تعز... وتستمر المحرقة
بقلم/ محمد الحذيفي
نشر منذ: 13 سنة و 3 أشهر و 17 يوماً
الإثنين 08 أغسطس-آب 2011 12:56 ص

تعز الحضارة, والتأريخ, والثقافة, والإشعاع العلمي, والمعرفي, ومركز التنوير, والعمق التاريخي لكل الثورات اليمنية, والحاضنة الرئيسية لكل الثوار اليمنيين, وهي عنوان اليمن ثقافيا ومعرفيا, منها ينطلق التغيير فتتبعها أخواتها من محافظات اليمن الأخرى شمالا وجنوبا, وهذا ما حدث في 11 فبراير2011م عندما انطلقت منها رياح التغيير, وعقد العزم فئة آمنت بربها وأيقنت أن سبيلها الوحيد إلى التطور والنهوض هو إسقاط النظام, وتغييره كما حدث في كل من تونس, ومصر, وخرجت كي تنصب خيامها في شارع جمال عبد الناصر حتى تحقق أهدافها.

لكن السلطة المحلية حالت بينها وبين نصب خيام التغيير في ذلك المكان وأوعزت إليها أن أذهبوا إلى صافر فإن فيها متسعا ولن يضايقكم فيها أحد, فاتجه الشباب إلى صافر وأطلقوا عليه ساحة الحرية, ونصبوا خيام التغيير لتصبح منارة تقتدي بها 17 محافظة, وشرارة تشعل لهيب الحرية والتغيير في كل أرجاء اليمن.

ومنذ ذلك التاريخ بدأ النظام يعد العدة ويخطط الخطط لإحراق تعز, وفي مقدمتها إحراق ساحة الحرية كما أحرقت قلبه وأسقطت شرعيته, لتكن تعز سبيله لإخماد ثورة التغيير وإحراق ساحات الحرية في الجمهورية كما كان لتعز سبيلها في تفجير شرار الثورة وتصديرها إلى مختلف محافظات الجمهورية.

وهذا ما فعله النظام يوم 29/5/2011م يوم ما بات يعرف في تعز وفي اليمن كلها يوم المحرقة يوم أن أحرق النظام ساحة الحرية بمن فيها ظنا منه أنه سينتصر وسيقود انتصاراته إلى بقية الساحات, لكن الله خيب ظنه وتعز كسرت هيبته ونكست رايته ووقفت بشموخ وإباء تلملم جراحها وتنتصر على عدوها.

يوم 29/5/2011م يوم المحرقة الحديثة في العصر الحديث له حكايته وأوضاعه التي لن تنسى, ولن تمحى من ذاكرة الأجيال وصفحات التاريخ, وسيظل لعنة تطارد كل من ارتكب تلك المحرقة التي خطط لها بعناية, وبدأت فصولها باعتقال بعض الناشطين من قبل أمن مديرية القاهرة, وبعفوية الشباب العزل المسالمين ذهبوا من أجل إجبار تلك الإدارة على إطلاق النشطاء وبصدور عارية, ولم يكونوا يعلمون أنه فخ نصب لهم بليل, ولم يكن يتوقع, أو يتخيل أحد أنه سيحدث ما حدث. أتذكر حينها كيف أحضر "البلاطجة" باللباس المدني بغرض قمع الشباب المحتجين, وكيف كانوا يطلقون النار وبشكل عشوائي لا رحمة فيهم, ولا شفقة, وكأنهم ليسوا يمنيين.

سقط أحد الشباب أمامنا ونحن في أحد الأزقة بعد محاصرتنا من قبل أولئك المأجورين والمرتزقة, فأراد بعض من كانوا معنا سرعة إسعافه وبمجرد اقترابهم لسحبه يصاب الآخر, واستمر مسلسل القتل والاستهداف والإحراق حتى صباح اليوم التالي, أما أنا فقد غادرت الساعة الثانية عشرة ليلًا عندما بدأت فصول المحرقة, وبدأ الحريق يلتهم الخيام من الجهة الشرقية, وكذب من قال أن الحريق بدأ من خيمة المحامين, والشباب يقاومون بسلميتهم, وهم عزل ووصل الحريق إلى القرب من مستشفى الصفوة, والجنود الأشاوس من الحرس الجمهوري والأمن المركزي وأفراد اللواء (33) الذين كانوا يعلمون أنه لا توجد قطعة سلاح واحدة داخل الساحة, ولو كان هناك عشرة مسلحين ما استطاع جندي واحد الاقتراب من الساحة كما حدث في جمعة الوفاء لتعز والتي تسمى في تعز جمعة النصر, أقول والجنود الأشاوس يواصلون زحفهم نحوا مستشفى الصفوة تحت وابل كثيف للنيران, وللأمانة الصحفية والتاريخية حضر إلى القرب من ساحة الحرية عند الساعة العاشرة من مساء ذلك اليوم أكثر من خمسين مسلحًا من مسلحي القبائل بغرض التدخل, وحماية شباب الثورة, وإيقاف نزيف الدم إلا أنهم صدوا وحيل بينهم وبين ما يشتهون, وقيل لهم لا حاجة لنا بكم سنحمي أنفسنا بصدورنا العارية, فانصرفوا خائبين, ولم تشفع لساحة الحرية سلميتها ولم تحم الصدور العارية قدسيتها. واستمرت فصول المحرقة حتى الساعة الثامنة من صباح 30/5/2011م, جرحى أهينوا وتعرض الكثير منهم لمحاولة التصفية من قبل جنود الحرس الجمهوري, كما روى ذلك الكثير منهم, وأنا أقتبس هنا بعض شهادات الجرحى لصحيفة «صوت الحرية» الصادرة عن الساحة:

