التأويل… رحلة الأصل إلى الصورة
بقلم/ د. محمد جميح
نشر منذ: سنتين و 10 أشهر و 17 يوماً
الخميس 06 يناير-كانون الثاني 2022 06:04 م
 

من المسلمات أننا لا نتعاطى مع الواقع كما هو، بل كما نراه، وما نراه نحن قد لا يراه غيرنا بالهيئة ذاتها، أو قد لا يرونه بتاتاً، والنجيمة الصغيرة التي نراها بالعين المجردة تبدو مختلفة في عدسات التلسكوبات العملاقة، وهذا يعني أن الواقع يُنقل إلينا بطرق مختلفة، ويعني أن الحقيقة قد تأخذ ألف صورة، وأن التأويل هو وسيلة الذهن في التعاطي مع المرئيات والمقروءات، وأننا في الواقع نتعامل مع صور ذهنية للأصل الخارجي، أنتجها لنا تأويلنا الذاتي للعالم.

والتأويل هو طريقة إدراك الموجودات ومنهج تلقي النصوص، وهو الميكانيزمات التي تتشكل وفقاً لها – وعن طريقها – الصور الذهنية التي تشكلها أذهاننا عن الناس والأشياء والنصوص والفنون المختلفة، حيث لا يخلو التأويل من العوامل الذاتية التي تسهم في إعادة إنتاج الوجود الخارجي في صور ذهنية ضمن العالم الداخلي لنا.

نحن عندما نحب ـ مثلاً ـ فإننا نحب «الصورة التأويلية» للمحبوب، الصورة التي شكلناها نحن بأشواقنا وأحاسيسنا وتصوراتنا وأفكارنا عن الحب والحياة والناس والعالم، الحب ينتج عن تأويل ذهني لماهية المحبوب، هذا التأويل هو الذي رأى الفيلسوف الألماني مارتن هيدغر أنه يصعب فصله عن العلائق التي تربط الذات بالموضوع، وهو الذي بموجبه يتوارى المحبوب ليطل من قصيدة، ويحتجب الموصوف وراء الصفة، ويتجلى الأصل في الصورة التأويلية التي تقترب في شبهها من المصور الفنان بالقدر نفسه الذي يحاول به هذا الفنان أن يجعلها تقترب من الأصل الذي يريد تصويره، وهذا بالطبع يحدث في لحظة كتابة القصيدة، أو رسم اللوحة، أو ابتكار النغمة، أو تجلي الفكرة، حيث تسقط الحدود الفاصلة بين الصورة والأصل من جهة وبينها وبين المصور من جهة أخرى، ليتم إنتاج عالم آخر يعانق الخيالُ فيه الحقيقة، فتخرج لنا القصيدة واللوحة والنغمة والفكرة، ونصل إلى المقام الذي وصل إليه سعدي الذي طرق الباب وفتح له الحبيب، وقال: «ادخل يا أنا» وهي الحال التي جثا فيها نرسيس يحدق في صورته في الماء فعشقها ومات عشقاً على شط البحيرة.

إن ابن الملوح ـ على سبيل المثال ـ لم يكن يحب ليلى العامرية، الفتاة البدوية التي كانت ترعى شويهاتها في بوادي نجد، ولكنه أحب صورتها التأويلية في ذهنه هو، أحب خياله وفكره وتصوراته، وظل قيس يحب ليلى، لأنه كان عاشقاً كبيراً ومصوراً بوهيمياً ومجنوناً استثنائياً.

ودافنشي الذي رسم الموناليزا في فضاء لوحة، وأبو الطيب المتنبي الذي رسم سيف الدولة في فضاء قصيدة، كلاهما قام بعملية تأويلية تحول بموجبها سيف الدولة والموناليزا من كائنات ملموسة في العالم الخارجي إلى رموز لغوية في صور تأويلية جوَّانية، أقرب ما تكون إلى الرسام والشاعر منها إلى الحقيقة التاريخية للموناليزا وسيف الدولة، أو لنكن أكثر دقة بالقول إن في الصورتين التأويليتين شيئاً من الموناليزا وسيف الدولة من جهة، وفيهما شيء من دافنشي والمتنبي من جهة أخرى.

ثم جاء النقاد الذين درسوا لوحة الموناليزا وقرؤوا قصيدة «واحرَّ قلباه» فقاموا بتأويل نقدي للتأويلين: الفني والشعري، ثم جاء نقاد آخرون في الفن التشكيلي والنقد الأدبي ونقدوا النقد، وقاموا بتأويل آخر، وهكذا تستمر عمليات التأويل في صيرورة مبدعة «يتكشف من خلالها الوجود» بشكل مدهش من خلال اللغة التأويلية حسب رؤية هيدغر في «الوجود والزمان».

