الغفوري يكتب عن : كرتونة الفول الأخيرة وجمهورية الخوف
بقلم/ د.مروان الغفوري
نشر منذ: 10 سنوات و شهر و 16 يوماً
الثلاثاء 07 أكتوبر-تشرين الأول 2014 10:23 ص

أنتهت الجمهورية الثانية عند هذه الحدود، وبدأ طورٌ جديد من الجمهورية: جمهورية الخوف. تعبّر جماعة الحوثي عن جمهوريتها بدالّة الأمن. أي التطويع الكلي لصفات الكائن. في الكتاب المهم "كيف تسقط الأمم" يقول المؤلفان، وهما أستاذان في هارفارد ومعهد ماساتشوسيتس، إن كلمة السر في نهوض الأمة هي تحرير الكائن البشري كلّياً ليطلق كل قدراته في الخيال، التفكير، الاستثمار، الاعتقاد، والابتكار. وأن تقويض الكائن، تحديداً حصاره وكبته، يخلق مجتمعاً خائفاً وفاشلاً.

ففي جمهورية الخوف يخشى الرجل من ممارسة السرقة، وأيضاً من الكتابة على الواتس أب.

ضرب المثقف الشاب مصطفى ناجي مثلاً برجل فشل في السيطرة على أولاده فجاء برجل آخر ليقوم بالمهمة. لم يكن الرجل الآخر ينفق على الأبناء، ولا يحمل أي شكل من الالتزام تجاههم، لا مالياً ولا عاطفياً. كل فعله هو أن يصفعهم بوحشية لأتفه الأسباب، فسكنت مشاغباتهم وتوقفوا ليس فقط عن الشقاوة بل حتى عن الكلام. مع الأيام وجدوا أنهم غير قادرين حتى على ابتزازه عاطفياً، مثلاً عن طريق الإضراب عن الطعام أو ادعاء المرض، فهو لا يحمل تجاههم أي التزام. هيمن عليهم بصورة شاملة مستفيداً من أمر آخر: أن أباهم الحقيقي هو من ينفق عليهم المال ويتولى علاجهم وشراء ملابسهم. لذا فإن الحوثيين ما كانوا قادرين على إدارة صعدة بعيداً عن الدولة: الرواتب، الطرقات، الكهرباء، الخدمات الصحية، الاتصالات .. إلخ. كل هذه الخدمات قدّمتها الدولة بينما تكفّل الحوثيون بخلق جمهورية الخوف، لا بخلق الوظائف. بنفس الطريقة يعملون حالياً في صنعاء وباقي اليمن. يبقون على هياكل الدولة، وأشباح الحكومة، وكونشيرتو الشراكة السياسية كي يجلبوا الخدمات، بينما يمارس الحوثيون مهمتهم الأساسية: جمهورية الخوف. الجمهورية الثالثة.

لنعُد إلى الأيام الأخيرة للجمهورية اليمنية..

الجزء الصغير من جبل الجليد الضخم بدا مع مشروع إعادة إعمار أبين. ضاعت عشرات المليارات وبقيت الخرابة ماثلة للتاريخ. اختفت الصناديق وبقي خراب أبين يقف على رأسه محمد ناصر. بالنسبة لوزير الدفاع محمد ناصر فشهيته لا تزال مفتوحة. انتقل من أموال الإعمار إلى أموال اللجان الشعبية. تدفقت المليارات مرّة أخرى إلى محمد ناصر، لكنه سرعان ما اصطدم بصخر الوجيه. ساءت علاقة الرجلين، على وجه التحديد بعد تقديم وزارة المالية لمشروع إصلاح المؤسسة الاقتصادية ووضعها تحت رقابة البرلمان والجهاز المركزي للرقابة والمحاسبة ووزارة المالية. قدم الوجيه هذه الفكرة إلى مجلس الوزراء واستطاع أن يحصل على "مشروع" قرار. سبق أن نشرت الوثائق المتعلقة بهذه التفاصيل على صفحتي وفي صحيفة المصدر قبل أشهر. قبل ذلك تواجه الرجلان، صخر وناصر. قال صخر لناصر إن سعيه للحصول على أموال اللجان الشعبية بلا كشوفات ولا أسماء ولا أرقام يعتبر "سرقة". رد عليه ناصر ببلادته الشهيرة: أنتم يا شماليين علمتونا السرقة. لكن صخر سكعه بالحقيقة الكاملة: السارق من بيته ما يحتاج تعليم.

