سبتمبر المُستعمَر .. هل مازالنا بحاجة إلى ثورة !
بقلم/ أمين اليافعي
نشر منذ: 17 سنة و شهرين و يوم واحد
الجمعة 28 سبتمبر-أيلول 2007 03:05 م

مأرب برس – خاص

قبل البدء بتقديم الإجابة على السؤال المطروح في العنوان علينا أن نلقي نظرة سريعة على مفهوم "الثورة" حتى يُزال اللبس في التعامل مع مفهوم كهذا، ويتحرر من مجرد كونه "زعيق" و "نعيق" المسئولين في خطب المناسبات الحماسية أو لغة إنشائية "غثّة" لكَتبة السلطة!..

فـ"الثورة" كمفهوم عام وشامل لا تقتصر وسائلها في التغيير على العنف فحسب كما يصورها تعريف البعض لها على أنها: " التغيير الجذري المفاجئ في الأوضاع السياسية والاجتماعية، بوسائل تخرج عن النظام المألوف، ولا تخلو عادةً من العنف"؟.. بل هي في الاصطلاح العربي والإسلامي ـ كما يورد محمد عماره في مقاله"الإسلام وضرورة التغيير" ـ لا تُغاير مفهوم الإصلاح، وكل من "الثورة" و"الإصلاح" عبارة عن تغيير شامل وجذري وعميق. وهذا المفهوم لـ"إصلاح" يتعارض مع مفهوم "الإصلاح" في علوم الاجتماع الغربية الذي لا يتعدى الترقيع والتغيير الجزئي والسطحي.. و هو ذات المفهوم الذي تستخدمه حكوماتنا بكثرة هذه الأيام بعد كل انتخابات رئاسية أو برلمانية مزورة أو تغيير وزاري بتبديل الوزراء الواحد مكان الآخر أو صعود ولي عهد "بزبانية جُدد"(أقصد بفكر جديد!)..

وإذا كان محمد عمارة قد عاد في نهاية المقال ليُذكرنا أن للثورة ميادين عديدة يمكن من خلالها أن يتحقق الإصلاح الجذري والشامل، وينتقل بالإنسان من طور إلى طور أكثر تقدما.. فالاجتهاد مثلاً ـ كما ذكر عمارة ـ ثورة على التقليد، والجهاد ثورة على الاستسلام، والتجديد ثورة على الجمود، والإبداع ثورة على المحاكاة، والتقدم ثورة على الرجعية والاستبداد، والعقلانية ثورة على ظاهرية وحرفية النصوصيين..

وبناء على الفهم "المتقدم" الذي أورده عماره لمفهوم "الثورة" يمكننا توصيف مشروع مارشال بـ"الثورة" كونه قدم أوروبا في ثوب جديد وحماها من الكساد الكبير الذي لحق بها بعد الحرب العالمية الثانية.. وما قامت به اليابان من نهضة تكنولوجية وعلمية غاية في التطور، ثم النقلة الاقتصادية والاجتماعية عقب الحرب العالمية الثانية ـ وبعد ذلك دول شرق أسيا ـ يدخل ضمن إطار مفهوم "الثورة" الشاملة.. كما أن مشروع مهاتير محمد لتحديث ماليزيا والشعب الماليزي لا يخرج عن هذا المفهوم.. ومما يوضح هذا المفهوم أكثر ولعدم اقتصاره فقط على وسائل العنف في إحداث تغيير ما، ما اعتدنا أن نطلقه على التطور الهائل في شبكة الاتصالات وتقنية المعلومات بـ"الثورة الرقمية".. وبالتالي فـ"الثورة" ـ تبعاً لهذا الفهم ـ لا تقتصر فقط على قذيفة الشيهد علي عبد المغني التي أحدثت شرخاً بسيطاً في جدار القصر الإمامي!..

