ليس خروجاً على الحاكم ولكنه خروج من تعسف الحاكم
بقلم/ أستاذ دكتور/عبدالوهاب بن لطف الديلمي
نشر منذ: 13 سنة و 8 أشهر و 10 أيام
الإثنين 14 مارس - آذار 2011 11:50 ص

الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه أما بعد :

فإلى الذين يتباكون على الحاكم، ولا يعنيهم شأن الأمة، ويستيقظون على الصيحات من الظلم، والأنّات من التعسف ويفسرون على أنّه خروج على الحاكم، ينظرون إلى الجراحات التي أثخنت كل فرد على يد الظالم، فلا تَعنيهم، ولا تحرك فيهم إنسانيّة ولا رحمة ولا غيرة، ينظرون إلى حال السلطان بكل عطف وإشفاق، لا يريدون أن يتغير من ملكه وأبَّهتِه وسلطته، ليظلَّ كما هو في استعلائه، يفعل ما يريد، دون أن يجد محاسباً ولا منكراً ولا مسائلاً له عن تصرفاته مهما خالفت الشرع، والدستور، والقانون، والعرف، والعقل، لأن الكل مسخَّر لطاعته .

لقد نسي هؤلاء أن رسول الله -صلى الله عليه وآله وسلم- كانت تأخذه الغيرة على امتهان الحيوان الأعجم وكان يحذر من إيذائه، فضلاً عن إيذاء الإنسان، فضلاً عن إيذاء المسلم، فضلاً عن سفك الدم الحرام، كل هذا وغيره لا يعنيهم، إنما الذي يعنيهم أولاً وآخراً، هو استمرار الحاكم في حكمه، واستمرار الأمة في ذلها ومهانتها وسلب حقوقها، وليلزم الجميع الصمت، وليقولوا سمعنا وأطعنا لكل حق وباطل، ولكل خسف وضيم، فإذا خالفوا فإنهم أصحاب فتنة، والفتنة في تصور هؤلاء ليست في إذلال الإنسان المكرم، وتعبيده لغير الله، وسلب حقوقه، وإشاعة الفساد والمنكر، والخروج على نصوص الشرع والدستور، إنما الفتنة في نظرهم، والجريمة الشنعاء هي في المطالبة بالحقوق والحريات المسلوبة .

إنَّ الذين أدركوا مرارة الذلّ والاستعباد في الجاهليّة، أدركوا كذلك عزّة الإسلام، وحلاوة الحريّة في ظلّ الإسلام حتى صار أمر الحرية قائما في أذهانهم لا يغيب فقد قال ربيعيّ بن عامر لرستم: ( ابتعثنا الله لنخرج العباد من عبادة العباد إلى عبادة الله وحدة، ومن جُور الأديان، إلى عدل الإسلام...)، وقالها عُمر-رضي الله عنه- لابن عمرو بن العاص: (متى استعبدتم الناس وقد ولدتهم أمهاتهم أحراراً)، وأبى الذين حرموها، إلا أن يظلوا في المستنقعات، قال رفيق العظم في كتابه \\\"كتاب أشهر مشاهير الإسلام في الحرب والسياسة\\\" بعد أن ساق صوراً من عدل الخلفاء الراشدين، قال: (وأنت ترى من هذه الأخبار، إلى أي درجة بلغت حرية الضمائر، وحب العدل بالمسلمين يومئذ، ومنها تعلم أنهم إنما سادوا بقول الحق، وتعشّق الحريّة، واستقلال الضمائر، لا بالذل والخنوع، والتقييد بقيود العبودية، التي ما تقيّد بها قوم إلا ضربهم بالهلاك، وسوّدت عليهم الأمم، كما سوّدت الغربيين الآن على مائتي مليون من المسلمين، اتخذوا رؤساءهم أولياء من دون الله، فقذفوا بهم إلى هوّة الدّمار، وأقفروا من آثار ملكهم الديار) [ج2/384 ].

وإذا كان الذين يسعون إلى استنقاذ الإنسان من الذل والعبودية يلقون عناء، ويقدمون تضحيات، فكل ما يقدمونه من أجل الحرية هين، فإنما يقدمه الإنسان من تضحيات في سبيل الحرية، أهون من التضحيات التي يقدمها وهو مستسلم لذل العبوديّة .