رويت لي هذه القصة من ثلاثة مصادر مختلفة، وكانت متطابقة. حكموا على صخر بمغادرة صنعاء، وبقي محمد ناصر يقول إنه تعلم من الشماليين السرقة لكنه لم يكن يسرق سوى الجنوبيين. تطوّر ناصر بعد ذلك وأصبح يسرق حتى نفسه.

كيف حدث ذلك؟

عندما منحوه رشى مالية ذهب إلى قرية في شبوة ليطرد القاعدة ويعيد كرامة الدولة على تلك القرية. وعندما منحوه رشى أخرى امتنع عن الدفاع عن صنعاء والحفاظ على الجمهورية. في أسوأ ظرف تاريخي كابدناه كان لدينا وزير دفاع يستخدم الجيش للإيجار. وبالرغم من أننا كشعب يمني نعتبر أكثر جهة دفعت أموالاً لهذا الجيش إلا أن كل ذلك لم يفلح.

كان ناصر حتى منتصف التسعينات مسؤولاً للتموين العسكري وهي كلمة يقصد بها مخصصات الجنود من الفول والكُدم وأشياء أخرى أقل حجماً. سبقه رجل عسكري اسمُه الرويشان، ذائع الصيت، يتذكره الجنود بأسوأ الكلمات. لكن ناصر كان شيئاً آخر، أكثر جلالاً وهيبة، وأوسع صيتاً. يروي سياسي مقرّب من صالح عن الوزير ناصر: كان صالح يطلق عليه لقب سارق الفول، فقد اشتهر بسرقة التموين العسكري. وقبل سنوات رفعه لدرجة وزير للدفاع ضمن نفس اللعبة التي يخادع بها الجنوبيين. لم يكن وزيراً للدفاع فقد كانت الوزارة تتبع كلاً من علي محسن وأحمد علي، لذلك بقي محمد ناصر وزيراً للفول. يضيف الرجلُ: كان صالح يطلق عليه وزير الفول، أما ناصر فكل الفول هو الشيء الذي يشغله عندما تتعلق الأمور بالقوات المسلّحة.

قدم محمد ناصر من "بدروم الفول" إلى قيادة القوات المسلّحة. نظر إلى الجيش اليمني بوصفه كراتين فول فسرقها أو باعها في الظلام. لم يكن جنرالاً عسكريّاً، فقد قضى آخر ربع قرن من الزمن اليمني في "المخازن" يعُد الكراتين ويستخدم الآلة الحاسبة.

لقد فعل ما هو أسوأ من ذلك. كان يلتقي قيادة الحراك الجنوبي ويعدهم بالاستقلال، وكان يجلس أوقاتاً طويلة إلى "حيدرة مسدوس" منظر الحراك الجنوبي، بينهما قرابة نسب، ويهز رأسه كما لو أنه قد فهم ما يقوله المثقف الحاذق. انتظر منه الشمال أن يحمي صنعاء، وانتظره الحراك ليعلن الاستقلال فخان الجهتين.

طبعاً، فقد عاش آخر ربع قرن، 25 عاماً، يفعل ما أهو أكثر بشاعة: لقد سرق الجنود الفقراء، سرق حتى لقمة الفول، وليس هناك ما هو أشد بؤساً من هذا.

لكن هذه القصة القادمة لا تقل أهوالاً:

عقب عودة هادي من السعودية، بُعيد سقوط عمران، رأس الرجل جلسة مجلس الوزراء. يحدثني مسؤولٌ رفيع حضر اللقاء. كان هادي هادئاً كعادته، ومطموساً. قال لهم ضمن كلام فارع الطول إن الملك منح اليمن 2 مليار دولاراً عبر وزارة المالية السعودية، وملياراً من حسابه الخاص. وأنه أصدر توجيهاً بربط المحافظات اليمنية الشمالية والشرقية بمحطات الكهرباء في جنوب المملكة السعودية. اتفق مع هادي على 400 مليون دولاراً توضع في حساب خاص بالشحنات النفطية. يسرد هادي باقي الحكاية: سألني الملك ما إذا كنتُ جاداً في مواجهة الحوثيين فأجبته إننا جادون لكنا لا نملك الإمكانيات وليس لدينا سوى بضع طائرات عسكرية حديثة بحاجة إلى ملايين الدولارات لصيانتها وتأهيلها. طبقاً لهادي فإن الملك بعد سماعه لهذا الجزء من كلام هادي قرّر دعم اليمن بمبلغ 700 مليون دولاراً للتجهيز العسكري. قال أيضاً إن الطيران السعودي سيكون متواجداً للدفاع عن صنعاء في الوقت المناسب إذا ما اتخذ قرار سياسي يمني بذلك.