وبالعودة إلى موضوع المقال، وللإجابة على السؤال المطروح في العنوان، يجب قراءة مستوى ما تمّ من تحديث في اليمن بعد الثورة في المجالات السياسية والاقتصادية والثقافية والاجتماعية قراءة ترتكز على حجم ما شهده العالم من تحولات مختلفة وعديدة في هذه الفترة كدخول أنظمة جديدة في كافة المجالات وأفول أخرى.. والانفتاح الذي حدث بين الدول مع تطور وسائل الاتصال فأصبح العالم كقرية واحدة؛ مما ساهم بالكثير من التداخل والتشابك بين الشعوب وأنظمتها المختلفة، فصار العضو المريض أو المعوج منه تتداعى له سائر أعضاء الجسد بالتقييم والتوجيه لتدفعه مكرهاً إلى المشي ضمن الركب، والحيلولة دون بقاءه حبيس بيته في القرية الجديدة بنظامٍ مختلف عن نظام القرية ولو شكلي!.. والتغيرات الجوهرية التي طرأت على المفاهيم والمصطلحات القديمة.. فالأمية الحديثة ليست بالأمية القديمة "أمية القراءة والكتابة".. والجهل والتخلف لا ينحصرا فقط في عدم الإطلاع كما في التعريف القديم ولكنهما حديثاً يعبران عن عدم مواكبة العالم وتحديثاته المستمرة مواكبة شاملة ومستمرة، وعدم استيعاب تجارب الآخرين المتقدمة استيعاباً يُمكّن من تطويعها لظروف الواقع المحلي لتصير بذلك تجارب وطنية .. والعزلة ليست بغلق البلد أمام كل ما يحدث من تطورات خارج حدوده، بل في قدرة البلد على احتلال مركز مناسب على الخارطة الدولية يُمكّنه من المساهمة الفاعلة في كل ما يحدث من مستجدات..

وأمام كل هذه التحولات التي حدثت وتحدث في العالم وعلى ضوءها علينا أن نعيد النظر في قراءة واقع ما بعد الثورة اليمنية، وما حدث في هذه الحقبة من تغيرات، وإلى أي مدى واكبت هذه التغيرات والتحديثات التحولات العالمية والتي على أساسها تتحدد إجابة سؤال العنوان ـ "هل مازالنا بحاجة إلى ثورة؟!" ـ بـ"نعم" أو "لا"؛ كون موضوع المواكبة وتحديث اليمن تحديثاً يتناسب والذي يحدث في العالم المتحضر كان الهدف الأسمى من قيام الثورة، وبدونه تصبح الثورة لا جدوى منها عدا أجازاتها واحتفالاتها والأغاني الوطنية والنياشين المعلقة على صدور المنتسبين إليها؛ وغالبيتهم زوراً وبهتاناً ! وهو ما يعني أن الحاجة إلى ثورة جديدة ما زلت جد ملحة!.

.

وفي أثناء قراءتي في كتاب "اليمن المعاصر من القبيلة إلى الدولة" للدكتور عبد العزيز قائد المسعودي وجدتهُ يورداً استنتاجاً لـ "سرجنت" عن طبيعة النظام الإمامي والطريقة التي كان يمسك بها زمام الأمور.. يقول الاستنتاج: " كانت أراضي المرتفعات الشمالية شحيحة في مواردها الاقتصادية، فهي فقيرة لا تعنى بحاجات سكانها من القبائل المحاربة، التي أوجدت لهم السلطات الإمامية مخرجاً باستخدامهم في إذلال الرعية واستغلالهم باسم الزكاة.. ومع الوقت تحولت هذه القبائل وشيوخها من مزارعين ملتصقين بالأرض إلى جنود محترفين تنحصر مهمتهم في جمع عائدات الزكاة من الرعية في السهول الجنوبية، الذين كانوا يشكون ضعف حالهم وقسوة الإدارة الإمامية وموظفيها الفاسدين..".. فلو شطبنا كلمة "الإمام" أو "الإمامية" من الاستنتاج السابق، واستبدلنا بكلمة "الزكاة" "الثروة".. هل سيوجد أدنى شك عند قارئه بأن الحديث يدور عن النظام الحالي؟!..