إنهم -كما يزعمون- هم وحدهم الذين يفهمون الشرع ومن خرج عن فهمهم، فهو صاحب فتنة، هكذا يصل بهم الأمر إلى تحريف دين الله وشرعه، والتلاعب بالنصوص، والعودة بالأمة -بقصد أو بغير قصد- إلى الجاهلية التي عبّدت الإنسان للإنسان ونسوا أن الرسل عليهم الصلاة والسلام جميعاً، إنما بعثهم الله تعالى، لهذه الغاية النبيلة العظيمة، غاية إنقاذ الإنسان، من استبعاد الإنسان إلى أن يكون عبداً خالصاً لله تعالى .

إن حفظ النصوص يفتقر إلى فقه النصوص ولذلك دعا صلى الله عليه وآله وسلم لابن عباس بالفقه في الدين؛ وفي تعبيد الإنسان لله وحده يقول الحق سبحانه: (وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ إِلا نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلا أَنَا فَاعْبُدُونِ) [الأنبياء:25 ].

إن شباب الأمة اليوم أيقظتهم لَسَعَاتُ الظلم، وأنَّات الجرحى، وضحايا التعسف من المُتجبرين في الأرض، فأخذتهم الغيرة على الأمة أن يطلقوا الصيحات في وجه كل ظالم، ليقولوا له: نحن هنا، ما تزال بنا نبضات من الحرية والكرامة التي لم تخمدها سِيَاطكُم ولا جبروتكم، إننا نقول لكم :

كفـى.. كفـى.. كفـى

نقولها بملء أفواهنا مستندين إلى قول الله عز وجل الذي كرم الإنسان: (لا يُحِبُّ اللَّهُ الْجَهْرَ بِالسُّوءِ مِنَ الْقَوْلِ إِلا مَنْ ظُلِمَ...)[النساء: من الآية:148]، وقوله: (وَالَّذِينَ إِذَا أَصَابَهُمُ الْبَغْيُ هُمْ يَنْتَصِرُونَ) [الشورى:39 ].

عندما يتفاقم الظلم على فرد أو جماعة بحيث تنتهك كل حقوقها الدينية والدنيوية يصبح من حقها الدفاع عن نفسها والمطالبة بحقوقها المشروعة سواء أكان الظالم لها هو الحاكم الذي عاهد الله تعالى أن يكون حارساً أميناً وراعياً وفياً أو كان غير الحاكم، وقد أجاز الشرع للمظلوم أن يجهر بالسوء الذي يعبر عن مكامن الظلم النازل بالمظلوم ومن ذلك ما جاء في الآيات السابقة، وكذا قول رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم: (ليُّ الواجدِ ظُلم يُحلُّ عِرضَهُ وعُقوبَته)، [رواه أبو داود والنسائي]؛ وقوله: (مَطْلُ الغَنيّ ظُلم...)[رواه البخاري]، والشعوب اليوم قد طال عليها أمد الظلم والكبت والإذلال والحرمان وهي اليوم تنادي بأعلى صوتها بما حل بها من الظلم وما لحقها من العسف، وفي هذه الحال لم يعد الحاكم أهلاً لحمل الأمانة خاصة إذا انتهت مدته؛ ومن المعلوم أنه إذا انتهت مدة الأجير انتهى العقد بينه وبين المستأجر وقد ينتهي العقد قبل نهاية مدته إذا اخل الأجير بشروط العقد والحاكم أجير عند الأمة والعقد الذي بينه وبينهم هو الدستور، والحاكم قد توافر في انتهاء عقده الأمران :

الأول: عدم الوفاء بشروط العقد ونصوصه والعقد الذي بينه وبين الأمة هو الدستور، الذي حلف الحاكم على تطبيقه ثم نقض ذلك .

الثاني: انتهاء مدة العقد التي تستوجب عدم بقائه ولا يملك أحد الطرفين تمديد العقد أو تجديده إلا برضاء الطرفين، والاستمرار في الولاية دون رضا الأمة، يعني بطلان الولاية .

