ثورات الشعوب.. هل هي مِحَنٌ أم مِنَحٌ؟
بقلم/ د. حسن شمسان
نشر منذ: 13 سنة و 3 أشهر و 12 يوماً
الإثنين 05 سبتمبر-أيلول 2011 06:45 ص

لا يختلف اثنان أن الأنظمة المستبدة كانت ولا تزال من أعظم المحن وأشدها وأطولها ضراوة وكتما لأنفاس شعوبها؛ إذ جثمت على صدور الشعوب الإسلامية والعربية عقودا طويلة؛ فأذاقتها طيلة فترة حكمها ألوانا من الذل والاستبداد والقهر؛ وتعاملت مع شعوبها تعامل السادة مع العبيد، فلم يكن ما يسمى عدل اجتماعي إنما كان– إذا جاز التعبير – بخس اجتماعي أو شيء هو أقل بقليل من البخس، أما ما يخص حال الشعوب - من جانب اقتصادي؛ فأن هذه الأنظمة قد ألبست شعوبها لباس الفقر والجوع؛ في الوقت الذي كانت الأنظمة تغص أو تسبح في أصناف شتى من النعيم المقيم، فلا يوجد عدالة في توزيع الثروة؛ ففي اليمن – مثلا - لما كان نهب ثروة اليمن داخليا غير كافٍية لنماء أرصدة البنوك في وقت قصير؛ أداره رأس النظام باختلاق الأزمات؛ ففجر حروب صعدة والقاعدة؛ لتكون هذه الحروب أقرب إلى النفعية الكسبية، منها إلى المناورة السياسية؛ فقد اكتفى النظام للأخيرة بتمثيلية الانفصال وبعد اختلاقها أطال حلقات مشاهدها إذ ما زال حتى الآن يخاف على الوحدة من بانيها ومخترعيها الجنوبيين؛ ليمضي النظام من اختلاقه لتلك الأزمات في مواصلة السقوط الأخلاقي؛ فيستحسن فاتورة الدماء اليمنية كأحد طرقه الرئيسية الكسبية للمال الخارجي - الشقيق والصديق - بجانب السقوط السياسي؛ فهذا الأخير لا يخرج عن ذات سياق المصالح والنفعية؛ لكن بصورة أكبر تتعدى حدود اليمن ليباع الوطن خارج حدوده بأرخص الثمن.

وهذا السقوط للنظام مختلف الألوان وخبيث الأنتان أصبح من [بديهيات/أساسيات] قيام "المملكة الصالحية" الذي صار فيها الريال الجمهوري أهون عند الشعب اليمني من جناح البعوضة إذا ما قورن بالريال الملكي، وهكذا أصبحت بالمثل قيمة النظام الجمهوري مقارنة بالنظام الملكي، وهذا بحد ذاته يكفي بأن السعودية تغير موقفها المناهض للثورة اليمنية ليتجاوزه إلى المحارب إذا أفضت الثورة اليمنية إلى قيام دولة مدنية تنعدم تماما معها هذه المقارنة؛ لأن مثل هذه المقارنة - وإن كانت تجعل الشعب اليمني يعظ أنامله من الغيظ مما يفسده صالح في اليمن؛ فإنه في ذات الوقت يرفع السعوديون الأيدي نفسها إلى السماء - داعين - اللهم أحفظ لنا نظامنا الملكي وريالنا الملكي، اللهم إن نعوذ بك من النظام الجمهوري ومن الريال الجمهوري، وإذا ما تحدثت في هذه السطور عن موقف مناهض أو محارب للجارة؛ فهو نتيجة لما اسمعه وأشاهده من وسائل الإعلام الرسمي اليمني؛ والتي صورت موقف السعودية بأنه مناهض بل يتجاوزهن إلى المحارب للثورة اليمنية مع أن المبادرة تقول غير ذلك وتدعو إلى التغيير، لكن النظر المتمعن في طبيعة سلوك الجيران وتصريحاتهم ومبادراتهم وإرخاء الستار لرأس بقية النظام؛ يجعل الحليم حيران.

