تقييم عوامل استتباب أمن مدينة تعز .. نموذج قابل للتوسيع
بقلم/ عبد الرحمن تقيان
نشر منذ: 12 سنة و 5 أشهر و 12 يوماً
السبت 09 يونيو-حزيران 2012 08:59 م

Ataqi2003@yahoo.com

كنت شديد الاهتمام بمراقبة تطور الأوضاع الأمنية في مدن الجمهورية بعد بدء تنفيذ المبادرة الخليجية، لكن شدني سرعة استتباب الأمن في مدينة تعز بنسبة 90% إن لم أكن مبالغاً خلال فترة وجيزة في وقت شديد الصعوبة وفي مدينة شهدت أخطر انهيار أمني في البلاد وكان مجتمعها أكثر المجتمعات اليمنية تبايناً سياسياً. بدأت بالتركيز على حالة تعز بشكل مركز ومفصل علّ خطوات تلك الحالة تفيد المدن الأخرى.

عوامل النجاح

تميزت الخطة الأمنية بتعز بانتهاج مقاربة نادرة التطبيق في بلدان كثيرة لمراعاتها الظروف المتباينة والصعبة في المدينة حيث ارتكز الأمن على مفهوم يسمى "الأمن المجتمعي" وهو الذي يتأتى ويستمر في مثل هذه الظروف بالاستناد أساساً على تطبيق إدارة أمن تعز استراتيجيات لا يتحقق الأمن المجتمعي إلا بتطبيقها وهي استراتيجيات الاتصال المجتمعي التفاعلي (تفاعلات عاطفية وتقوية علاقات وروابط) وإدارة الصراعات (فهم طبيعة البيئة الصعبة وثقافة الأطراف ذات العلاقة وتعدد الحلول بتبني الاطار الديني والقبلي والتقليدي وأساليب التعامل مع الحالات الطارئة والاحتمالات غير المستحسنة المؤثرة في الصراع الاجتماعي السياسي الواسع والمعقد) وركائز وعوامل التخطيط الاستراتيجي الفعال (التخطيط العام لكل مكونات التخطيط) والاستفادة من البيئة المحيطة التي تنطوي على عوامل قوة مساندة لتحقيق الهدف والفرص المتاحة التي يمكن استخدامها لتحقيقه، والعوامل السلبية والمهددة أمام تطبيق الخطة والمرونة مع الذكاء والوفاء بالوعود مع كل فئة من الفئات التي سيتم التعامل معها. وكانت تلك الخطط تهدف بشكل رئيس إلى الوصول إلى "اتفاق مجتمعي مجمع عليه" يهدف إلى الالتزام بـتحقيق الأمن سوياً مع جميع الأطراف المرتبطة بتحقيقه يتبعه إنفاذ الاتفاق ولو بالقوة.

وقد بدأت إدارة الأمن بتنفيذ الخطط الأمنية على مرحلتين (اجتماعية ثم أمنية) أحاطتهما تحديات الاحتقان وتربصات الانتقام والواقع السياسي القائم، إلا أن المرحلتان نجحتا إلى مدى كبير بفضل نجاح الخطة في ربط أغلب المكونات الاجتماعية والأمنية والحكومية ببعضها البعض وإعادة الثقة بين معظم أطرها المتباينة التي شهدت خصومات شديدة لم يتخيل أحد أن تصل تلك الثقة إلى تلك القوة في تلك الفترة القياسية.

على ما يبدو، فإن الخبرة التخطيطية والتنظيمية السابقة لمدير أمن المحافظة العميد علي السعيدي في إدارة إحدى الانتخابات السابقة وقدراته الاتصالية، التي شاهدناها عبر مقاطع الفيديو، قد ساهمت في سرعة قطف ثمار الخطة الأمنية للمدينة بعد أن إطمأن المجتمع التعزي إلى نوايا الرجل منذ زياراته المبكرة لهم منذ الأيام الأولى لتعيينه في أوائل فبراير تقريبا.

المرحلة الأولى

لقد تركزت أهداف المرحلة الأولى على تحقيق هدف رئيس وهو الوصول الى إجماع مع كافة أطراف تحقيق الأمن على تحقيقه. وقد تم الوصول الى ذلك الهدف عبر تحقيق ثلاثة أهداف مجتمعية فرعية، أولها إيجاد تغيير في نظرة أفراد الأمن ثم الدوائر الحكومية نحو مهامهم المستقبلية القائمة على أولوية الحفاظ على الأمن العام للمدينة والمواطن، وثانيهما خلق الثقة بين أفراد الأمن وهم أداة الأمن وبين أفراد المجتمع الذي كان بعضه أو أغلبه معادياً لهم في السابق القريب، وثالثهما استخدام كافة الخيارات الاتصالية المجتمعية الممكنة لضمان التفاعل المجتمعي الموحد والمطلوب من كافة فئات المجتمع بما فيها الأفراد وقادة المجتمع ورجال الدين والصحافة والمنظمات المجتمعية والجماعات القبلية المسلحة (ذو الاتجاه المنقسم على نفسه سياسياً بشكل حاد) لينتج التزاماً مجتمعياً موحداً نحو التعاضد لتحقيق أمن واستقرار مدني يقوم على نبذ العنف السياسي والقضاء على المظاهر العامة المسلحة والجريمة. 