ومما يطعن في صحة الولاية؛ كثرة الكذب على الأمة والمَلِك الكذاب من أقبح الناس منزلة عند الله يوم القيامة، ففي الحديث الذي يرويه الإمام مسلم في صحيحه عن أبي هريرة –رضي الله عنه- أن النبي -صلى الله عليه وآله وسلم- قال: (ثلاثة لا ينظر الله إليهم يوم القيامة ولا يزكيهم ولهم عذاب أليم: شيخٌ زانٍ، وملكٌ كذاب، وعائلٌ مستكبر ).

وفي الصحيحين عن عبدالله بن عمرو بن العاص - رضي الله عنهما- قال: قال -صلى الله عليه وآله وسلم- : (أربع من كن فيه كان منافقا خالصا ومن كانت فيه خصلة منهن كانت فيه خصلة من النفاق حتى يدعها: إذا أؤتمن خان، وإذا حدث كذب، وإذا عاهد غدر، وإذا خاصم فجر)، وفي رواية: (وإذا وعد أخلف)[البخاري:34، مسلم:58 ].

والحاكم اليوم اجتمعت فيه كل هذه الخصال القبيحة :

- فقد أؤتمن على أموال الناس فعبث بها هو ومن حوله .

- وقد عُرِفَ بكثرة الكذب حتى لم يعد الناس يصدقونه .

- وعاهدَ على الالتزام بالدستور فلم يفِ بعهده .

- وهو عند الخصومة يتجاوز الحد في إيذاء خصمه كما يفعل عند سفك دماء الذين يطالبونه بحقوقهم وما يحدث في المحافظات الجنوبية أكبر شاهد على ذلك .

- وأمّا خلف الوعد فحدّث ولا حرج .

ومن كان بهذه المنزلة فهل يصلح على أن يؤتمن على أرواح الناس ودمائهم وأعراضهم وأموالهم بل ودينهم!! ومن علامات الإيمان؛ قوله صلى الله عليه وآله وسلم: (والمؤمنون مَن أَمِنَهُ الناس على دِمائهم وأموالهم) [رواه أحمد، والترمذي، والنسائي ].

وإذا اتفقت الأمة على طريقة الانتخابات لمن يُرشح لرئاسة الدولة وقَبِلَ المرشَّح ذلك والتزم بعدم تجاوز وسائل الانتخابات التي تضمن النزاهة والمتفق عليها بين الأمة وبين المرشّح فإنّه إذا صعد بعد ذلك إلى الحكم بالتزوير، والكذب، وشراء الأصوات بالمال، وتسخير الجيش، والوظيفة، وبالتهديد والإغراء، والإعلام المروج للكذب.. وغير ذلك من الوسائل غير المشروعة والمخالفة لما تم الاتفاق عليه بين الأمة وبين من يرشح نفسه للولاية، إذا حصل ذلك فلا شك أن ولايته باطلة لا تستند إلى حجة، ولا برهان، ولا إلى دستور، ولا قانون، وعلى هذا فطاعته غير واجبه؛ لأنه غش الأمة واحتال عليها بحيل غير مشروعة، وفي الحديث الصحيح: (من غَشنا فليس مِنا) [رواه مسلم]، ورَفْضُ ولايته والمطالبةُ بتغييره لا تعتبر من الخروج غير المشروع على الحاكم خاصة عندما تكون المطالبةَ بوسائل سلمية .

- تحديد فترة الحكم :

وأمّا ما تعارف الناس عليه اليوم من الاتفاق على تحديد فترة الحاكم بزمن معين فأمرٌ يمليه الواقع كما يمليه الاستقراء الذي دل على طغيان الحاكم، وتسلطه، وقهره، وإذلاله للناس، وتسخير الأمة لطاعته في الحق والباطل وكل ذلك مما اضطر الأمة أن تسلك مسلكاً يضمن عدم تجاوز الحاكم للحدود فرأت أن التغيير بات أمراً ضرورياً توجبه المصلحة العامة تجنباً لتكريس الظلم؛ فإن الحاكم إذا عَرَفَ أن مدة ولايته محدودة بزمن معين، فإن ذلك مما يحمله على الالتزام بالواجبات الشرعية والدستورية خاصةً إذا كان يطمع في الترشيح لفترة أخرى. وفي قول أبي بكر الصديق – رضي الله عنه – عند توليه الخلافة: (أطيعوني ما أطعت الله ورسوله، فإن عصيت الله ورسوله فلا طاعة لي عليكم)، ما يدل على بطلان ولايته إذا أمر بمعصية .