وعودا على بدء؛ فإن هناك مسلمة يجب أن يؤمن بها من كان له قلب أو ألقى السمع وهو شهيد؛ وهي أن سياسة الأنظمة الإسلامية/العربية - مع استثناءات قليلة – تديرها مصالح الأرباب؛ وليست الأنظمة العربية/الإسلامية تمثل لجسم هذه المصالح سوى أذنابـ يحركها الجسم متى يشاء وفي أي اتجاه ما دامت الأثمان باهظة؛ ليتحول دور الأذناب - حسب موجهات سياسة الغاب - من "رعاة" لأوطانهم يحفظونهم إلى ذئاب ينهشونهم؛ فلا تجد - عندما تدير السياسةَ المصالحُ - قانونا حاكما ونافذا سوى قانون الغاب؛ وعندما تفهم قانون المصالح وتتعمق فيه؛ تدرك – مثلا - دلالة عبارة " أنا القانون" الذي تفوه بها صالح من دون خجل؛ وما هذه الاضطرابات في اليمن الآن إلا لأن القانون خارج الوطن، حيث ترك العصابة بلا قانون. نعم الحاكم في الأوطان يصبح هو القانون بذاته لا فوق القانون؛ ويترب على هذا القانون أن قواعد بناء الأوطان تقام على أساس تقديم مصالح الأرباب وليس للشعوب فيه سوى الخذلان؛ لأن [قانون الغاب (الذئاب/والأرباب] لا مكان فيه للضعيف؛ ولما تراجعت الشعوب عن معاني عزتها هكذا في مكانة الضعيف وضعت نفسها؛ ليكون هامش الأوطان هو مقامها مقعدها وملاذها؛ وليصبح لباس الذل والخوف والجوع والفقر لعقود هو لباسها؛ وفي كل مرة راحت تتساءل عن حريتها كرامتها؛ سارعت الحيتان في تذكيرها بـ (فوبيا الخوف) التي منذ عقود في مخيلة الشعوب تم زراعتها؛ وليس خلاف بين قانون الغابات والمحيطات ولسنا بحاجة لأن نفهم كيف يلتهم حيتان المحيطات أسماكها إذا ما فكرت الأخيرة الاقتراب منها ومنافستها.

واستسمح القراء في أن نعيش قليلا مع الأمثال؛ فمثلٌ يقول: "دوام الحال من المحال" لكن من يقنع البغال (أنظمة الضلال) "أن الباطل مصيره إلى الزوال" وآخر يهدد ويزمجر ويوعد: "إذا زاد الشيء عن الحد انقلب إلى الضد" والشعوب قد دامت حالها ذليلة وخائفة فقيرة وجائعة؛ هذا هو لباسها، مثلما سبق ذكر سياستها؛ وفي كل مرة تريد نزعه/تبديله أي لباسها؛ تزيدها الحكام جرعا؛ حتى تصل منه إلى حصانة؛ فلم يعد فيها مؤثرا لا ذله لا فقره لا جوعه، وجليس الثعابين؛ لم يعد يلق بالا لسمها من كثرة لدغها، وأصبحت هي التي تخافه ولا يخافها، وهكذا صار حال الشعوب؛ عندما انتقلت فوبيا خوفها إلى حكامها؛ لم تعد تخشى الأنظمة ولا آلاتها؛ فأسقطت عنها الخطام واللجام، وأخذت منها الزمام، وخرجت - رافعة رأسها - وفي ازدحام تصيح - صارخة بملء فمها: يرحل الرئيس/يسقط النظام، وهكذا الشعوب تخلصت من خوفها من دائها وخلعت عنها لباسها؛ لباس خوفها وذلها جوعها وفقرها، وهو لباس تعاقبت عليه الأنظمةُ (أوساخُها) وأصبح عليه من تلكم الأوساخ ركام يصيب الأنوف بسقام يهون دونه الزكام.