«ماجد القاضي» يقول: «أصبت بطلقة نارية في قدمي الأيسر عندما ذهبنا للاحتجاج سلميا أمام مديرية القاهرة على احتجاز بعض زملائنا الناشطين, والذي أصابني هو شخص من "البلاطجة" أتى من خلف المديرية وبدأ بإطلاق النار علينا بشكل مباشر وهستيري حيث كنا قد هربنا إلى أحد الأزقة, وتم إسعافي إلى مستشفى الصفوة».

يواصل «ماجد» حديثه بحسرة عن تلك الليلة «طبعا كنا في المستشفى وكنا نسمع صوت الرصاص يقترب أكثر وأكثر, وعلمنا حينها أن هناك اقتحامًا للساحة, ومن ثم سمعنا إطلاق الرصاص في الدور الأول للمستشفى, وكنا متواجدين أنا وأربعة مصابين آخرين مع زملائنا المرافقين في الغرفة, وكذلك كنا نسمع العسكر يتلفظون بألفاظ بذيئة, ونسمع صرخات الجرحى والنساء, وفجأة فتح باب الغرفة التي كنا فيها أحد الجنود, وفتح علينا أمان البندقية وصوبه باتجاهنا, ونادى أحد الضباط: يافندم الإرهابيين موجودين هنا. فجاء ضابط الحرس الجمهوري حاملًا على كتفه تلفزيون قام بنهبه من المستشفى, ووجه كلامه إلينا: أنا عائد أرويكم يابلاطجة يا سرق. فجأة تدخل أحد الجنود ودخل في مشادة مع بعض عساكر الحرس الجمهوري, قائلا لهم: هذا مستشفى مش للنهب والعبث وهؤلاء أمراض والله ما يمسكهم أحد. فتراجع عساكر الحرس عن موقفهم وأقروا ببقائنا في الغرفة وأخذوا المرافقين. طبعا المرافقين ما عرفوش إيش الذي حصل لهم فعاد العسكر إلى غرفتنا مرة أخرى, وقاموا بنهب الثلاجات, وفيشات الكهرباء, والمراوح, وفي الصباح الباكر تم تهريبنا وإخراجنا من مستشفى الصفوة وإسعافنا إلى مستشفى الروضة».

«نجيب» أحد الجرحى الذين كانوا في المستشفى الميداني وقت اجتياح ساحة الحرية, قال لي: «يا أخي شاهدنا ما لم يشاهده أحد وسمعنا ما لا يصدقه عاقل. تصور حوصرنا من المساء حتى الثامنة صباح اليوم الثاني وعند اقتحام المستشفى كان العسكر يرددون "هذا ربكم تشتوا ترحلوه", يقصدون "علي عبد الله صالح", المفروض أنكم تعبدوه عبادة, وكان يهز يدي المصابة ويقول لي: قل "مالنا إلا علي", ثم نزع الحامل الذي كانت يدي معلقة عليه وكان يمشي ويدوس على المصاحف, وقام بالتبول بالجامع, وحين حاولنا الاعتراض علية قام بتوجيه البندقية باتجاهنا».

هذا ما عند هؤلاء, وما عند بقية شباب الثورة الذين شاهدوا كل فصول المحرقة حتى الفصل الأخير أشد وأعظم, وما زال جنود هولاكو وأتباعه مستمرين بإحراق تعز بقذائف الدبابات المتمركزة في محيط مستشفى الثورة العام, الذي أصبح خاليًا من أمراضه وأصبح ثكنة عسكرية تبيد المواطنين في الأحياء والحواري, كما أن القرى والعزل تتعرض لسقوط قذائف الهاون وصواريخ الكاتيوشا لتحرق كل من تقع عليه من شجر وحجر وبشر, وإلى اليوم والمحرقة مستمرة والعالم صامت يتفرج لم يلفظ ببنت شفة لإيقاف هذه المحرقة التي تجتاح تعز حتى اليوم, ولم يتعامل مع اليمن كما يتعامل مع سوريا, وليبيا؛ وذلك لأن لنا جيران يحبوننا كثيرا جدا جدا وقلوبهم حنونة علينا سلمهم هذا العالم ملفنا رحمة بنا وبوطننا.