نحو فرز ليبرالي عاجل
بقلم/ بكر احمد
نشر منذ: 13 سنة و 4 أشهر و 13 يوماً
الإثنين 11 يوليو-تموز 2011 07:26 م

ثمة حقل ثقافي محكم الطوق على ذاته في اليمن، ولا يمكن بحال أن نقوم بمراجعة جادة وجذرية لهذا الحقل من داخله، لأنك ستتعرض لأشد أنواع الإقصاء، وهذا الحقل يتشكل من فروع واضحة ويتكون من ثلاثة زوايا، يبدأ من قبيلة بكل تغولها ويتوسطه إسلام سياسي مداهن لا يخفي في بعض الأحيان أنيابه الصفراء و ينتهي برجال الجيش من ذوي السمعة الملوثة، والثورة اليمنية الحالية وأن كانت تدعي في مرحلة من مراحلها المتقدمة القضاء على هذا المثلث لإقامة دولة مدنية تختفي بها الطبقية والولاءات العسكرية والدينية أمام دستور لا يعترف إلا بالكفاءات، فهي الآن تعاني من كساح واضح بسبب انتقال الحقل الثقافي المهيمن وبجميع أضلعه ليس إليها وحسب بل ولقيادتها أيضا، وعليه وبطبيعة الحال لا نستطيع أن نحاسب صادق الأحمر_ الضلع القبلي _ عن فساده وتواطئه مع علي عبدالله صالح طوال السنين الماضية على الشعب ولا نستطيع أن نضع على محسن الأحمر_ الضلع العسكري _ خلف المحاكمة العسكرية لأجل معرفة مصدر ثروته، كما أننا لن نمس الزنداني _ الضلع الدين المسيس ومن يمثله _ على كل فتاويه التي شكلت منعطف سيء في طريقة التعامل بين اليمني واليمني الآخر ، لنكتشف آجلا أو عاجلا، رغب البعض أم لم يرغب، بأن هذه الثورة لن تحدث ذلك التغير ولو بنسبة ضئيلة في الواقع الثقافي والاجتماعي السلبي الذي كان السبب في تخلف اليمن عن باقي دول العالم.

أتعرفون ما هو المخيف في الأمر، المخيف هو تصريح الدكتور ياسين سعيد نعمان ذات مرة بأن اللقاء المشترك سيبقي على تحالفه بعد الانتهاء من تحقيق أهداف الثورة، والذي يعني إصراره كرجل مازال ينظر إليه البعض كأحد رموز الحداثة بأن تبقى الأحزاب اليسارية _ اشتراكية وقومية _ تحت هيمنة الحزب الخليط _ دين وقبيلة_ مما يعطي انطباع بان بقاء اللون الواحد والنسق الأحادي والثقافة التقليدية هي المتسيدة ولا أحد سواها في الساحة!

هل من الحمق أن نطالب بدولة حقيقية تقصى كل أولئك الفاسدين وأن نقيم دولة مدنية دون أي تشويه، ولماذا نضطر بعد أن قدم الكثيرون أرواحهم لأجل هذه الثورة أن ندافع عن شيخ قبيلة يمتلك أسلحة تضاهي أسلحة الدولة بحجة أنه فقط انضم الي الثورة.

لا ليس من المعيب أو العار أن تقام دولة مدنية حقيقية في اليمن وأن يقيمها الشباب الليبرالي ذوي الفكر التحرري والتقدمي بعد تنحية العسكر القديم عن سدة المشهد، فتجربتهم كانت كافية وسيئة بما يكفي، وحتى نتحدث عن الدولة المدنية علينا أن نقوم بتعريفها التعريف الصحيح لا ذلك الذي تروج له قناة سهيل عن دولة مدنية ترتدي عباءة الخليفة العباسي وتحكم باسم الله، فلم أجد أسوء ولا أسخف ولا أسطح من تعريف تلك القناة لمعنى الدولة المدنية التي هي في حقيقتها تقوم على أساس المواطنة لا الدين أو المذهب أو العرق، واستثني هنا البروفيسور فؤاد الصلاحي الذي أثلج بحديثه قلوب الكثيرون وبصراحته التي يشكر عليها تجاه القبيلة التي تحدث عنها كتنظيم بدائي تجاوزته كل الأمم ولم يعد له من أثر يذكر، كما أن حديثة عن الدولة المدنية جاء بعكس ما كان تشتهيه القناة التي تمثل تنظيم ديني يجد في الدين وسيلة ناجعة في التغلغل في الشارع والسيطرة عليه. فالذي لا يريد تنظيم الإصلاح أن يفهمه هو بأن وجود القبيلة بشكلها الحالي يعتبر أحد أهم معوقات الدولة المدنية التي تدعي القناة بأنها تنادي بها، لأنه أن أعترف بهذا الشيء فهو سيفقد احد أهم مرتكزات وجوده وسلطته وهي ذات الطريقة التي كان نظام علي عبدالله صالح يستخدمه، إلا أن الإصلاح مزج معه الدين، ليصبح الإصلاح ومن خلال التحليل الموضوعي هو بذاته تنظيم سياسي وجوده يتنافى مع الدولة المدنية الحديثة التي ينشدها الشعب اليمني، وبما أن الإصلاح يمسك بتلابيب هذه الثورة ويقودها أيضا، فالطريق سيكون إلى أي مكان آخر عدى التوجه إلى المدنية والحداثة المنشودة.