.

إذن، ما الذي تغير؟.. فالنظام القائم لا يَعدُ عن كونه حكم "إمامي" حتى وإن "تمظهر" بالقميص "الجمهوري كما تردد وسائل إعلامه وألسنة متشدقيه، وهو بالضبط كما كانت تتشدق به جريدة "الإيمان" الإمامية بتطبيق الإمام للشرعية الإسلامية تطبيقاً كاملاً، والتي كانت ـ أي تطبيق الشريعة ـ موضة تلك الفترة!.. وعلي عبدالله صالح لا يختلف عن يحيى حميد الدين، فـ 35 سنة من الحكم(28 سنة مجموع عليهم فترة الـ 7 سنوات بعد الانتخابات الأخيرة) وربما تزيد، كفيلة بحد ذاتها أن تجعل منه "إمام الأئمة"!.. وإذا كان القديم يحكم باسم الدين مدّعيا زيفاً الاختيار الإلهي له، وبفضل هذا الانتساب نهب ثروات ومقدرات الشعب وتسلط عليهم، وملصقاً تُهم الخروج عن الشريعة ضد منتقديه ومعارضيه على اعتبار أن الاختيار الإلهي أضفى عليها نوع من القداسة!.. فإن الجديد يدّعي ـ بناءً على الموضة الرائجة حديثا ـ الحكم باسم الشعب والاختيار المباشر عن طريق انتخابات " نزيهة عربياً "! وبهذا الاختيار بسط يده وأيادي أصحابه على كل ثروات البلد دون رادع كما فعل الإمام وأكثر؛ ثم ابتدع قداسات جديدة "كالثورة" و"الوحدة" ليضفيها على نفسه، ويرمي بها منتقديه ، مُشرّعاً لأجلها قانون "الخيانة العظمى" الذي يوجب إعدام من ثبت إدانته به!..

كما أن ولي عهدنا أحمد " الصالح" كولي عهدنا القديم أحمد " حميد " ( حتى في الاسم )!.. ومجلس النواب ومجلس الشورى والمجلس الاستشاري لا تتجاوز صلاحياتها "ديوان محمد بن محمد بن زبارة" أيام الإمام!..

.

ما الذي تغير؟.. بلد بلا قانون، وبلا سلطة ذات سيادة مطلقة.. كل الظواهر الاجتماعية السيئة لا تزال قائمة بعد مرور 45 عام من قيام الثورة.. ظاهرة حمل السلاح، ظاهرة الثأر، النفوذ القبلي الذي يتجاوز بقوته سلطة الدولة، الفقر والجهل والتخلف والقات والأمراض بكل أنواعها النادرة "تعشعش" في كل شبر من أراضي الوطن، نظام اجتماعي وثقافي جد بدائي ومتخلف.. لم يتم التقدم قيد أنملة في رفع مستوى الشعب اقتصادياً واجتماعياً وسياسياً وثقافياً كما نص الهدف الثالث من أهداف الثورة! وبعد مضيّ أكثر من 28 عاماً فكر رئيسه بتشكيل لجنة لمكافحة الظواهر السلبية!.. بلد لم يتعافى بعد من الأمية القديمة "أمية القراءة والكتابة" كما يذكر تقرير للأمم المتحدة أن أكثر من 50% من الشعب اليمني "أمّي" وهي من أكبر نسب دول العالم في الأمية، والتقارير الدولية تشير إلى تفاقم الأمية في السنوات المقبلة.. بلد يتجاوز في "أمّيته الحديثة" ـ أو كما يطلق على من لا يستطيع استخدام الحاسوب ـ نسبة تكاد تتجاوز نسبة الأمية القديمة في فترة حكم الإمام( إذا قسنا النسبة في عهد الإمام على اليمن ككل ومن بينها عدن الرائدة)!.. بلد كل ما لديه من أجهزة الكمبيوتر لا يتعدى الـ 360 ألف جهاز ـ كما ذكرت صحيفة الثورة الحكومية بنوع من الفخر الشديد وبعنوان بالخط العريض في إحصائية نقلتها عن وزارة الاتصالات.. وإذا تجاوزنا نصيب الشركات الخاصة من هذه الأجهزة، فهذا الرقم يساوي عدد الأجهزة في "مول/مركز" تجاري لبيع أجهزة الحاسوب في دولة من الصف الثالث عالمياً!.. بلد يبلغ عدد مستخدمي النت فيه 4% من مستخدمي مصر، و9% من مستخدمي السعودية والتي لا تمثل النسبة العربية من النسبة العالمية الـ 5%!..بلد لا يزال يتشدق مسئوليه في القرن الواحد والعشرين قرن الأقمار الصناعية والفضاء بمنجزات عظيمة كشق طريق أو بناء مدرسة أو إقامة سد!.. بلد شديد الانعزال عن مواكبة تطورات العصر، فكما يشير صاحب نوبل أحمد زويل في كتابه "عصر العلم" بإحصائية عن عدد الأوارق العلمية التي قدمت ضمن 3.5 مليون ورقة علمية في غضون خمس سنوات، يفتح قوسين، ويقول بالحرف الواحد : "هناك دول عربية كان رصيدها صفراً من الأوراق العلمية خلال الخمس سنوات كاليمن"!...