- حدود الطاعة المشروعة :

ويجب أن ننبه هنا إلى أنَّ المناداة بطاعة ولي الأمر على الإطلاق دون تقييد ذلك بالمعروف مخالف للشرع الذي جعل الطاعة في حق غير الله ورسوله مشروطة بأن تكون في المعروف، كما أنَّ فيها اعتقاد العصمة في غير الأنبياء، إلى جانب ما يؤدي ذلك إلى تربية الأمة على الذل، والرضا بالاستعباد، وسلب الكرامة، والسكوت المطلق على كل منكر؛ وفي المقابل يؤدي إلى إيجاد الطغيان في نفس الحاكم واستعلائه على الحق واستمرائه إذلال الأمة .

ومن هنا فإنه لابد أن يترسّخ في نفس الحاكم أن أهم وظيفة يقوم بها: هي حراسة الدين، وسياسة الدنيا بالدين؛ والحاصل اليوم خلاف ذلك فالحاكم لا يهمه أمر الدين فهو لا يعمل على نشر الفضيلة، ولا على ملاحقة الرذيلة، بل قد يتجه إلى خلاف ذلك بدليل انتشار المنكرات، وشيوع الفساد بكل صوره، حتى أصبحت عوامل تدمير الإنسان أكثر من أن تُحصى فلا رقابة ولا حساب ولا عقاب وربما كانت مُؤهّلات التوظيف أحياناً الفساد والإفساد، وقد يجد الملتزم بالحق من يعيب عليه سلوكه السوي ويعِيّره لاستقامته على هدي الإسلام، وهذا أمر ينذر بالخطر في المجتمع المسلم الذي يؤول الإسلام فيه إلى مجرد طقوس وتَمْتَمَات لا جوهر له وتغيب عن الأمة الصورة الصحيحة لدين الله سبحانه ويسهل الانحراف، وأمّا سياسة الدنيا فكلها خراب، فكل فرد يتجرّع غصص الحرمان، من كل حقّ، سوى طبقة أعوان الحاكم .

- نظرة الحاكم لحقوق الله تعالى :

لقد أصبح حق الله سبحانه في توجّه الحاكم وفي ممارسة الناس العملية في الدرجة الدنيا بعد حق الحاكم فلو قلت في الحاكم الحق والباطل وداهنت ونافقت ورفعته فوق مستوى البشر لا تجد من الحاكم إلا أن يبارك سلوكك ويؤيدك وقد يدنيك منه أو يجزل لك العطاء كما هو حال كثير ممن يجيدون ذلك اليوم، وقد كان رسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم– ينهى عن مجاوزة الحد في تعظيمه هو وهو سيد ولد آدم، فقد جاء في صحيح البخاري أن النبي -صلى الله عليه وآله وسلم- قال: (لا تُطروني كما أطرت النصارى ابن مريم، فإنّما أنا عبده، فقولوا: عبد الله ورسوله) [رقم:3445]، وفي مسند أحمد: [3/153] أنه قال: (يا أيها الناس عليكم بتقواكم ولا يستهْوينّكم الشيطان، أنا محمد بن عبدالله، عبدالله ورسوله، والله ما أحب أن ترفعوني فوق منزلتي التي أنزلني الله عز وجل)، والإطراء: المبالغة في المدح والكذب فيه .

