يامسافر على بحر النيل .. أنا لي في مصر عليل
بقلم/ أمين اليافعي
نشر منذ: 17 سنة و شهر و 11 يوماً
السبت 13 أكتوبر-تشرين الأول 2007 08:25 م

مأرب برس – خاص

قيل أن للسفر فوائدٌ كثيرةٌ ومتنوعة. فهو ترويحٌ عن النّفس، وإبعادٌ للهم، وكسرٌ للشغف الذي يلازمك منذ نعومة الأظافر في إزاحة الستار عن المجهول والمختبئ والبعيد.. وفي الغابر عدد الأولون للسفر خمس فوائد ـ كما قال الشافعي ـ : ( تغرب عن الأوطان في طلب العلا وسافر ففي الأسفار خمس فوائد.. تفريجُ همٍّ واكتساب معيشة وعلم وآداب وصحبة ماجد)، وفي الحديث الشريف: (سافروا تغنموا).

وعندما تكون وجهت سفرك مصر، بلد العجائب والأسرار والجو المختلف عن أجواء الدنيا والنهر الواسع المليء بالحركة والحياة ـ كما يقول أبو التأريخ هيرودوت.. وصاحبة الحضارة العميقة والممتدة والتي تزاوجت فيها كل ثقافات وحضارات العالم القديم والوسيط والحديث مخلفة عنهم تراثاً يعادل ثلث تراث العالم (حسب إحصائيات منظمة التربية والثقافة والعلوم "اليونسكو").. عندما تكون وجهتك هذه البلد فالأمر أكيد جدّ مختلف خصوصاً وأنت عربي وما تمثله مصر بالنسبة للعرب في العصر الحديث من سطوة ثقافية وسياسية وإعلامية كبيرة وعميقة، فهي بلد نجيب محفوظ وهيكل وشوقي وطه حسين والعقاد ومحمد عبده وسيد قطب.. وهي بلد سيد درويش وعبد الوهاب وأم كلثوم وعبد الحليم ورشدي أباظة وفاتن حمامة وعمر الشريف وسعاد حسني.. بلد عبد الناصر وأحمد سعيد وقوميتهما الملتهبة، وحسن البنا وسلفيته " السيادينية ".. وبفضل هذه الريادة والسطوة شكلت مصر حضوراً عميقاً في الوجدان العربي على المستوى الثقافي والشعبي ، واستطاعت أن تدخل كل بيت عربي من أبواب متفرقة ، و تدخل معها أعلامها ونخبها، وتصبح جزءاً لصيقاً في السياق العربي اليومي، ويصبح من المألوف أن تسمع رجلا مغرق في الأمية أو الشعبية في أشد المناطق نئياً يُحمّلك "سلاماته وتحياته" ـ عند علمه بذهابك إلى مصر ـ لأحد الشخصيات الفنية أو الثقافية هناك، أو يوصيك بزيارة المكان الفلاني والعلاني وهو الذي لم يزرها قط، أو يكشف لك شوقاً تفيض به جوانحه للذهاب إليها.. وإذا كان من "اليمن السعيد" الذي يسحقه الفقر والبؤس والتخلف (بالتأكيد يُستثنى منهم الـ 5% ناهبو البلاد والعباد والذين يستطيعون الذهاب ليس إلى مصر فحسب بل وحتى إلى القمر!)؛ من الطبيعي أن يُسمعك أمنياته في الذهاب إليها ولو على أكف مرضٍ مستعصي لن يتردد أهله لحظة في "تسيفره" ولو اضطروا لدفع "دم قلبهم" !..

وهذا بالفعل ما حدث مع قريبٍ لي، كانت ظروف أسرته المادية بسيطة، فأسرّ لي ذات مرة: " أتمنى زيارتها ولو بلغ بي المرض مراتبه"، تنهد قليلاً، ثم استبد به حلمه؛ وأخذ يعدد لي من يتمنى أن يلتقيه هناك من ممثلين وفنانين، وما سيسعى لزيارته من أماكن كانت قد شغفته إليها الأفلام والمسلسلات وروايات نجيب محفوظ .. ولا أدري السر في سرعة تحقق مثل هذه الأماني؛ فالقدر لم يمهله طويلاً حتى أودعه فشلاً في القلب كان سبباً لزيارة مصر بضعة أيام لم يغادر فيها السرير، ثم ودع منها الحياة إلى الأبد دون أن يتمكن من مقابلة من تمنى أن يقابلهم، أو زيارة أي مكان غير المستشفى! وترَك أهله بعده غارقين في الحزن والديون!..