.

لم تتغير الأوضاع في اليمن عمّا كانت عليه أيام الإمام، وإن حدث نوع من "البهرجة الترقيعية" فليس لحكومتنا أي فضل فيها ، بل لضغوط الخارج في عصر العولمة.. فالحاكم الذي لا يعلم ما يريده من البقاء في السلطة هو حاكم فاشل بامتياز كما يقول مهاتير محمد، والحاكم الذي يستيقظ بعد مضيّ حوالي الثلث قرن على حكمه( وهي نصف المدة التي تم تحديث بها دول شرق آسيا التي لا تملك أي ثروة أو مقدرات سابقة) ليقدم برنامجه لن يفعل شيء سوى توريث البلد لعائلته!. وكذبة الإصلاح التخريبي (أقصد التدريجي!) التي تُطبق ما هي إلا مضيعةً للوقت وهدراً للجهد والثروات!..
.

فليس كافياً أن تكون الثورة مجرد تغيير فقط لاسم البلد من "مملكة" إلى "جمهورية" ؛ الثورة الحقيقية هي تغيير جذري شامل وعميق، وتحديث مستمر ومواكبة لكل جديد، والحاجة إليها في "اليمن التعيس" في الظروف الراهنة بكل المجالات السياسية والاقتصادية والثقافية والاجتماعية جد ملحة.. وربما قد لا نحتاج إلى ثورة كالثورات السابقة؛ فقد أثبتت التجارب أن هذه الثورات ما هي إلا "مقلباً" أخذتها الشعوب على " قفاها "، فالعنف يخلق جو مفتوح للعنف، وبهذا الجو يتم تصفية كل الثوار الحقيقيين.. وفي الأخير لا يبقى لنا إلا من يجعلنا نترحم على فترة ما قبل الثورة أيّما ترحم!..

لكن ناقوس الخطر قد " يقطع قول كل خطيب "، فطبيعة الأنظمة الاستبدادية التي لا تسمح بالتغيير السلمي، والظروف المصاحبة من نهب وفقر مدقع لحد المجاعة بين عامة الشعب والتوريث بيئة خصبة لقيام مثل هذا النوع من الثورات!.. وكما تذكر مذكرات بعض الأحرار أن مجاعة 1941م كانت من أهم العوامل وراء تأجيج الشعب ضد الإمامة، وكانت أيضاً الدافع الأكبر لهم ـ أي الأحرار ـ للمضي قدماً في تنفيذ مهمتهم الأولى بقلب نظام الحكم عن طريق العمل المسلح!.

كاتب وأديب يمني مقيم في مصر.

http://www.aminoof.blogspot.com /