الذاكرة السياسية "المثقوبة"
بقلم/ د. عيدروس نصر ناصر
نشر منذ: 11 سنة و 4 أشهر و 26 يوماً
الخميس 27 يونيو-حزيران 2013 07:36 م

على مدى ثلاث حلقات أسبوعية متتالية قدمت قناة العربية لقاءات مع الرئيس علي عبدالله صالح، ضمن برنامج "الذاكرة السياسية" الذي يعده ويقدمه الصحفي والمذيع اللبناني طاهر بركة  يستعرض فيها تاريخ النشاط السياسي للرئيس السابق وبالذات فترة وجوده في سدة الحكم منذ العام 1978م وهي بلا شك فترة مهمة في تاريخ اليمن واليمنيين تكتنفها الكثير من الأحداث والحقائق والأسرار تستحق الإجلاء، ويبدو أن حلقات لاحقة ستأتي كما يتضح من النقطة التي توقف عندها مراسل العربية في آخر حلقة تم عرضها.

لا يمكن التوقف عند كل ما تعرضت له الحلقات المعروضة، وإلا لاستدعى ذلك عشرات المقالات، لكننا سنكتفي بتناول بعض الحقائق التي تعمد الرئيس (السابق) إخفاءها أو تزييفها أو الهروب من تناولها لإظهار تاريخ حكمه لليمن على أنه الحكم الأمثل والأنقى والأبهى والأزهى في كل تاريخ اليمن، وربما في كل التاريخ العربي.

لست بحاجة هنا إلى التعرض لزيف القول بأن الرجل جاء بطريقة ديمقراطية ولم يأت على ظهر دبابة، أو أن أهل تعز هم الذين جاءوا في مسيرات للمطالبة بترشيحه وانتخابه فهذه قد دحضها كل من عاش تلك الفترة، وكل من شاهد جواني الريالات وهي توزع على أعضاء مجلس الشعب التأسيسي عشية انعقاد جلسة المجلس لانتخاب الرئيس في 16 يوليو 1978م، ولسنا بحاجة إلى التعرض إلى مسرحيات الاعتزال وعدم الترشح التي أجراها الرجل في الثمانينات وفي العام 2005م فقد دحض ذلك التهديد باستخدام الطيران بعد فوز المرحوم فيصل بن شملان في انتخابات 2006م ، لأن الزاهد في السلطة لن يكون بحاجة إلى استخدام سلاح الطيران لاغتصاب نتيجة انتخابات فاز بها منافسه، أو إنفاق مئات الملايين لحشد المطالبين له بالتراجع عن عدم ترشحه للانتخابات، ويبقى موضوع الدبابة، وهو أهون بعشرات المرات من الطيران والمدفعية وكل أشكال السلاح التي استخدمها الرئيس السابق للحفاظ على تشبثه بكرسي السلطة اللعين على مدى ثلث قرن من الزمان.

·الذين تابعوا الحلقات الثلاث لاحظوا كيف تعمد الرجل الكذب والتضليل وخلط الأوراق في الهروب من الإقرار بحقائق يعلمها كل ذي عينين ممن عايشوا تلك الأحداث ، فمثلا عندما سأله المذيع عن الموقف من غزو صديقه صدام حسين للكويت، قال أن الذين أيدوا صدام حسين هم أحزاب متطرفة نكاية بالسلطة، وأن علي سالم البيض قد وجه (مندوبهم) الدائم عبد الله الأشطل بالتصويت ضد قرارات مجلس الأمن التي تدين غزو الكويت وتدعو العراق إلى الانسحاب، ونسي أن عبد الله الأشطل لم يعد مندوب الجنوب بل مندوب الجمهورية اليمنية وأن العرف الدبلوماسي يقضي بأن مندوب الدولة (أي دولة) أو سفيرها يتلقى التعليمات من رئيس البلد وليس من نائبه، والأهم من هذا أن عبد الله الأشطل لم يكن قط يوافق مواقف نائب الرئيس علي البيض بل كان يتبنى مواقف الرئيس علي عبدالله صالح وقد تجلى ذلك في الموقف من حرب 1994م ولو كان الاشطل يتلقى التعليمات من البيض لما وقف ضده في هذه الحرب وأيد فرض الوحدة بقوة السلاح وتحمس (رحمه الله) لاجتياح الجنوب وما تعرض له بعد ذلك من ويلات يدركها علي عبد الله صالح نفسه.