و ليست هذه فقط الحادثة الوحيدة التي شهدتها أو وصلت إلى مسامعي، فهناك كثيرٌ من القصص يمدّني بها أصدقائي أو ممن ألتقيهم تدور في ذات الفلك!.. فبعدما داهمت بيوتنا في السنوات الأخيرة الأوبئة والأمراض الخبيثة والنادرة كسيل العرم، ولفداحة السوء في الخدمات الطبية التي تقدمها مستشفياتنا لمرضاها، خرج اليمنيون كجرادٍ منتشر قاصدين الأرجاء طلباً لشفاءٍ يبدو أنه بعيد المنال حتى وإن أظهروا تمسكاً مستميتاً لنيله. ولما كانت مصر أرخص تكلفة ومعيشة عن بقية الدول بعد سقوط العراق التي كانت ال أكثر رخصاً في ظل الحصار، إضافة إلى حضور مصر الثقافي والاجتماعي، هرع الناس إليها ممنين أنفسهم بشفاء وحجة سياحية ـ في الوقت ذاته ـ للقبلة التي حلموا بزيارتها كثيراً والطواف بأرجائها وحواريها .. توافدوا على مستشفياتها وعيادتها فملئوها خصوصاً تلك المختصة بالأورام أو فيروسات الكبد، ولو قدّر لك أن تزور إحدى هذه المستشفيات لهالك عدد اليمنيين المترددين عليها ، ولبدا لك وكأن المكان يمنياً خالصاً أكثر من سفارتنا ذاتها ! وكما قال ر ئيس مجلس أمناء المؤسسة الوطنية لمكافحة السرطان عبد الواسع هائل سعيد أنعم : ( عدد المرضى اليمنيين بالسرطان أضعاف مضاعفه لعددهم في مصر رغم الفارق في عدد السكان )!.

و في مصر، وأنت تحمل المرض ، ستتغير نظرتك إليها كثيراً ، وستبدأ صورة مختلفة بالتشكل لديك ، لن تحس فيها بأي جاذبية تجاهها، فـ "التشوش" في المشاعر ـ وأنت مريض ـ يجتاحك تجاه كل ما في الدنيا ـ كما يقول الفرنسي "أندريه جيد" في رواية "الاأخلاقي"!.. لن تفكر أبدا في أي مغنمة أو فائدة تجنيها من سفرك، و كل همّك يصبح في التخلص من العلة التي تعتري جسدك عندما يخبرك الأطباء أن حالتك متقدمة، و أيضاً عندما تكتشف كمّاً مهولاً من العِلل الأخرى التي تستوطنك والتي تظهر بعد كل تحليل تجريه ، وستدعو الله من كل قلبك أن تقف هذا العلل عند حد معين، وكذلك التكاليف التي تجعلك تنفق كل ما فوقك وما تحتك وتمد يديك لطلب الدين والعون.. و في أخر المطاف، و بعد طول عناء وخسائر كبيرة ، ستجد نفسك أمام طبيب ٍ قد تصلبت مشاعر ه من طول الممارسة ومعايشته للأمراض يخبرك بكل بساطة ويسر أن حالتك ميئوس منها، وما عليك إلا أن تعود إلى بلادك لتموت بين الأهل!..