الدولة المدنية

هي باختصار شديد تعني الحكومة (المحايدة) بين جميع فئات وطبقات الشعب ولا تنحاز إلى احد دون الآخر، كما أنها لا تتدخل في الشأن الخاص على مستوى الفرد كطريقة تفكيره وتصرفه وتطبيق ما يؤمن به في حالة عدم إضراره بمصالح الآخرين، كما أنها يجب أن تنظر الي الدين كأحد أهم تلك الخصوصيات الفردية أو الجماعية التي لا يجب أن تتدخل بها، أو تفرض بعض الطقوس أو الواجبات على أفراد الشعب بالقوة والإكراه وأن لا تجعل من تلك القيم _ الدينية _ بند ثابت في الدستور حيث يعاقب من لا يلتزم به أو يعتنقه.

 

والدولة المدنية هي الهيئة الوسيطة ما بين أفراد الشعب وبين مصالحه التي يجب أن تسعى لتحقيقها مع الدعم الدائم لمنظمات ومؤسسات المجتمع المدني الذي يمارس دور توعوي وحماية مكثفة للمعاني المدنية وأن جدلية الدين والتمدن جدلية عقيمة لا يجب أن يخاض بها على المستوى السياسي، بينما من الطبيعي أن تطرح على المستوى الاجتماعي والثقافي كأحد محركات الوعي وتنشيطه، فالذي لا احد يستطيع أن ينكره هو بأن الدعوة التي جاء بها النبي محمد لم تكن دعوة من أجل إقامة دولة بمعناها المعاصر أو حتى بمعناها القبلي السائد آنذاك، بل جاءت بقيم دينية تهتم بالشأن الروحي وتسعى نحو أطر جديدة في تنظيم العلاقات القائمة ما بين الأفراد والجماعات، إلا أنه يجب الإقرار وبنفس الوقت بان فكرة الدولة كانت أحد الجوانب في تلك الدعوة وجاءت في مرحلة متأخرة وتشكلت بشكل جلي في ( وثيقة المدينة ) التي مثلت ملامح الدولة المدنية تحت رعاية مباشرة من النبي والتي نصت على احترام الأديان والأعراق وألإلتزام بالدفاع عن المدينة كمواطنين فقط، وغير هذه الوثيقة لم يرد أي شيء آخر عن الدولة من الناحية السياسية، لذا كان من البداهة أن يغفل القرآن الحديث عنها أو طريقة تنظيمها بشكل مفصل أو جزئي، وهذا ما سار عليه الخلفاء الراشدين في طريقة تنصيبهم، وهذا ما تم قبله الاستناد إليه في السقيفة بعد وفاة النبي إذ كان النقاش يدور حول من هو الأجدر بالخلافة من حيث قبول العرب به من عدمه وليس من حيث المرجعية الدينية ولم يتم الاستناد إلى أي نص من نصوصها، كما يظهر لنا التسلل التاريخي في تتالي السلطة أنه جاء كوسيلة للتعامل مع الوضع القائم وظروفه السياسية والاجتماعية بغض النظر عن سابقه وتم التعامل معه كحدث دنيوي محض.

إن الأحداث التاريخية بشقيها التراثي والديني لا تضع أمامنا أية عقبة أمام قيام الدولة المدنية المعاصرة، وهذا أمر كان به من المفترض أن يساهم كثيرا في تجاوز الآخرين حيث لا قيود فعلية أمامنا بعكس الأمم الأخرى التي كان تاريخها وأرثها ممتلئ بالقيود اللاهوتية المستعصية والتي فرضت هيمنتها قرون طويلة عليهم.

الوضع في اليمن هو وضع في مفترق الطرق، والمداهنة والمجاملة لن تفضي إلى شيء، فنحن أما أن نقيم دولتنا التي نسعى إليها أو أن تقوم القوى التقليدية باختطاف البلاد مرة أخرى ولا نعلم حينها متى سنحاول أن نعيد مثل هذه الثورة الحيوية من جديد.

وبما أن الأمر لا يقوم بالأمنيات أو بكتابة المقالات، فهنالك عمل حقيقي يجب أن يبدأ وأن لا نكتفي بتشكيل ائتلاف شباب اليسار رغم أنه مهم جدا وضروري أيضا من باب رد الاعتبار لهذا التيار الذي حاول الكثيرون القضاء عليه باسمه، ولكن ليتم تشكيل تيار واسع وعريض يضم في داخله كل الأفكار الليبرالية والحداثية والتقدمية سواء كانوا أفرادا أو هيئات أو منظمات وتشكيل عصبة قوية ليعلن حضوره في الشارع وأن يكثف من كتابة المقالات التوعوية والندوات الثقافية التي تحث على أن الأمر لا يحتمل التسويف وأنه فعلا خطير و أن لم نتفهم جيدا دقة المرحلة الحالية، فربما نعود مئات السنين إلي الخلف، وأن هذا التيار عليه أن يفرض حضوره على التيارات الأخرى ويكون سندا للأحزاب التي مازالت محررة من هيمنة حزب الإصلاح لتكن بذرة على أرض صلبة في العمل السياسي والذي يبدو أنه سيكون اسخن مما نتصوره بكثير.

اليمن أمانة في أعناق دعاة الدولة المدنية، وأعني الدعاة الحقيقيين الذين يريدون فعلا دولة نظام وقانون لا دولة قبيلة وشيخ وعمامة، واليمن غالي ...غالي جدا وآن الأوان أن نقدم له شيء يعيد الاعتبار له بعد كل تلك السنين العجاف التي عصفت به.