بين الدولة والقبيلة
بقلم/ إحسان الفقيه
نشر منذ: 3 سنوات و 3 أشهر و 4 أيام
الإثنين 23 أغسطس-آب 2021 07:18 م
 

لما سُئل المتنبي عن نسبه لم يُجب، وتعلل بقوله: أنا رجل أخبط القبائل، وأطوي البوادي وحدي، ومتى انتسبت لم آمن أن يأخذني بعض العرب بطائلة بينها وبين القبيلة التي أنتسب إليها. هذا له دلالات أهمها تعبير الفرد عن القبيلة وتعبير القبيلة عن الفرد، وهذا بدوره يبرز مدى انتماء العربي لقبيلته، حتى أن الجاحظ ذكر في كتاب «البخلاء» أن العرب إذا وجدت رجلا من القبيلة قد أتى قبيحا ألزمت ذلك القبيلة كلها، كما تُمدح القبيلة بفعل جميل، وإن لم يكن ذلك إلا بواحد منها.

القبيلة، تلك الوحدة الاجتماعية التي كانت معقد الولاء والبراء، وعلى شرفها يذبح الرجال، وفي سبيل صوْن سمعتها تُنشب الحروب، فلم تكن حرب البسوس، ولا حرب داحس والغبراء، ولا غيرهما من الحروب الطاحنة بين العرب، إلا انطلاقا من ذلك الانتماء للقبيلة، الذي يصل إلى حد أن تضيع معه معالم الحق والعدل والإنصاف، فيكفي أن تكون من القبيلة نفسها حتى تشهر من أجل نصرتك السيوف ولو كنت على باطل، وفي ذلك قال قائلهم:

لا يسألونَ أخاهُمْ حين يَنْدُبُهُمْ … في النائباتِ على ما قالَ بُرْهانا

كانت القبيلة هي صورة النظام العربي، ودُورُها أو خيامها، هي الحد الذي يحصر آفاق العربي، ويحصر كذلك شعوره بالانتماء والإبداع أيضا. عندما جاء الإسلام لم يتجه لإلغاء الانتماء للقبيلة، وإنما تهذيبه ووضعه في نطاقه الصحيح المثمر، الذي يسهم في تقوية البناء العام للدولة الإسلامية، وهذا من إحدى خصال الإسلام العظيمة، التي راعت الفطرة البشرية، والانتماء الجِبلِّي للمجموع المحيط، وقد صدق القائل: «إن الأنبياء قد بُعثوا بتكميل الفطرة وتكريرها لا بتبديلها وتغييرها». ولذا أبقى النبي صلى الله عليه وسلم، في الدولة التي قامت في المدينة، على مسميات الأوس والخزرج على ما كان بينهما من حروب طاحنة قبل الإسلام وآخرها يوم «بعاث» الشهير، بل إنه استثمر هذا الانتماء القبلي في استثارة حماس المسلمين للصالح العام، حيث أنه لما عقد الألوية في غزوة تبوك، أعطى راية الأوس إلى أسيد بن الحضير، ولواء الخزرج إلى أبي دجانة، وقيل الحباب بن المنذر، وهذا ما ذكره الواقدي وغيره من أصحاب السير. وكذا فعل خالد بن الوليد في معركة المسلمين مع مسيلمة الكذاب، فقد كثر القتل في المسلمين فقال لهم خالد: «امتازوا أيّها النّاس لنعلم بلاء كلّ حيّ ولنعلم من أين نؤتي» فلما امتاز أهل البوادي إلى قبائلهم قال بعضهم لبعض: اليوم يُستحى من الفرار، وهذه صورة من صور توظيف الانتماء القبلي في عهد الإسلام الأول. إن الانتماء إلى القبيلة فطرة، بل هي إحدى مفردات طبيعة الخلق التي بها يعرف الناس أنفسهم، ويعرفون غيرهم عن طريق الانتساب «يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا» لكن هذه الرابطة وهذا الانتساب لم يكن كافيا لأداء الرسالة التاريخية، فمن ثم اكتملت هذه الصورة للانتماء بتتمة الآية ذاتها «إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ» ومنه جاء البيان النبوي (فلا فضل لعربي على أعجمي ولا أحمر على أسود إلا بالتقوى).