ولأن المرض يصرف الإنسان عن "هندامه " الخارجي إلى الا نشغال فقط بـ"هَندمَة" أعضاء جسده .. ولأن شظف العيش وقسوة الطبيعة يتركان اثرهما على الملامح .. أصبح ليس من الصعب في مصر التعرف على " تعيس ٍ" قادم ٍمن أرض "السعيدة" عن طريق ملابسه البالية غير المنسقة، وجسده النحيل ـ القصير غالباً ـ الذي ينتهي علوه بوجهٍ أصفر ٍ محروق ٍ ورأس ٍ أشعث ٍ أغبر، لدرجة أن كثيرا ما يتقاطر إلى مسامعك وأنت تمشي في السوق أو الشارع من يشير إليه من المصريين ويناديه بتلذذ "يا بو يمن" ـ خصوصاً سائقي التاكسي .. وهذا الشيء المميز جعل اليمنيون صيداً سهلاً لكثير من عصابات النصب والاحتيال حتى وصل الأمر إلى وجود عصابات تتبع جهات رسمية كالشرطة السياحية تقوم بالنصب على اليمنيين " فقط " وبشكلٍ مستمر.. فهم يعلمون جيداً أي دولةٍ لدينا، وكيف تتنصل تنصلاً كاملاً عن أي مسئولية تجاه مواطنيها، والوقوف في وجه كل من تسول له نفسه ابتزازهم أو النصب عليهم في الداخل أو الخارج!.. وأصبحت العادة أن تجد مجموعة من "المُقدّمين" و "الضباط" بسيارات وملابس مدنية يترصدون لليمنيين في كل مكان ، ويستوقفونهم في الشوارع شاهرين أمامهم بطائقهم الرسمية، وملبسيهم تهم حيازة أو تهريب "عملة مزورة"، ثم يطلبون منهم أن يركبوا سيارتهم ، ويأخذوا كل ما معهم من نقود بدعوى التأكد منها، ثم يقتادوهم إلى جهة مجهولة ليرموهم فيها، وأمام قاماتهم الفارعة وأجسامهم المفتولة لا يملك اليمني الهزيل إلا التسليم بالأمر الواقع!.. ولن يرد له حقه قيامه بالإبلاغ في قسم الشرطة عن الحادثة ورقم السيارة التي اقتادته ، أو تقديم شكوى للسفارة.. فسفيرنا على دين مَلكه، مشغولٌ كثيراً بصناعة مجده الشخصي فقط ، ولن تتحرّك له شعره لو ذهبت جميع رعاياه إلى ستين جحيم!..

 وبعد الزيارة القصيرة أو الطويلة لمصر والتي كانت حلم العمر، يعود اليمنيون ممن أخطأهم الموت إلى ديارهم حاملين المرض بعدما أصبح وضعهم المتقدم مستعصي على الطب فيها، وبعضهم ممن تعرضوا للنصب يعودون دون أن يكملوا الفترة العلاجية المحددة لهم من قبل الأطباء.. يعودون وفي ذاكرتهم الكثير من الأسى عن مصر وطريقة استقبالها لهم، وتعاملها معهم ومع مرضهم الذي يشوبه الإهمال والتجاهل والنصب في كثير من الأحيان.. فمصر أصبحت في عيونهم ليست الهرم والنيل الكبير الواسع المليء بالحركة والحياة، وليست كما في الأفلام والمسلسلات والروايات.. مصر بعيني المريض خصوصاً وهو يحمل جوازاً يمنياً (أسود اللون كما أراه !) أصبحت عبارة عن ثالوثية محضة (مرض ـ نصب ـ موت)!.. وسفره يصبح غير السفر المألوف، فلا مغانم منه سوى النصب والموت!.. وتموت لديه أي رغبة لاستطلاع المكان، ويفقد الشهية في إزاحة الستار عن المجهول والمختبئ في هذه الأرض،.. وتصبح أمنيته الوحيدة التي يقولها لك عن إيمان داخلي عميق: "ليتني لم آت إلى هذه الأرض"!!.. فقبل أن يأتي ـ حتى وإن كانت رائحة المرض تقطر منه مع كل حبة عرق في نهارٍ صيفيٍّ حار ـ يوجد عنده أمل في قشة ولو واهية يُمنّي نفسه أنه لو أمسك بها لأنجته من غرق الموت أو الألم، أو على الأقل لبقي في جيبه الصغير بعض الفتات، ولبقيت الأحلام والصور الجميلة عن مصر كما هي، فمن الصعب أن يتكسر في الإنسان كل شيء حتى الأحلام !..

عيدكم مبارك، كل عامٍ وأنتم بخير، وجنبكم الله المرض والسوء.

*كاتب وأديب يمني مقيم في القاهرة