نبي في السوق!
بقلم/ د. محمد جميح
نشر منذ: 7 سنوات و 7 أشهر و 4 أيام
الجمعة 28 إبريل-نيسان 2017 08:51 ص

كان محمد النبي يقضي وقتاً طويلاً في التأمل كما تقول سيرته، كان يحب الخلوة، يذهب إلى الجبال، يراقب الصحراء، يفكر في حركة الريح، يتأمل السماء، يطيل النظر إلى النجوم. وكان يرنو إلى الأفق، كمن يترقب شيئاً غامضاً بكثير من الشوق وقليل من الخوف في الوقت ذاته.
كان بناؤه السيكولوجي عالماً من الرؤى والأحلام البعيدة المسافرة، كان من أولئك النفر الذين يمتلكون مقومات روحية عالية، تصل بهم شفافياتهم الروحية إلى درجة مخاطبة الكائنات الروحية، والحديث «بخبر السماء»، كما كانت قريش تقول.
لم تكن «صورته الشخصية» تشبه صورته الحالية لدى كثير من أتباعه وخصومه، حيث أهيل عليها الكثير من غبار التاريخ، وأهواء الروائيين، كان شخصاً استثنائياً، رُفع إلى مصافّ النبوات العظيمة، ملتحقاً بأهل الحضرات الكبار مثل إبراهيم الذي كان رائياً نبوياً، وفيلسوفاً عظيماً، وموسى الذي ذهب بنبوته إلى تخوم الثورة، والتحرر الشعبي، والمسيح الذي جاء حكاية إعجاز، وذهب قصة دهشة. لكن دعونا نعود إلى ملامح ذلك العربي القادم من الصحراء! كبقية رجال الصحراء، ينام بعد الغروب، يقوم من الليل يتمتم بصلوات بينه وبين الملأ الأعلى، يصحو قبل الشروق، يذهب إلى المسجد، ثم يعود ليتكئ في بيته على الحصيرة، ويظل يراقب الفجر وهو يتولد من رحم الظلمات.
كان في محمد من شيم الصحراء فراسة البدو، وإباء الفرسان، وكان فيه «توسُّم» الرجل العربي الذي يعرف كيف يمشي في بحر من الرمال، ويصل إلى هدفه على أضواء النجوم، في ليالي الصحراء كان محمد يعرف هدفه.
كيف استطاع هذا الرجل/المعجزة أن يخرج من الصحراء ليصل إلى مشارف العالمية؟ إنه العربي الوحيد الذي صرخ في البريَّة يوماً لتصل صرخته إلى كامبردج وأكسفورد وهارفارد، والوحيد الذي ذهب وما يزال الجدل يحتدم حول شخصيته ومنهجه وفكره ورسالته وروحه. هو بحق مالئ الدنيا وشاغل الناس!
غالباً ما يتميز الأشخاص بجانب واحد أو اثنين من جوانب الإبداع الشخصي، فالشاعر مثلاً يكون ناقداً ضعيفاً، والروائي لا يكتب الشعر، ولا يستطيع الملحن أن يغني في أغلب الأحيان، وهؤلاء لا يمكنهم- غالباً -أن يكونوا ساسة عظاماً، أو قادة عسكريين، أو فرسان حروب، أو أهل حكمة وتصرف سديد. لكن محمداً كان رقيقاً حد الإحساس للطيور، وقوياً حد الصمود أمام السيوف.
كان رجلاً يحترم كلمته، ويدافع عن معتقده ويستبسل في مواجهة خصومه، وكان حكيم التصرف، حازم الأمر جمع قدرات القيادة والسياسة والخبرة.
الذي يدهشني على المستوى الشخصي في النبي أنه كان شخصية طبيعية منسجمة مع نفسها، وكان إذا أمر بأمر بدأ هو بتنفيذه، وكان شخصية مركبة من جوانب كثيرة لا يمكن حصرها، لكنها جوانب منسجمة غير متنافرة، أضْفَتْ على صورته سمتاً بهياً، ينعكس من أعماقه الهادئة المطمئنة حتى في أحلك اللحظات.
والمدهش حقاً أنه كان رسولاً روحياً كبيراً من أهل السماء، وكان قائداً فذاً ينتمي للأرض، كان يصوم حتى لا يكاد يفطر، وكان يقبل على لحم الكتف بحب، وكان يصلي أغلب الليل، وكان يحب النساء، ويلاعب الأطفال، ويحدث أصحابه عن حلاوة الحياة وخضرتها.
أعطى روحه حقها، ولم ينس «حظه من الدنيا»، ولم يستح من طبع فيه، ولذا عاش متصالحاً مع نفسه ومع من حوله، ومع الله.
قال المفكر الفيلسوف لامارتن لامساً جانباً مثيراً في شخصية النبي التي جمعت مواهب لا يمكن حصرها في شخصية أخرى: «النبي محمد هو النبي الفيلسوف، والمحارب الخطيب، والمشرع قاهر الأهواء، وبالنظر إلى كل مقاييس العظمة البشرية أود أن أتساءل هل هناك من هو أعظم منه؟».
أراد بعض أصحابه -يوماً- أن يقدسوه، فقال: «لا تُطْروني كما أطْرَت النصارى عيسى بن مريم، فإنما أنا عبدالله ورسوله».
شخصية صافية، يأتي عمقها من بساطتها، كما تأتي سطحية كثير من الشخصيات من تعقيداتهم النفسية وتلوثاتهم الذهنية.