يراهن فخامته على ضعف ذاكرة الشعب، ويعتقد أن اليمنيين نسوا خطاباته النارية المؤيدة لغزو صدام للكويت والماكينة الإعلامية التي صورت الرافضين للغزو على أنهم شياطين رجماء أو مارقين أو فاسقين، وكيف كانت الصور المدبلجة للزعماء الرئيس مبارك والملك فهد والشيخ جابر وبقية الرافضين للغزو تصدر مشوهة من التوجيه المعنوي وتباع بمئات الريالات للعامة من الناس، ونسي فخامته أنه قال مرة لأحدى القنوات التلفزيونية ما معناه "سنأكل الأعشاب ونركب الحمير ونسافر على الأقدام لو فرض علينا أي حصار" ردا على موقف اليمن المؤيد لصدام حسين في غزوه للدولة التي قدمت لليمن ما لم تقدمه أي دولة أخرى عربية أو أجنبية.

· يقول الرئيس السابق علي عبد الله صالح بأنه حارب القاعدة منذ البداية وقبل 1994م، وذكر على رأس من حاربهم طارق الفضلي، . . .ويبدو أن فخامته لم يسمع بالمقولة العربية "إذا كنت كذوبا فكن ذكورا" وإلا لكان تذكر أنه وفي عهده جرى استقطاب الآلاف من اليمنيين للسفر إلى أفغانستان للحرب الجهادية ضد السوفييت وأنه (شخصيا) استقبل العائدين من أفغانستان واستقطبهم للاستعدادات لخوض حرب 1994م وأنهم على الأرجح هم من حسم الحرب لصالحه، ولا يمكن إنكار أن الكثيرين منهم صاروا قيادات في المؤتمر الشعبي العام وفي جهاز الدولة المدني والأمني والعسكري، وليس في ذلك ما يضير، وأنه هو من وقع قرار تعيين الشيخ طارق الفضلي عضوا في مجلس الشورى، فضلا عن اللجنة العامة للمؤتمر الشعبي العام(وليس في ذلك ما يضير) لكن من المعيب الرهان على الناس عند ما تكون بحاجة إليهم والتخلي عنهم في أول محطة تكون أنت قد استغنيت عنهم كما جرى مع الشيخ الفضلي، والمعيب أكثر أن تفعل الفعل وتدعي عكسه كما هو الحال عند الحديث عن الحرب على القاعدة، . . . ولكي لا نذهب بعيدا لنا أن نتذكر أن الأجهزة الأمنية التي يشرف عليها الرئيس شخصيا كانت قد هربت من داخل السجون 23 قاعديا والذين قيل أنهم حفروا خندقا بالملاعق، وظل يستقبل بعضهم في مكتبه بالمناسبات المختلفة، ويرسل مخصصات بعضهم إلى أماكن إقامتهم، وللتذكير فقط فقد ظل مركز المجاهدين في حطاط بمحافظة أبين يتزود بالتموين والسلاح والذخائر من معسكر اللواء المقيم في زنجبار على مدى أكثر من 17 سنة، بتوجيهات وإشراف من قبل الرئيس نفسه، وأفراد هذا المركز هم من سيطروا على أبين في مايو 2011 بتوجيهات من فخامته، وأن أنصاره في أبين هزم من سلم مصنع الذخيرة لهؤلاء لتحصل بعد ذلك المحرقة المهولة التي ابتلعت أكثر من مائتي ضحية، تحولوا في غمضة عين بفضل السياسة الحكيمة لـ(الزعيم الرمز)، وأرجو أن لا يقول أنه لم يكن يعلم بهذا لأنه لو قال ذلك لأصبحت فضيحة أكبر من فضيحة التموين والتمويل والتحالف، تلك هي حقيقة حربه على القاعدة، . . . أكذوبة الحرب على القاعدة معروفة للقاصي والداني ففي حين كان كل العالم يحارب تنظيم القاعدة كان علي عبدالله صالح الوحيد من بين الزعماء الذي يحتفظ بعلاقات ودية مع أفراد هذا التنظيم ويتبادل مصالح عديدة معهم، وإن تظاهر بعكس ذلك.