وهكذا مضت الشعوب في ثوراتها، والأنظمة مضت في قمعها، حتى أنه لم يبق لها سوى (آلة الحرب) من بين كل أوراقها المهترئة والمحترقة؛ محاولة ثني الثورة عن الوصول إلى أهدافها، وحتى تعود الشعوب من جديد لترتدي ألبسة الذل والفقر والجوع، وتعود الحال إلى الأولى من سيرتها، لعل الشعوب تتذكر أو تخشى وعيد الأنظمة وقمع آلاتها، وهذا الرجوع أو العودة ضرب من محال، لكنه في الوقت نفسه من الصعب أن تقنع البغال لتنزل تاركة ركوب غبائها، وإلا هل تجدي انتفاشة الهر في ثني الأسد إذا ما قرر الفتك بها؛ من يقنع البغال أن الثورات ماضية سليمة نحو النضال دون قتال وإذا ما اضطرت فثوارها نعم الرجال وما عليكم إلا أخذ العبرة من أحفاد عمر المختار، فالثورات ماضية نحو بناء عالم جديد وبناء وطن يعيش فيه الكل فرحة مثل فرحة العيد، فيا أيها الذئاب أو الأذناب (سيان) إن الدهر يومان يوم للأنظمة وأخر للشعوب وها هو يوم الأخيرة قد حان.لكن – كما قال الأوائل: "دوام الحال من المحال" وما كان ليدوم حال الشعوب وحال فوبيا خوفها 

وإن ما يحزنني ويؤلم نفسي أن بعض الخطباء المشهورين - نتيجة إفراط الحكام في استخدام آلة الحرب ضد شعوبها المنتفضة - شرعوا في تسمية ما يحدث من ثورات وما يلفها من أحداث بـ (المحن)؛ وذلك بعد أن سمتها الأنظمة (فتن) ودعوني أطلق عليها تسمية تليق بمقامها لأسميها بحقيقتها وحقيقة ما تهدف إليه لنصطلح عليها (منح)، فالثورات ما هبت رياحها إلا لتخرج شعوبها من مستنقع (المحن) المتمثل في الحكام واستعبادها للشعوب والجاثمين على صدورها منذ عقود؛ فليس أشد منهم محن وإحن، وإنه يبقى من غير المنطقي أن نسمي ما يحدث في الشعوب (محنا)، لأن هذه الأخيرة مصدرها الأنظمة، وزوال الأولى من زال الثانية، والثورات لن تبقي لهم من باقية. إذا فالثورات وما يتخذ الله فيها منها من الشهداء كلها (منح) وهبها الله الشعوب؛ فالله العزيز القوي الجبار قد منح الشعوب بعضا من هذه العزة والقوة والجبروت، فثارت على [المحن] بما أفاض الله عليها من تلك [المنح]؛ وإذا أصررتم على التسمية الأولى فهي محن لكن بالنسبة إلى الأنظمة؛ فالثورات وفعالياتها هي من أشد المحن عليها، لهذا سموها أزمات وهي تسمية صحيحة لأنه كلما خرجت الشعوب أفواجا وجماعات ضاق بهم النفس فمثلت لهم أزمة وإذا ما استمرت مثلت لهم محنة عظيمة؛ لهذا الأصل في الدعاء وخاصة من الوعاظ في الخطباء اللهم حقق للشعوب منحها وأزد على الأنظمة محنها؛ فأسمى مهام هذه الأخيرة الحقيرة هي المحافظة على مصالح أربابها؛ ولها أسبابها؛ وتتمثل في دوام بقائها على عروشها.

ومن هنا أختم فأقول لأرباب المصالح - وأخص إسرائيل وحليفتها أمريكا: لقد انتهى قانون الغاب أو الذئاب أو الأذناب التابعين لكم؛ لأن الأسود/الشعوب قد صحت من سباتها وقد رجعت إلى سابق عهدها؛ فإما أن تعيشي أيها [الذئاب/الأنظمة الأذناب وبقية الأنظمة] في ضل حكمها وتحت مضلة عدلها، أو ترحلي سالمة ولا تفضلي لنفسك الخيار الأصعب وصفحات التأريخ الأسود؛ لأنه خيار حتمي لا رجعة عنه إذا أصررتِ أن تتعاملي بغباء السابقين من رؤساء الأنظمة [الفارين والمخلوعين والمحروقين] ويكفيكم عبرة أن الأرباب ستترككم وتتخلى عنكم كما تخلت عن سابقيكم.