وإذا كانت هذه هي نظرة الحاكم لنفسه وعلوه فإنك لا تجد في ظله المجال مفتوحاً، لأن تمارس كل شعائر الإسلام إلا في الحدود التي إذا تجاوزتها قيل عنك بأنك: أصولي، أو إرهابي، أو متزمت، أو متشدد، أو تسعى لقلب نظام الحكم؛ ويُرَوّج لمحاربته لأهل الحق بالتخويف من الملتزمين بدين الله عز وجل، تخويف الناس في الداخل والخارج ليوجد لنفسه مسوِّغاً لقمع أهل الحق وإسكاتهم ومحاصرتهم، وقد يصل الحال بالحاكم إلى منع الأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر، إلا في الحدود التي لا تغضب الحاكم ولا تمس من شخصه ولا تتدخل في تصرفاته، مهما كانت مخالِفَةً لشرع الله تعالى وبذلك أصبح المسلم لا يجد في هذه الأجواء مناخاً صالحاً لمزاولة شرائع الإسلام بكل شعبه فهو محاصر، ذا حرية محدودة النطاق، يشعر بالغربة في أهله ووطنه، وقد كان رسول الله -صلى الله عليه وآله وسلم- يهتم اهتماماً كبيراً في بداية الدعوة في مكة بالبحث عن المكان الآمن لأصحابه الذي يملكون فيه حريتهم للقيام بشعائر الإسلام، ولا يشعرون بعبودية لغير الله تعالى، كما كان المكان الآمن أغلى عند المهاجرين من الوطن والأهل والديار، واهتمام الرسول -صلى الله عليه وآله وسلم– بالبحث عن المكان الآمن لأصحابه إدراك منه لأهمية الحريّة التي إذا سُلِبَهَا العبد، عجز عن القيام بحق الله تعالى من العبادة على وجهها، وكذا حقوق العباد، وقد كان يَعْرِضُ نفسه على القبائل عندما اشتد عليه البلاء في مكة أن يحموه حتى بلّغ دين الله تعالى، إلى أن أكرم الله تعالى الأنصار الذين حازوا شرف الإيواء والنُصْرة .

- الوطن في نظر الإسلام :

وما قيمة الوطن الذي لا يملك الإنسان فيه حريته، ولا يستطيع فيه القيام بحقوق الله تعالى؛ حتى بلغ الأمر إلى أن أصبح صاحب رأس المال اليوم لا يملك التصرف بماله إلا في حدود وبمعرفة ولي الأمر !!

وإذا تجاوز الحد المسموح به، فإنه يدخل في الاتهام بإعانة الإرهاب وهكذا شَمَلَ الحصار كل شي في حياة المرء حتى الحركة والعبادة والدعوة إلى الله تعالى... إلى آخر ذلك، وقد ذمّ الله تعالى الذين آثروا الوطن والخلود إليه على القيام بحق الله تعالى، إذ لا قيمة لوطن يسلب فيه المرء حريته ويضيّق عليه الخناق، ولا يتمكن من القيام بحقوق الله تعالى وحقوق عباه على الوجه الأكمل، قال تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا مَا لَكُمْ إِذَا قِيلَ لَكُمُ انْفِرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ اثَّاقَلْتُمْ إِلَى الأَرْضِ أَرَضِيتُمْ بِالْحَيَاةِ الدُّنْيَا مِنَ الآخِرَةِ...)[التوبة: من الآية38 ].

وأثنى على المهاجرين في آيات كثيرة لإيثارهم الله ورسوله والدار الآخرة على كل مألوف في هذه الحياة من دار وأهل ومال، ومن ذلك قوله تعالى: (وَالَّذِينَ هَاجَرُوا فِي اللَّهِ مِنْ بَعْدِ مَا ظُلِمُوا لَنُبَوِّئَنَّهُمْ فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَلَأَجْرُ الْآخِرَةِ أَكْبَرُ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ)[النحل:41 ].

- الحرب على الإنفاق في وجوه الخير :

ومن التعسف في ممارسة الحاكم اليوم وتسلطه على الأمة، أنه لم يعد يقتصر على إهدار حقوق الناس في المال العام والاستئثار به، بل تجاوز ذلك إلى منع الناس من بعض تصرفاتهم في أموالهم الخاصَّة حتى لو كانت في جوانب الخير التي فيها إحياءٌ لمعاني الإسلام مما يدخل في التكافل الاجتماعي، وتقوية روابط الأخوة، والمحبة، والتعاون على البر الذي أمر الله به، ومن ذلك: منع الإنفاق في الدفاع عن الحُرُمات؛ وقد ذمّ الله عز وجل من اتصف بمثل هذه الصفات بقوله سبحانه: (الَّذِينَ يَبْخَلُونَ وَيَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبُخْلِ وَيَكْتُمُونَ مَا آتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ...)[النساء: من الآية37 ].