كان هادي هو الشخص الذي سرد لمجلس الوزراء هذه القصّة.

لدى رئيس الوزراء السابق، باسندوه، رواية تكميلية:

تأخر الدعم السعودي، بما في ذلك أموال التجهيز العسكري والربط الكهربائي، بسبب إصرار كل من هادي وناصر على فتح حسابات موازية لاستقبال أي دعم قادم من السعودية وهو أمر أصاب السعوديين بالخذلان.

التاريخ وحده سيؤكد ما إذا كانت هذه المرويات دقيقة، ومدى دقتها.

قال هادي، وناصر، إن الجيش لا يملك الإمكانات لحماية العاصمة. جاء الحوثيون وسرقوا 10% فقط من الإمكانات العسكرية المتواجدة في صنعاء ليسقطوا بها بقية اليمن!

الرجل الذي عمل ربع قرنٍ في سارقاً للفول ليس رجلاً سويّاً.

أما "سلومة الأقرع" ونكتة مجالس صالح فقد ساقته الأقدار ليسوقنا إليها!

أسقط الحوثيون اليمن، شمالاً وجنوباً. أصبحت كلها تحت سيطرتهم حالياً، ولزمن طويل. الأحاديث التي تتجاوز هذه الحقيقة التاريخية هي كلام للعلاج الذاتي. قلتُ قبل شهر من الآن إن الحوثي لن يقبل أي صلح حديبية على مداخل صنعاء. وكتبتُ قبل شهرين إن إيران سئمت من جبال صعدة فلديها ما يكفي من الجبال، فهي تريد الآن ما هو أكبر من ذلك.

في صنعاء تكدّست كل النخب، بما فيها النخب المالية. قال هادي أكثر من مرّة إن صنعاء مدينة كل اليمنيين. الحوثيون يدركون هذه المعلومة على نحو مختلف: لقد أخذوهم رهائن، وهكذا ضمنوا "شرور" بقية اليمنيين. عبر الجيش والأمن وشبكات التجسس "يتجسسون حالياً على برنامج واتس أب" والمنافذ البحرية والجوية والبرّية، كما عبر المالية والخدمة المدنية والإعلام، فضلاً عن "الشخصيات المفتاحية" في كل المحافظات، والضغط الأمني والنفسي على النخب الثقافية والمالية والسياسية المتواجدة في صنعاء هيمن الحوثي على كل اليمن.

أشد درامية من كل هذا: أي حركة احتجاج أو مقاومة شعبية، في تعز مثلاً، ستجيّر على حزب الإصلاح وقياداته في صنعاء، أي على الرهائن! سيجري الضغط على أعصاب الرهائن في العاصمة للتدخل، وستفعل. كما سيجري ضغط مماثل على نخب اقتصادية أو ثقافية في صنعاء بوصفها داعمة بشكل أو بآخر لأي احتجاجات طرفيّة، في الأطراف، وسينتهي كل شيء.

صمدت دمّاج 300 يوماً ولم يتجاوز صمود صنعاء 300 دقيقة. سيتذكر التاريخ أن وزير الدفاع ورئيس الأركان أصدرا بياناً إلى القوات المسلّحة عشية الغزو يطالب كل التشكيلات العسكرية بعدم مغادرة ثكناتها!

وأن رئيس الجمهورية كان في قصره يتحدث إلى الشركاء الدوليين وهم يسألونه بفزع عن الذي يجري في صنعاء وكان يرد عليهم بصوته الخرساني المعروف: مناوشات بين الإصلاحيين والحوثيين كالعادة! إذ كان أكثر ما يثير قلقه هو احتجاج الحوثيين، ضمن مشروع الاستسلام والشراكة، على مادة "نفقات الرئاسة". بيد أن هادي كان حاسماً في الأمر، فقد خضع الحوثيون أخيراً ووافقوا على "لامحدودية نفقات الرئاسة". بعد موافقة الحوثيين على هذا الجزء من وثيقة الاستسلام خرج هادي إلى الشعب اليمني في خطابه البمبي الشهير: صنعاء لم تسقط، ولن تسقط.

كان يقصد نفقات الرئاسة.

بالنسبة لناصر كانت صنعاء آخر كرتونة فول بيع لسمسار في الظلام.

أما هادي فلا يزال حتى اللحظة عارياً أمام المرآة يتلهّى بذاته، محبوساً داخل مركبه الأوديبي المهيمن .