· أطرف ما تعرض له فخامة الرئيس هو قوله إنه لم يسمح للطائرات الأجنبية باختراق السيادة والأجواء والمياه الإقليمية اليمنية، وهي رسالة واضحة للرئيس هادي على ضوء ما تشهده البلد من هجمات للطائرات الأمريكية بدون طيار، لكن حكاية الرهان على ضعف ذاكرة اليمنيين أو تعمد الاستخفاف بعقولهم ما تزال حاضرة في سلوك ونهج الرجل، يعتقد علي عبد الله صالح، أن الشعب اليمني قد نسي محرقة المعجلة بأبين ورفض بشبوة، ومقتل الشبواني في مأرب وغيرها من العمليات التي تمت من قبل طائرات أمركية بدون طيار، ونسي أنه قال للسفير الأمريكي بعد حادثة المعجلة: اقصفوا كما تشاءون وسأقول للشعب بأن قواتي هي من فعل ذلك، ماذا تريدون أكثر من هذا؟ وبحسب معلومات مؤكدة فإن الطائرات الأمريكية التي لا تزال تقصف عشوائيا وتقتل الأبرياء في مختلف أراضي اليمن، وهي عمليات مدانة من قبل كل القوى الحية والمحترمة في اليمن، تقوم بذلك استمرارا لاتفاقيات سرية وقعها فخامته مع الأمريكان منذ وقت مبكر، وسيبقى على الرئيس هادي إلغائها بأسرع وقت ممكن ليس براءة لنفسه من هذه الانتهاكات السافرة وردا على اتهامات خصومه وعلى رأسهم الرئيس السابق، لكن احتراما لدماء وأرواح اليمنيين وصيانة لها من هجمات الطائرات الغبية التي تفتك بالأبرياء وغالبا ما تخطئ المستهدفين.

· وعند الحديث عن حكومات الشراكة في الفترة 90- 94، 94- 97م قال فخامته أن الحزب الاشتراكي فشل في حكم الجنوب وأن الإصلاح لا يمتلك كفاءات وإنما مجرد محرضين وخطباء مساجد.

لو أن من قال هذا الكلام هو مستشارة ألمانيا أو ملكة هولندا أو حتى أمير الكويت أو أي من حكام الإمارات العربية المتحدة لتفهمنا كلامهم وعذرناهم فهم قد نجحوا في الوصول ببلادهم إلى مستوى لائق من التنمية واحترام مكانة المواطن وتحقيق حقوقه وإن على مستويات متفاوتة، أما أن يأتي هذا الكلام من حاكم مارس كل أشكال الطغيان والاستبداد والفساد والقتل والتجهيل ودق الأسافين وإشعال الحروب وتغذية النزاعات بين مواطني بلاده، وفرط بالسيادة الوطنية، ونهب الثروات وملك أولاده وأقاربه ومنافقيه معظم مصادر الثروة في البلاد فهذا إنما ينطبق عليه قول العرب "رمتني بدائها وانسلت".

لست بحاجة إلى امتداح فترة حكم الحزب الاشتراكي اليمن للجنوب التي بالتأكيد لم تكن خالية من السلبيات والأخطاء ( وهي السلبيات والأخطاء التي تم تقييمها والإقرار بها ونقدها)، لكن ما لا يعلمه على عبد الله صالح عن هذه الفترة (وربما يعلمه ولكنه يحاول تجاهله) أن الجنوب لم يكن يعرف متسولا واحدا وأن كل مواطن كان يحصل على العلاج مجانا ومن لم يتسنى له العلاج في الداخل يحق له العلاج في الخارج على نفقة الدولة وأن التعليم المجاني كان حقا لكل المواطنين من عامل النظافة حتى أكبر المسئولين، ولم يعرف الجنوب قط فاسدا واحدا او منتفعا بدينار واحد على حساب الدولة ولم يعرف أحد مصطلح الرشوة إلا في فترة حكم فخامته، لا يعترف فخامته ولا يريد أن يعترف بأن الجريمة اختفت من الجنوب على مدى ثلاثة وعشرين عاما ليس بسبب القمع والملاحقة وتشديد القبضة الأمنية التجسسسية التي تفشل حتى في حماية مصلى الرئيس، ولكن بفضل النظام العادل الذي ينصف المظلوم ويردع الظالم، ويعيد الحق لأصحابه من ناهبيه، ويحرم الكذب والغش والخداع والتدليس ويعتبرها كلها جرائم أخلاقية وموبقات قيمية قبل أن تكون ممنوعات قانونية.