إنه التأويل، وشيكسبير الذي رأى الحبيبة كيوم صيف، والسياب الذي رآها على صورة عشتار، والشابي الذي رأى فيها فينوس، والشاعر القديم الذي أوَّل وجه حبيبته بالقمر، والذي رأى في القمر فتحة مستديرة إلى الغيب، والذي رأى القمر كائناً أسطورياً يحرس الليل، كل هؤلاء كانوا صادقين فيما قالوا، على المستوى الشعوري لأن الأوصاف وإن لم تكن مطابقة للأصل فإنها مطابقة للصورة الذهنية التأويلية، إذ أن الشاعر في لحظة العشق لا ينظر إلى المحبوب، ولكن إلى صورته التأويلية الذهنية، ومعظم الأوصاف كانت في الصورة لا الأصل، وفي الصورة شيء كثير من الذات الشاعرة ومن الأصل كذلك، وفقاً لمنهجية هانز غدامر في مفهومه عن «دمج الآفاق» الذي بموجبه يندمج أفق الماضي بالحاضر، والذات بالموضوع، والشاعر باللغة والفنان باللون، لتشكيل رؤية جديدة ومفاهيم مختلفة تستمر بها الحياة.

والشاعر الكبير المتنبي قال يوماً لسائل سأله عن تأويل بعض أبياته: «اسأل الشيخ الأعور (ابن جني شارح ديوان المتنبي) فإنه يعرف ما قصدت وما لم أقصد». المتنبي هنا يعي أن ابن جني كان يضفي على القصيدة شيئاً من ذات الناقد، تماماً كما كان المتنبي يضفي على الممدوح شيئاً من ذات الشاعر، ووفقاً لهذا الفهم فإن النص لا يُقرأ وفقاً لشروط إنتاجه وحسب، ولكن وفقاً لشروط التلقي كذلك، ولأن شروط الإنتاج النصي غير شروط التلقي التأويلي، فإن ديوان المتنبي غير شرح الديوان لابن جني، وشرح ابن جني غير شرح الواحدي، وهما غير طه حسين والعقاد.

وبالطريقة نفسها التي يؤوِّل بها الشاعر ماهية حبيبته يؤول العلماء والفلاسفة والمفكرون الوجود والتواريخ والنصوص والرموز والأديان، في عمليات مستمرة تتسم بالصيرورة والتحول والمغايرة في مناهج التأويل، فالتأويل الفيزيائي للكون – مثلاً – تطور بشكل مثير بين نيوتن وأنشتاين وما بعده، تماماً كما أن تأويل قصيدة للمتنبي على أيام الواحدي أو ابن جني يختلف كثيراً عن تأويل مناهج الحداثة وما بعدها، ورغم واحدية النص الديني إلا أن تأويلاته عبر التاريخ لا حصر ولا حدود لها.

إنه التأويل الذي يجعل الدين – مثلاً – طاقة روحية إبداعية سَمَتْ بها أرواح كثيرة على مدار التاريخ، ويحيله إلى طاقة تدميرية خطيرة تدخله في معارك الصراعات السياسية والعسكرية، ويكون بسببها طاقة تفجير طائفي للسلم الاجتماعي بين شرائح المجتمعات المختلفة. إن الدين يمكن أن يكون لقمة في فم نازح مشرد في مخيمات الشتات بتأويل، ويمكن كذلك أن يكون حزاماً ناسفاً يتزنر به متطرفٌ خطير يقتل المئات، بتأويل آخر، تماماً كما يظهر الجرم سماوي الذي لا حدود لأبعاده في صورة نجيمة صغيرة في حجم راحة الكف، دون أن يعني ذلك صغر الجرم، قدر ما يعني صغر العين المجردة.

إنه التأويل الذي يجعلنا أدياناً ومذاهب وآيديولوجيات وثقافات، والذي يجعلنا نقرأ نصاً قراءة ويقرؤه غيرنا قراءة مختلفة، أو نقرأ نصاً في مرحلة عمرية قراءة، ثم نقرأ النص ذاته في مرحلة لاحقة قراءة مختلفة.

وإذا كان النص ثابتاً في شكله اللغوي فإن الفهم متحرك في مدياته التأويلية، وكما أن ثبات النص مطلوب للحفاظ على القراءة من السقوط في اللامعنى، فإن حيوية التأويل مطلوبة للحفاظ على الفهم من الجمود. وبين ثبات الأصل وحركية الصورة نضمن استمرارية التفاعل الحيوي المستمر واللازم لصيرورة الأفكار والآداب والفنون والحياة من خلال التأويل الذي يحدد ملامح حياتنا النفسية والروحية وأدواتنا المادية والسياسية، ومناهجنا الفكرية والأدبية، ومقارباتنا للمرئيات والمقروءات بشكل عام، ذلك أننا لا نتعاطى مع العالم قدر ما نتعاطى مع الصورة الذهنية لهذا العالم في مخيلاتنا، لا نتعاطى مع ليلى قدر تعاطينا مع صورتها الذهنية التي وردت في أشعار قيس بن الملوح العامري.

  • القدس العربي