- جهل الحاكم بشرع الله تعالى :

ومن أعظم أسباب انحراف الحاكم جهله بشرع الله عز وجل فإنّ الحاكم عندما يكون جاهلاً فإنه لا يهتدي إلى مواطن الرشاد ومسالك الحق حتى يَسُوْسَ الناس بالشرع وخاصةً عندما تكون بطانته على شاكلته ولا يلتفت إلى العلم ولا يدرك أهميته، ولذلك لا يشجع عليه ولا يخدمه بل قد يكره أن يتميز عليه غيره بالمعرفة؛ ومن هنا قد يسعى إلى تجهيل الناس عن طريق تجفيف منابع العلم، أو يعطي من الاهتمام بالعلم بالقدر الذي يعذره أمام الأمة؛ ولذلك نرى اليوم وضع التعليم الذي يصدق عليه اليوم أنه تجهيل لكثرة ما أصاب مناهجه من المسخ الذي لا يخرّجْ علماء خاصة عندما يستجيب الحاكم للإملاءات من خارج البلاد بالسعي إلى ما يسمى \\\"تطوير التعليم\\\" الذي يعني هدم التعليم وهذا ما نلمسه اليوم في أحوال مُخرجات التعليم من الانحطاط، وهي أكبر دليل على ذلك، وقد نبّه رسول الله -صلى الله عليه وآله وسلم– إلى ما ستُصاب به الأمة من الابتلاء بمثل هؤلاء الحكام في قوله – وقد سُئِلَ متى الساعة؟ فقال: (إذا ضُيّعت الأمانة فانتظر الساعة) قال: كيف إضاعتها؟ قال: (إذا وسِّدَ الأمر إلى غير أهله فانتظر الساعة) [رواه البخاري برقم: 59 ].

ومن أكبر الأدلة على ضياع حقوق الأمة وعدم الاهتمام بشئونها، سوء استخدام وسائل الحرب، وعلى سبيل المثال: الطائرات الحربية، التي هي في الأصل لحماية الأمة والإعداد بها من أجل مواجهة أي خطر قد تتعرض له البلاد من العدو الخارجي؛ هذه الطائرات لا نرى اليوم من مهماتها إلا إخافة الأمة وترويعهم في غالب الأحوال، بل قد تتجاوز حدود الترويع بأصواتها المزعجة إلا ضرب أبناء الوطن وهدم ديارهم وسفك دمائهم؛ وكم ذهبت دماء بريئة وسفكت خلال الفترة الماضية أشعلها الحاكم الذي يدعي أنه حريص على مصلحة البلاد سواء من دماء المدنيين، أو العسكريين الذين يدفعون إلى حروب ولا يكسبون منها إلا الويلات .

- الاختلال في ميزان الحكم على الأشياء :

إذا كان الخروج على الحاكم محرماً عند ظلمه، فلماذا الخروج على آل حميد الدين؟ فالكل منذ عام 1962م يتغنى بالثورة أنها أزالت الظلم عن الأمة، وقضت على الحكم الوراثي، فهل إذا عاد الظلم من جديد يظل الحكم كما هو في جواز الخروج على الظلمة أم يتغير الحكم؟ ثم لماذا الخروج على \\\"الحمدي\\\" وقتله؟، وهل أعلن كفرا بواحاً؟ ومن قتله؟ وهل هذه فتنة؟ وهل يدخل هذا في ما يقال: \\\"الكيل بمكيالين\\\"؟ الذي لا يمتّ إلى العدل والإنصاف بصلة .

إن الخروج الذي يؤدي إلى الفتنة هو رفع السلاح في وجه الحاكم؛ والأمة اليوم إنما تطالب بحقوقها المشرعة في الدين، والدستور، بطرق سلمية ليس فيها سوى رفع شعارات تندد بالظلم. وتطالب بالحقوق المسلوبة .