 

وقد تحققت كافة تلك الأهداف بعد جهود شخصية مضنية بذلها السعيدي وغطتها الوسائل الإعلامية المختلفة ولم تحتاج جهوده تلك خلالها إلى الدعم الحكومي الذي لم يكن متوفراً يومها بل إلى علاقاته بأطراف الثورة والشارع التعزي الذي عرفه من قبل نائباً برلمانياً مستقلاً ثم مرشحاً مؤتمرياً. وعملت جهوده ونزوله الميداني، واختلاطه واطمئنانه بما يمكن توفيره من احتياجات أفراد أمن المحافظة، ثم تكثيف زياراته للمكونات الاجتماعية المختلفة في المحافظة لتحقيق كل أهداف المرحلة الأولى بحيث عملت على اكتسابه إعجاب أهالي تعز مبكراً وتداولهم زياراته وأخبار جهوده على أخبار الصحافة ومقاطع الفيديو ووسائل الاتصال الاجتماعي المختلفة كونهم وجدوا في جهوده تلك ثماراً سرعان ما نضجت باتفاق إجتماعي واسع لجميع المكونات الاجتماعية على ضرورة تحقيق تلك الأهداف، وليس استخدام القوة المفاجئة في الوقت الذي لم تتفق فيه تلك الأطر المتباينة بعد على أي رؤية مستقبلية أو أسلوب لإنهاء خلافاتهم القائمة. بعدها، سرعان ما بدأ الهدوء في الرجوع إلى شوارع المدينة في وقتٍ لم يكن يجرأ فيه أحدٌ على الخروج من البيت بعد أذان المغرب عدا المسلحين والقوات الأمنية والعسكرية وبحذر، ولم يكن يجرؤ الجندي على المشي في الشوارع بزيه العسكري في أي وقت ليلاً أو نهاراً، كما بدأت بعض المظاهر المسلحة في الاختفاء بشكل لافت.

المرحلة الثانية

بعد ذلك التطور الأمني، بدأت إدارة الأمن في البدء بتنفيذ المرحلة الثانية "مرحلة استخدام القوة لإنفاذ بنود الاتفاق الاجتماعي الذي توصلوا إليه مع أمن المحافظة لغرض فرض الأمن" ساعدها في استمرار تنفيذ تلك المرحلة تعيين المحافظ الجديد أ. شوقي هائل ودعمه الكبير للخطة، حيث أتى دعمه للخطة في الوقت المطلوب. لقد أوجد شوقي الثقة لدى أفراد المجتمع باكتمال توفر عوامل الاستقرار الأمني والسياسي والاجتماعي ليمضون في أنشطتهم وليمضي المحافظ في تناول مشاكل الناس التنموية والخدمية وعلى رأسها نظافة المدينة التي عانى أهلها من تكدسها كثيراً.

مع بداية تنفيذ المرحلة الثانية، واستجابة لشكاوى العامة والأطر المجتمعية قامت إدارة الأمن بتغيير كافة قيادات أقسام الشرطة في المدينة بسبب عدم ثقة الناس بهم لسجلاتهم المخالفة السابقة. كما بدأت الكثير من المظاهر الأمنية المخالفة في الانسحاب تدريجياً وبشكل ذاتي وبدأ يتكون للجندي ثقة واحترام خاص بعد إظهار التزامه بالقوانين وانضباطه السلوكي، وبدأت بعض مظاهر المجتمع المدني في الظهور بحيث لم تشهد لها مدينة تعز أي سابقة مماثلة كان أهمها منع التجول بالسلاح في المدينة باللبس المدني ولو كان حامله عسكرياً أو ضابطاً في الجيش أو الأمن، ومنع مرافقو كبار المشائخ من اظهار السلاح إلا المسدسات التي أمرهم الأمن بإخفائها تحت ملابسهم وعدم إظهار أي جزء منها. ولم يستثن أحد من تلك الإجراءات حتى مرافقي المحافظ أو مدير الأمن. وكان جزاء المخالف أن يقطع السلاح المخالف إلى قطعتين أو ثلاث قطع بمناشير كهربائية اشترتها إدارة الأمن لذلك الغرض، بحيث يرجع السلاح المقطع الى صاحبه، كما تم مكافأة الجندي الذي يقوم بحجز السلاح على مبلغ من المال لتشجيعه على نبذ الرشوة. وكان من شأن ذلك أن اختفت المظاهر المسلحة بشكل شبه تام. كما مُنع التجول بملابس شبه عسكرية. وقد تحقق الاطمئنان الأمني العام بحيث صار بإمكان المواطن التجول في الشارع حتى منتصف الليل.