تصوروا لو كان النبي مثلاً يعيش اليوم في لندن، أما كان سيذهب معنا إلى «آزدا» و»موريسون» و»تاسكو»، ويدخل معنا مطاعم «البيتزا» والهامبرغر»، تماماً كما كان يمشي في سوق «بني قينقاع»، ويأكل من طعام اليهود، وكما وصفته الآية: «يأكل الطعام ويمشي في الأسواق»؟
بالمناسبة، هل رأيتم حاكماً عربياً يدخل مطعماً شعبياً، كما كان النبي محمد يفعل عندما يذهب إلى وجبة شعبية أعدتها له «أم سليم الأنصارية»؟ وهل هناك اليوم «رجل دين» يمدد رجليه ويطرب لجاريتين تغنيان في بيته وهو بين أهله، كما فعل النبي عندما كان عند عائشة ومغنيتان تغنيان لها يوم العيد؟
لسنا بالطبع بحاجة إلى أن نلبس نبي الإسلام الكرفتة أو «البدلة الإفرنجي»، هذا ليس الغرض، سيظل نبي الإسلام يزهو بعمامته العربية، وجُبّته اليمانية، لكننا بحاجة إلى أن نعرف أنه لو عاش بيننا اليوم لمارس حياته الطبيعية في حدود شريعته السمحة، بكل أريحية، ولما ميزه عنا شيء في طعام أو شراب أو لباس أو هيئة.
عندما نتجرد من قراءة سيرة النبي إلى قراءة شخصيته، من قراءة تاريخه إلى قراءة حاضره، من قراءة حكاياته إلى إلى الإصغاء له، عندما نتجاوز حجارة ضريحه، إلى الالتحام بروحه، حينها سنكتشف أننا حقاً أمام شخصية استثنائية لا تتكرر في التاريخ. وسنصاب بالدهشة ونحن نقارن بين الصورة التاريخية «الممنتجة» لمحمد النبي، والصورة «الواقعية» التي نجدها في القرآن لرجل ارتجف عندما لامسته السماء لأول مرة، وذهب خائفاً إلى زوجته، قبل أن تُعمّده السماء متحدثاً رسمياً باسمها، ومبلغاً دعوتها للعالمين.
كنت مرة مع البروفيسور ألان سافتز أستاذ الكلاسيكيات في جامعة ليفربول، وكان كثير التحامل على النبي. ومرة قال إنه «نبي بدوي» يريد أن يجعلنا في القرن الحادي والعشرين ننظف أسناننا بـ»جذور أشجار الصحراء» الممتلئة بالتراب والحشرات. قلت له: لماذا تنظر للأمر من هذه الزاوية؟ كان الأولى أن تنظر إلى شخصية رجل نظيف يستعمل «فرشاة الأسنان» في القرن السابع الميلادي، قبل أن تعرف أوروبا شيئاً عن «الكولجيت والسنسوداين». إن البروفيسور سافتز هنا يشبه أولئك الذين يريدون أن يحاكموا النبي وفقاً لـ»معاهدة جنيف» لحقوق الإنسان، ناسين أنه عاش قبلها بقرون، وفي ظروف تاريخية مغايرة.
ومع ذلك فإن فكرة سافتز عن «تنظيف الأسنان بجذور أشجار الصحراء» في القرن الحادي والعشرين، وتصدير ذلك على أنه أمر نبوي، يعكس أزمة «الفكر الاستشراقي الغربي»، كما يعكس مشكلة «التأويل الراديكالي الإسلامي»، على حد سواء في نظرتهما للنبي محمد. وبهذه النظرة يظهر النبي متخلفاً كثيراً عن حضارة القرن الحادي والعشرين، بدلاً من أن تصوب زاوية النظر، ليظهر النبي في حقيقته رائداً رسالياً في القرن السابع الميلادي.
أما نحن فإن إحدى مشكلاتنا في فهم شخصية هذا النبي الكريم أننا أخذنا سيرته بالتلقين، وتعودنا على سماع ملامح شخصيته من الخطباء المجلجلين، والمؤرخين الحكواتيين، فغابت عنا شخصيته الحقيقية، في عمقها وثرائها، في قوتها وإدهاشها، في شعورها النبيل، وعاطفتها الجياشة، ودفئها الحميم، في بعدها الميتافيزيقي، وحضورها الفيزيائي، أو لنقل في البعد الذي يعكس «محمداً النبي»، والآخر الذي يظهر «محمداً البشر»، في انسجام مثير للبعدين عبّرتْ عنه الآية القرآنية «…إنما أنا بشر مثلكم يوحى إلي…».
ونحن نتابع اليوم «رجال دين» كذابين يحاولون أن يوهموا العامة بأن لهم قدسية معينة، أو أن لديهم علماً لدنياً، كي يجعلوا العامة ينساقون وراءهم في شيء من الطاعة العمياء، نتذكر الموقف العظيم الذي وقف فيه أعرابي يرتجف بين يدي النبي من مهابته، فرد عليه بقولته الشهيرة : «هون عليك، إنما أنا ابن امرأة من قريش، كانت تأكل القديد بمكة».
تصوروا أن هذا الرجل العظيم تأتيه قريش وتعرض عليه أن يكون ملكاً عليها ليسود العرب، لكنه رفض السلطة السياسية، في سبيل أفكاره ومعتقداته، أو لنقل بلغة القرن السابع في سبيل «رسالته ودينه».
يقول الشاعر والفيلسوف الألماني غوته: «لقد بحثت في التاريخ عن مثل أعلى للإنسان فوجدته في النبي العربي محمد».
أخيراً: لا تقلقوا لكثرة الغبار الذي أُلقيَ على صورة محمد، فقد عودنا أن يخرج دائماً من تحت الركام بهياً مبتسما.
سلام الله على روحه الخالدة.