن يحلموا بالإطلاع عن كثب على معجزة الولادة، مشاهدة اللحظة التي يبصر فيها البشر النور لأول مرة. أو كأن يساعدوا امرأة تعاني من رهاب الأماكن الشاهقة، أو أن يعمل هؤلاء الشبان نادلون لبعض الوقت في مطعم لدفع تكاليف رحلة امرأة لم تعثر على ضريح والدتها التي قضت في إعصار كاترينا.

الأصدقاء الأربعة هم: Duncan Penn, Ben Nemtin, Jonnie Penn and Dave Lingwood . حلموا بمشاركة الرئيس أوباما لعبة بيسبول في البيت الأبيض، وكان لهم ما أرادوا.

قال لهم الرئيس: مرحبا يا رفاق، ليس لدي الوقت الكافي لكني أستطيع أن ارمي معكم بضع كرات.

استقلوا حافلتهم وراحوا يتجولون في أنحاء الولايات المتحدة. كانوا كلما فرغوا من تحقيق بند من القائمة شطبوه.

لا شيء لا يمكن تحقيقه في تلك البلاد. هناك يوجد دائما وقت للأمل والحلم والمفاجآت والشطحات.

alalaiy@yahoo.com