أما الكفاءات التي يتحدث عنها، فإذا كان يقصد الوزراء والقادة الأكفاء من أنصاره الذين أشعلوا الحروب وسفكوا الدماء وقتلوا من قتلوا ونكلوا بمن نكلوا، وارتكبوا الموبقات المختلفة، ومن لم يتورط في شيء من هذه الجرائم كان مبدعا في مجال آخر وهو نهب المال العام والعبث بالثروات وتعاطي الرشاوي على المستويات العليا، وتسخير الوظيفة الحكومية للانتفاع وإنفاع الأقارب والمقربين فإنه على حق ولا يوجد أي حزب سياسي يمكنه أن ينافسه في هذه المواهب التي احتكرها وحده هو وحزبه.

الذاكرة السياسية للرئيس السابق تراهن على أن ذاكرة اليمنيين مثقوبة لا يستقر فيها شيء من حقائق التاريخ لكن من حسن حظ اليمنيين أنهم يتمتعون بحساسية كبيرة تجاه التزييف وما يزالون يتذكرون ليس فقط حقائق نهب الجنوب واستباحة الحديدة ومأرب، وقتل آلاف النشطاء من أفراد الحراك السلمي وشباب الثورة وحروب صعدة وما خلفته من دمار نفسي ومادي، وبل ويتذكرون جرائم وموبقات السبعينات والثمانينات للذين بنوا حياتهم السياسية على الزيف والكذب، وعلى ادعاء الوطنية والثوروية والوحدوية والجمهوروية والديمقراطية والشجاعة والبطولة والكرم وهي خصال تتبرأ منهم كبراءة الذئب من دم ابن يعقوب. . . : وللحديث بقية.

برقيات

* ليست المرة الأولى التي يتعرض فيها الوزير الناجح بشهادة الجميع، الدكتور محمد المخلافي وزير الشئون القانونية، لحملة التشهير والإساءة، لكنها المرة الأولى التي يتصدر هذه الحملة فيها رئيس البرلمان وأعضائه من كتلة (الأغلبية) المحصنة من المساءلة على كل ما تفعله.

*  الحملة المفضوحة لا تستهدف شخص الدكتور المخلافي، وإنما تستهدف نشاطه المتميز في محاولة إرساء منظومة قانونية لليمن تحولها من دولة الراعي والرعية إلى دولة المواطنة، وبالتأكيد يأتي على رأس هذه المنظومة مشروع العدالة الانتقالية، . .العدالة التي يأبى هواة الطغيان والإجرام إرساءها في اليمن.

*عبقرية يحيى الراعي أنسته أنه باقي في هذا الكرسي (المذحِّل) بسبب المبادرة الخليجية التي علت على الدستور والقانون وهي من جاء بالدكتور المخلافي وبقية زملائه الوزراء، وهي (أي المبادرة) لا تعترف بأغلبية وأقلية، لكن من أين للسيد الراعي القدرة على استيعاب هذه الأمور التي تفوق قدرته على الإدراك؟

* قال الشاعر أحمد مطر:

بيني وبين قاتلي حكايةٌ طريفة

فقبل أن يطعنني حلَّفني بالكعبة الشريفة

أن أطعن السيف أنا بجثتي

فهو عجوزٌ طاعنٌ وكفهُ ضعيفة

حلَّفني أن أحبس الدماء عن ثيابه النظيفة

فهو عجوزٌ مؤمنٌ

سوف يصلي بعدما يفرغ من تأدية الوظيفة

شكوتهُ لحضرة الخليفة

فردَّ شكواي لأنَّ حجتي سخيفة