والحاكم الذي يعبّد الناس لنفسه لا يبقى له حق، لأن حق الله مقدم على غيره وتجريم الخروج على الظالم تشكيك في مشروعية الثورة بقصد أو بغير قصد، وقد تعتبر في نظر القانون جريمة يُعاقب عليها .

ثمّ أين الأهداف التي قامت من أجلها الثورة؟ أعني: محاربة الثلاثي: الجوع، والجهل، والمرض، لم يتحقق منها شيء !.

- أما الجوع: فأكثر من 50% تحت خط الفقر .

- وأما الجهل: فالغالبية العظمى محرومة من التعليم خاصة أبناء الأرياف ونسبة الأمية ما تزال عالية .

- وأما المرض: فقد فَتَكَت الأمراض بنسبة كبيرة من أبناء الشعب في حين أنّهم لا يجدون ما كفله لهم الدستور من العلاج المجاني، إلى جانب الأفواج التي تسافر إلى الخارج وتهدر كثيراً من الأموال بحثا عن العلاج .

إن المسلم اليوم في ظل الظلم القائم لا يجد متنفسا لكي يقيم الإسلام بكل شعبه وإذا أراد الهجرة إلى أي بلد مسلم فلا يستطيع؛ لأن أجهزة المخابرات تتعاون على إيذاء المسلمين من العلماء والدعاة وغيرهم، وقد لا يجد الإنسان ملاذاً أحياناً إلا أن يضطر إلى التحول إلى ديار الغرب بينما كان المؤمنون في عصر رسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم - يجدون ملاذا هي المدينة بالرغم من أن الشرك يومها كان له صولة .

- ما الدنيا إلا للحاكم وحده :

لقد خلق الله سبحانه ما في الكون من أجل الإنسان، قال تعالى: (أَلَمْ تَرَوْا أَنَّ اللَّهَ سَخَّرَ لَكُمْ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ وَأَسْبَغَ عَلَيْكُمْ نِعَمَهُ ظَاهِرَةً وَبَاطِنَةً...)[لقمان: من الآية20]، وقال عز وجل: (وَالأَرْضَ وَضَعَهَا لِلأَنَامِ) [الرحمن:10]، وهذا من أعظم الأدلة على تكريم الله سبحانه للإنسان وبيان مكانته عند الله، غير أن الحاكم اليوم أبى إلا أن يفهم الآية أنّ التسخير له وحده، فسخّر الإنسان وما حول الإنسان لنفسه وبطانته وأعوانه ولسان حاله يقول :

وما الأرض لنا وحدنا ولكنهم غالطونا بها

ووجد من يقول في ظل هذا التعسف: لا يجوز الخروج على الحاكم!!! ونقول: أيُّ حاكم تقصد؟ أهذا الذي يصادم بسلوكه وأعماله وأقواله دين الله وشرعه؟ ويعبّد الناس لطاعته؟ وقد جاء الإسلام يخرج العباد من عبادة العباد إلى عبادة الله وحده .

وبعد هذا البيان بتوفيق الله وعونه، أقول مستعيناً بالله تعالى :

من الأدلة التي يستند إليها القائلون بتحريم الخروج على الحاكم حديث: (إلا أن تروا كفراً بَوَاحَاً)، وقد فسّر الإمام النووي \\\"الكفر هنا بالمعصية\\\" فقال: \\\"والمراد بالكفر هنا: المعاصي، ومعنى \\\"عندكم من الله فيه برهان\\\" أي: تعلمونه من دين الله تعالى، ومعنى الحديث: لا تنازعوا ولاة الأمور في ولايتهم ولا تعترضوا عليهم إلا أن تروا منهم منكراً محقّقّاً، تعلمونه من قواعد الإسلام، فإذا رأيتم ذلك فأنكروه عليهم، وقولوا بالحق حيثما كنتم...\\\" [شرح النووي لمسلم: ج12/229]، وكلام النووي له مستند، فقد ورد في بعض النصوص إطلاق الكفر على بعض المعاصي، من ذلك قوله صلى الله عليه وآله وسلم –في حجة الوداع-: (لا ترجعوا بعدي كفاراً يضرب بعضكم رقاب بعض) [رواه البخاري:121، ومسلم:118 ].