مواجهة شوقي والسعيدي

ما حدث مؤخراً بين المحافظ ومدير الأمن لم يكن إلا نتيجةً لاختلاف الأسلوب الإداري لكلا المسئولين في إدارة شئون المدينة، فأسلوب المحافظ يتسم بالحزم الشديد من البداية مهما كانت النتيجة كما عرفه الكثيرون من مسئولي المدينة ووجهائها، بينما يتسم أسلوب مدير الأمن بالحوار بالحسنى في بداية الأمر ثم الحزم بعدها كما اتسمت خطته الأمنية. لم تكن حادثة فرار 4 سجناء من السجن هي الحدث الذي أنتج هذا التباين بين الرجلين، بل انه حدث في وقت سابق أن قام شباب باعتصام مطلبي في مجمع حكومي بمديرية المخاء ورفضوا الانصراف منه، فقام المحافظ بتوجيه مدير الأمن بفض الاعتصام بالقوة ليرفض الأخير القوة معهم ويفضل اللجوء إلى التعامل التفاوضي معهم لينجح بانهاء الاعتصام بطريقته خلال ثلاثة أيام من بدئه الأمر الذي ولّد شعوراً بعدم رضا المحافظ، لكن تصرف السعيدي بطريقته كانت لاحساسه بالمسئولية تجاه اي نتيجة سيئة محتملة وتأثير ذلك على ظروف التهدئة وما يمكن أن يؤثر ذلك على الوفاق وعدم توتير الأجواء حسب أولويات المرحلة الانتقالية الوطنية.

عملت جماعة سياسية على إدخال مجموعة أسلحة إلى السجن المركزي بالمدينة تم دسها في فراغات داخل عدة كراتين وسماعات أعراس تحت ذريعة إقامة عرس لأحد السجناء بالتماهي مع بعض الشخصيات الأمنية الكبيرة المناصرة للنظام السابق بغرض القيام بتمرد مسلح في وقتٍ ما قريباً على غرار تمردات السجون في عدد من المحافظات لخلق البلبلة وفقدان الثقة في النظام الأمني للمحافظة. وفي الرابعة فجراً، نفذ المساجين تمردهم وقاموا بقتل ثلاثة جنود وفر اربعة منهم بينما واجه بقية القوة العسكرية اضطر بقية السجناء إلى التمترس في أحد مرافق السجن بأسلحتهم النارية. وصل مدير الأمن الموقع ونجح في انهاء التمرد سريعاً واعادة اعتقال الهاربين الأربعة في وقت لاحق، إلا السعيدي والمحافظ أقرا خطة لإخلاء السجناء إلى قسم منفصل في سجن النساء بغرض مسح كافة مرافق السجن وإخراج أي أسلحة مخبأة. حتّمت ضرورة لوجستية معينة على السعيدي تنفيذ خطة أخرى غير الأصلية التي اتفق عليه مع المحافظ لإخلاء السجناء إلى سجن النساء ونجح في ذلك تماماً وبدون أي كلفة بشرية أو غيرها لكن عدم التزامه بالخطة المتفق عليها عملت على استشاطة المحافظ غضباً الذي بدأ مصراً على تقصير السعيدي في تنفيذ الخطة الأصلية رغم نجاح العملية.

لعل أكثر ما عمل على تأزيم الأمور هو توقيف المحافظ للسعيدي عن العمل وتصعيده للحادث إعلامياً بدلاًُ من محاورته أو حصر المشكلة على الدوائر العليا فقط بالإضافة إلى استخدامه موقعه على "فيسبوك" للتوعد بالسعيدي" وتلفظه عليه بألفاظ غير ملائمة قياساً الى منصبه الرسمي. قابل السعيدي تلك التصرفات بعدم التصريح للصحافة إلا بتصريحه باستمراره في العمل على الحفاظ على أمن المدينة ليتصل به المحافظ بعدها مباشرةً للعمل على فض تظاهرة قام بها جنود منقطعون في أحد الشوارع الهامة ليستجيب السعيدي مباشرةً لتوجيهات المحافظ وينجح في فض التظاهرة بالتفاوض أيضاً. ومما سبق يبدو أن الموضوع لم يكن يستحق كل ذلك التصعيد الذي صنع منه إعلام الطرفين السياسيين المتخاصمين مادة دسمة لزيادة وقوده واشتعاله.

الخاتمة

لقد اتضحت موفقية تطبيق إدارة أمن محافظة تعز للمنهجية التي استخدمتها أثناء فترة من فترات الصراع في مدينة في شدة تعقيد الوضع السياسي والأمني والاجتماعي. وتلخصت خطة إدارة الأمن في التخطيط المنهجي العلمي السليم والمناسب، بالارتكاز أولاً على الحصول على اتفاق اجتماعي بين كافة الأطراف ينفذه خطة أمنية عسكرية. هذه الآلية الجديدة على بلادنا في الحفاظ على الوضع الأمني أظهرت نجاعتها في الظروف المحلية الراهنة وتتطلب أن يتم تقييمها ودراسة آلياتها ونتائجها وآثارها الاجتماعية والأمنية بالتفصيل ونسخ تطبيقها في مدن هامة أخرى إن أراد صناع القرار استعادة الأمن بشكل سلس ودون إثارة أي طرف إجتماعي.