ذلك التوظيف والاحتواء كان سبب بقاء القبائل العربية، تماما كما حافظ الإسلام على لغة العرب، وأمدها بلوازم الخلود وجنّبها الاندثار، ومن هنا تساءل مالك بن نبي عن «مصير القبائل الأمريكية قبل كريستوفر كولومبس أين هي؟ لقد أصبحت أحاديث وتمزقت كل ممزق، ودفنها التاريخ في طياته، حيث استقرت في ضميره نسيا منسيا، ونحن نرى في زوالها وانحلالها خير شاهد على أن الإسلام بما انطوى عليه من قوة روحية، كان للذين يتمسكون به دِرْعا من أن تحطمهم الأيام». هذا التأصيل الشرعي والسرد التاريخي يتعلق بأرقى صورة عرفتها البشرية للعلاقة بين الدولة والقبيلة، علاقة الجزء بالكل الذي يحتويه ويغذيه بما يحفظ بقاءه وبناءه الاجتماعي ويوظفه لصالح الدولة، وعلاقة الكل بالجزء الذي ينتمي إليه ويعقد على رايته العظمى ولاءه وبراءه ويقدمها عند التعارض مع الراية الجزئية. ثم دخلت القبيلة في العصور المتأخرة مرحلة أخرى، إذ قامت عليها ممالك وإمارات كانت هي نواتها، في ما يعرف بحكم القبائل، لتدخل هذه الدول في تحديات جديدة تفرضها حدود الدولة التي تضم أطيافا وقبائل أخرى، فكيف يكون شكل التركيبة الاجتماعية؟ وكيف ستتعامل الدولة مع القبيلة؟

إن على الدولة حتى إن قامت على العصبية القبلية (بمعنى التضامن القبلي) – التي اشتهر بها العرب وتحدث عنها ابن خلدون – أن تستوعب القبائل وتدمجهم في النسيج الاجتماعي، من دون أدنى إنقاص أو إجحاف لحق القبيلة طالما كانت جزءا من الدولة، وعدم التفريق بين المواطنين على أساس قبائلهم وعشائرهم، لأن اللعب في هذه النقطة يعد عامل هدم يفكك اللحمة المجتمعية، ويفقد المواطن شعوره بالانتماء لا شك، ويعرضه لأن يتحول إلى أداة لتنفيذ أجندات خارجية. إن شعور أي مواطن بأنه من الدرجة الثانية أو الثالثة في المواطنة بسبب انتمائه لقبيلة ما، يعيد الضمير القبلي إلى حالته الأولى قبل الإسلام، ويعزز عند أبنائها الاتجاه للتعصب القبلي، وهو عين ما يهدف إليه أصحاب المشاريع الاستعمارية، وقد جاء في بروتوكولات حكماء صهيون ـ وإن كان البعض ينكر نسبته لليهود – قولهم: «بذرنا الخلاف بين كل واحد وغيره في جميع أغراض الأمميين (أي غير اليهود) الشخصية والقومية، بنشر التعصبات الدينية والقبلية خلال عشرين قرنا». ولئن كان احتواء دولة الإسلام الأولى للقبيلة قد أوجد نوعا من تكافؤ الفرص في شتى الميادين لخدمة الإسلام والاشتغال بثقافته، فإن عدم احتواء القبيلة اليوم واختزال فرص التكافؤ أمام أبنائها سوف يوجد لا شك ثقافة مخربة عدوانية مشفوعة بتوجهات انفصالية أو استعدائية، تلتمس النصرة من خارج الحدود ومن الأباعد المتربصين.

وعلى الجانب الآخر، فعلى القبيلة أن تعلم علم اليقين، أن حفاظها على الإطار العام للدولة هو أعظم مقومات بقائها ووجودها، وأن تقديم المصالح الكلية للدولة هو أوجب الواجبات، حتى إن افتقدت القبيلة بعض ما تراه من متطلبات العدالة والاحتواء، خاصة في ظل تعقيدات العلاقات الدولية، وكثرة المتآمرين والمتربصين، وأن أي مشكلات بين القبيلة والدولة ينبغي أن تحل وفق الطرق السلمية والمسالك القانونية المشروعة، كأصل ثابت لا محيد عنه. إن تحمّل القبيلة بعض الظلم من أجل تحقيق الاستقرار العام، أهون بكثير من دفع فاتورة الفوضى التي يدخل فيها الجميع حال الصدام، خاصة أن طبيعة الأنظمة السياسية في المجتمع العربي، تفرض عدم التراجع أمام التصعيد غير السلمي، لأنه يؤسس لذاكرة العنف لدى الجماهير، والله غالب على أمره ولكن أكثر الناس لا يعلمون.