ومن ذلك قوله –صلى الله عليه وآله وسلم-: (اثنتانِ في الناس هما بهم كُفر: الطعن في النسب، والنياحة على الميت) [رواه مسلم:ج1/67]؛ وغير ذلك من الأحاديث .

ثم لماذا إهمال الأدلة التي أوجبت نصح الحاكم، مثل قوله صلى الله عليه وآله وسلم: (إنّه يُسْتَعمل عليكم أمراءَ، فتعْرِفون وتنْكِرون، فمن كره فقد برئَ، ومن أنكر فقد سلم، ولكن من رضِيَ وتابع) [رواه مسلم:1854]، وحديث: (الدين النصيحة، قلنا لمن؟ قال: لله ولكتابه ولرسوله ولأئمة المسلمين وعامتهم) [رواه مسلم:55 ].

وما أحوج الناس اليوم إلى أن يقولوا كلمة الحق للسلطان، خاصة إذا أُهدرت الضرورات الخمس التي جاء الإسلام لحمايتها وهي: الدين، والنفس، والمال، والعقل، والعرض .

وفي الختام نذكر بعض الأدلة التي توقظ حس المؤمن في كيفية التعامل مع الحاكم، من ذلك :

قوله صلى الله عليه وآله وسلم: (إنه سيكون عليكم أمراء، فلا تعينوهم على ظلمهم، ولا تصدّقوهم بكذبهم، فإن من أعانهم على ظلمهم وصدّقهم بكذبهم، فلن يرد عليّ الحوض) [رواه أحمد: 6/395، والنسائي:4207 ].

وقوله صلى الله عليه وآله وسلم: (تكون أمراء تغشاهم غواشٍ أو حواشٍ من النّاس، يظلمون ويكذبون، فمن دخل عليهم فصدّقهم بكذبهم، وأعانهم على ظلمهم، فليس مني ولست منه، ومن لم يدخل عليهم ويصدّقهم بكذبهم، ويعنْهم على ظلمهم، فهو منّي وأنا منه) [رواه أحمد:3/24 ].

وقوله صلى الله عليه وآله وسلم: (أفضل الجهاد كلمة عدل عن سلطان جائر) [رواه أحمد: 3/19، 61، والترمذي:2174، والنسائي:4209 ].

وفي التحذير من الظلم وعدم النصح للرعيّة ووجوب الشفقة بهم :

قوله صلى الله عليه وآله وسلم: (اللهم من ولي من أمر أمّتي شيئا فشقّ عليهم فاشقق عليه ومن ولي من أمر أمّتي شيئا فَرَفَق بهم، فارفق به) [رواه مسلم:1128 ].

وقوله صلى الله عليه وآله وسلم: (كلكم راعٍ وكلكم مسئول عن رعيته، فالأمير الذي على الناس راعٍ، ومسئول عن رعيته) [رواه مسلم:1829 ].

وقوله صلى الله عليه وآله وسلم: (ما مِن عبد يسترعيه الله رعية، يموت يوم يموت وهو غاشٌّ لرعيته، إلا حرم الله عليه الجنة) [رواه البخاري:7150، ومسلم:142 ].

وقوله صلى الله عليه وآله وسلم: (ما من أمير يلي أمر المسلمين، ثمّ لا يجهد لهم وينصح، إلا لم يدخل الجنّة) [رواه مسلم:142 ].

وقوله صلى الله عليه وآله وسلم: (لا طاعة في معصية الله، إنما الطاعة في المعروف) [رواه مسلم:1840 ].

وقوله صلى الله عليه وآله وسلم: (من ولاه الله شيئاً من أمور المسلمين، فاحتجب دون حاجتهم وخلّتهم، وفقرهم، احتجب الله دون حاجته وفقره يوم القيامة) [رواه الترمذي:1323،1333، وأبو داود:2948، وأحمد: 5/238 ].

والحمد لله رب العالمين

aldelame@yahoo.com