عندما يثور العلماء على الظلم الاجتماعي
بقلم/ إحسان الفقيه
نشر منذ: 6 سنوات و شهرين و يومين
الإثنين 24 سبتمبر-أيلول 2018 08:22 م
 

الزمان: أعقاب نكبة 48 المكان: سجن الطور بسيناء المصرية الحدث: زبانية المعتقل يسلبون السجناء حقوقهم من الأطعمة الجافة والمُعلّبات. في ظل قَناعةِ السجّان بأن السجين لا يجرؤ على أن يقول له: لِمَ؟ انبرى شابٌ مُشرق الوجه في أوائل الثلاثينيات يخطب الجمعة في رفقائه، يُفجّر فيهم بركان الثورة على الجوْر والظلم، وما إن انتهت الصلاة حتى قادهم إلى مظاهرة داخلية ردّدوا خلالها: «تسقط اللصوصية المُنظَّمة.. تسقط سياسة التجويع» فما كان من الزبانية إلا أن استجابوا لمطالب المعتقلين.

لم يكن ذلك الثائر سوى العالم والمفكر الإسلامي محمد الغزالي، الذي قضى سنوات عمره في مواجهة الطغاة والمستبدين، يفضح المؤامرات التي تُحاك بجُنْح الليل، ويُلقِمُ الحجرَ كلَّ من أطلق لسانه في ثوابت الأمة، يُجدد في الفكر الإسلامي ويبرز وسطية الدين، واستنقاذه من خِضم الآراء الشاذة، يُواجه المحتلين الوافدين منهم والنابتين من تربة الأوطان.

وقد يظن من لا اهتمام له بكُتب الغزالي أنه تحرّك في السجن بدافع الحال ولا ينمُّ ذلك عن نزعة لدى الشيخ في مواجهة هذا الشكل من الظلم، غير أن من يطالع كتبه ويبحر بين سطوره، سيدرك من دون عناء أن الغزالي اهتم اهتمامًا بالغًا بقضية العدالة الاجتماعية، والتنديد بالظلم الاجتماعي، وسلب خيرات الشعوب وتجويع الناس وإقناعهم بالدون، وكان دائم الصرخات في وجوه المستبدين بسبب قسوتهم على الطبقات الفقيرة وسطوتهم على الكادحين. لم يكن الغزالي من طائفة العلماء التي حصرت خطابها في إصلاح النفس وحمْلها على مكارم الأخلاق والترغيب في الآخرة، فهو يرى أن الظلم الاجتماعي وغياب العدالة الاجتماعية عائق صلب أمام تمسُّك الناس بدينهم، بل كان يرى أن كل دعوة تُحبّب الفقر إلى الناس أو تُرضيهم بالدون من المعيشة، أو تُقنعهم بالهُون في الحياة، أو تُصبّرهم على قبول البخس والرضا بالدنيّة، هي دعوة فاجرة يُراد بها التمكين للظلم الاجتماعي وإرهاق الجماهير الكادحة في خدمة فرد أو أفراد.

للغزالي كتاب بعنوان «الإسلام والاستبداد السياسي» ألّفه في حقبة هيمنت فيها الديكتاتورية والاستبداد، وعملت على اجتثاث كل نبتة إصلاحية تُعرف الناس بحقوقهم، وهاجم فيه خصائص الحكم المطلق، ليس فقط لما يمارسه من مظاهر الاستبداد السياسي، ولكن للسَرَف الشديد على شخص الحاكم وزمرته ومن يواليه، والذي يعد أبرز خصائص هذا الحكم، حيث لا يبالي المُستبد من أين يأخذ المال أو يضعه، وقطعًا يقع عبء هذه النزوات على خزانة الدولة.

لقد كان همّ الغزالي إحياء وعي الناس وتبصيرهم بحقوقهم وبيان طبيعة الصلة بين الشعب وحاكمه، فهو موظف لديهم قائمٌ على رعايتهم وحفظ مصالحهم، ويُشدّد الغزالي النكير على أولئك الذين يعتبرون ثروات الشعوب حقًا وإرثًا لهم، فتراه يقول: « ترى رجالا من الحاكمين بأمرهم، لا يزالون يعتبرون المال العام ملكا خالصا لهم.. وكانت بعض الدول البترولية تعتبر أن منابع البترول ليست للشعب، وأن إنتاجها الهائل يُباع لحساب حكامها».

وبيَّنَ نظرة الإسلام لحق الحاكم في المال، وهو ما استقر في إدراك الخلفاء، ومن ذلك أن عمر كان يرى نفسه على أموال المسلمين كولي اليتيم، إن احتاج أخذ قدر حاجته، وإن استغنى استعف، غير أن الغزالي لم يُطالب الحكام بهذه الصورة المثالية، وإنما دعاهم إلى «سددوا وقاربوا». وبخلاف الكثيرين من علماء عصره، كان دائم التشهير بالمفسدين والمرتشين في عصره، فتراه يتناول الاختلاسات التي وقعت في قضية استيراد الأسلحة من الصحراء الغربية في حرب فلسطين، وقضايا التموين الخاصة بصفقات الذرة السودانية والشاي ونحوهما، ويتناول الاختلاسات التي تمت في وزارة المعارف ومخازن وزارة الصحة، ونحو ذلك مما قد يستغربه البعض أن يكون ذلك من صميم اهتمامات عالم في الشريعة. ويهاجم الغزالي رأس المال المُتغول الذي يقوم بتوسيع الثغرات الاجتماعية وإهدار الحقوق الأدبية ويخطف ثروات الشعوب، وأنه متى كان رأس المال بمنأى عن النهب والحيف على الطبقات الكادحة فإنه في هذه الحالة يصلح أساسًا لجماعة إنسانية كريمة.

إن تجاهل العلماء والدعاة للعدالة الاجتماعية وقضايا الظلم الاجتماعي جريمة في حق الأمة، فالشعوب من فرط الاستبداد وطول أمده، تأصلت فيها النظرة إلى الأموال والثروات العامة على أنها لا تملك منها شيئًا إلا ما يتساقط من جراب الحكومات، وألِفَ الناس حيازة الحكام والوجهاء لمُقدرات البلاد حتى أصبحت قلوب العامة لا تنكر ذلك بمرور الزمن، فرضي الناس بالدون وارتضوا لأنفسهم العيش على هامش الحياة، ومن ثم تبلد حسّ الكفاح والعطاء، بل يقع على عاتق هؤلاء العلماء تبصير الناس بحقوقهم، أما الاقتصار على وعظ الناس وحثهم على الصبر على شظف العيش، من دون التطرق للأسباب الرئيسية التي أفقرتهم وهي ظلم الحكام، فهذا من شِيم علماء السلطان الذين يبررون للمستبد سطْوَهُ على الثروات، فعن هؤلاء المُتصدرين للمنابر والمحاريب يقول الغزالي، إن الإسلام قد خسر فيها الكثير من المعارك، لأنهم يصورون الذي يحارب الظلم الاجتماعي والاستبداد السياسي على أنه رجل مُتكبر طائش يعيش في محراب نفسه. لقد كان من جراء هذا المسلك أن صار الناس يزرعون قمحًا ويأكلون تبنًا، يبنون القصور ويفترشون الغبراء، حين تكدست الثروات في يد ثلة متسلطة لم تأخذ هذا المال بحقه، بل بالانقضاض على الثروات العامة، والله غالب على أمره ولكن أكثر الناس لا يعلمون.

# كاتبة أردنية