لماذا يمرض حكام إسرائيل ويبقى حكامنا أصحاء؟
بقلم/ دكتور/فيصل القاسم
نشر منذ: 17 سنة و أسبوعين
الخميس 08 نوفمبر-تشرين الثاني 2007 08:50 ص

في اللحظة التي أعلمه فيها الأطباء الإسرائيليون بأنه مُصاب بورم صغير جداً في البروستات قابل للشفاء من خلال عملية جراحية بسيطة، خرج رئيس الوزراء الإسرائيلي إيهود أولمرت على الفور من المستشفى ليعقد مؤتمراً صحفياً عاجلاً يخبر فيه الإسرائيليين بأنه مريض. لم يترك الأمر للقيل والقال كما يفعل كل الزعماء العرب تقريباً، بل انبرى بنفسه يطلع الداخل والخارج على أدق تفاصيل مرضه. وبذلك فوّت على الصحافة الإسرائيلية والدولية فرصة ثمينة للصيد في الماء العكر، وفبركة الروايات والتكهنات، ونسج حكايات خيالية عن مرض الرئيس، كما هو الوضع في عالمنا السياسي العربي الغارق في الغموض والدجل والتعتيم.

لاشك أن الشعب العربي من المحيط إلى الخليج هرش رأسه فور سماعه خبر مرض أولمرت، وتساءل: لماذا يعرف الإسرائيليون بمرض زعيمهم بعد لحظات، أما نحن فيصاب زعماؤنا بمائة مرض ومرض خطير، ليس أقلها الخرف، ولا أحد يعلن عنها؟ متى علم العرب بأمراض حكامهم وعاهاتهم المزمنة إلا بعد أن أصبح متعذراً جداً إخفاؤها، أو التستر عليها، أو تزيينها، أو في أحسن الأحوال بعد سنوات وسنوات من حدوثها؟

حلاوة الزعيم العربي أنه لا يمرض أبداً، بسم الله، ما شاء الله، دقوا على الخشب! وإياك ثم إياك أن تفكر أنه مريض أو مصاب حتى بنزلة برد خفيفة. لا إطلاقاً، فهو دائماً وأبداً كالحصان الجامح يزينه شعر أسود كسواد الليل، ويستطيع أن يدير أمور الدولة حتى في سن التسعين. إنه (اللهم لا حسد) في شباب دائم لا يأتيه الزكام من بين عينيه ولا من قفاه، ولا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه. وإذا فكر أحدهم بالهمس حول اعتلال صحته فالويل له والثبور وعظائم الأمور. من أذن لكم أيها الصحفيون الملاعين "الكذابون الأفاقون" بنشر أخبار باطلة ملفقة عن صحة القائد؟ والله لأعلمنكم درساً لن تنسوه أبداً. سأجرجرنكم إلى المحاكم القراقوشية المزيفة، ولأسجننكم في زنازين تحت الأرض، ولأجلدنكم كي تتعظوا، وتفكروا مليون مرة قبل أن تحلموا، أو تتكهنوا بمرض زعيمكم، أو بالأحرى "بيتر بانكم" ( Peter Pan ) الخالد.

لقد تماهى معظم الأنظمة العربية مع العدو في الكثير من سيئاته، كالبطش، والوحشية، والحكم بموجب خرافات وسلالات دينية وعنصرية، وتسخير البلاد لصالح العسكر، لكنها لم تفكر قط أن تتعلم من ذلك العدو جزءاً يسيراً من حسناته، كالشفافية في التعامل مع الشعوب مثلاً. فلولا الشفافية بين الحاكم والمحكوم لما عرف الإسرائيليون أبداً بمرض رئيس وزرائهم، ولربما مات، ولم يعلم أحد سبب موته، ولظل شارون على رأس السلطة أعواماً وأعواماً، ولفبركوا له عشرات الصور لتظهره في صحة جيدة ووجه بشوش وشعر فضي لامع على شاشات التلفزيون وصفحات الجرائد، كما هو حال العديد من الحكام العرب المقعدين عملياً والحاكمين نظرياً.

وكأن المرض عيب في أقانيم حكامنا، بينما تنص القوانين الإسرائيلية على أنه في حال خضوع رئيس الوزراء لعملية تخدير بسيطة تنتقل الصلاحيات الدستورية إلى نائبه فوراً، لا بل إن الأصوات تعالت في إسرائيل لإصدار قانون يلزم رئيس الوزراء بتقديم تقرير موسمي عن وضعه الصحي بعد الذي حدث مع شارون.

أما في عالمنا العربي المريض شعوباً وحكاماً، فيخضع الزعيم لعشرات عمليات التخدير، والتطويل، والتقصير، والتجميل، ولا يعرف بها غير المقربين الكتومين، لا بل يمرض بعض قادتنا أمراضاً خطيرة جداً، ويصلون إلى حافة القبر، ولم يعينوا حتى نائباً لهم يدير البلاد من بعدهم بعد عمر وحكم أطول من الطويل.

لا أدري ماذا كان سيحصل للولايات المتحدة الأمريكية مثلاً لو لم تكن دولة ديمقراطية تتناوب فيها الأحزاب والرؤساء على الحكم. فكلنا يعرف مثلاً أن الرئيس الأمريكي الشهير رونالد ريغان قد أصيب قبل خروجه من السلطة بمرض "ألتسايمر"، أي الخرف الذي يُفقد الإنسان ذاكرته، ويحوله إلى شخص خرٍف يهذي طوال الوقت. وهذا ما حصل للرئيس بالضبط عندما بدأ يقول أشياء، ثم ينسى أنه قالها قبل دقائق. ولو لم يكن هناك تناوب على الحكم في أمريكا لظل الرئيس ريغان حاكماً شاء من شاء، وأبى من أبى، حتى لو لم يستطع أن يميــّز" كوعو من بوعو"، ولاستطاعت حاشيته أن تتستر على خرفه، وأن تحجب مرضه عن أنظار الشعب الأمريكي ومسامعه لأعوام وأعوام. وهذا أمر في غاية السهولة في البلدان العربية. فكم من الزعماء الذين نفد زيتهم، وماتوا، وشبعوا موتاً، لكنهم ظلوا يحكمون، ويمتعوننا بطلاتهم "البهية" قسراً، ويسوموننا "المذلة والنكالا"، كما قال ذات يوم الخليفة الأموي الوليد بن يزيد.

هل ننسى أن أحد القادة العرب كان يوقع بعض القرارات والمراسيم وهو على فراش المرض؟ وقد روى بعض وزرائه أن زعيمهم كان يبلل ثيابه معظم الوقت بعد أن فقد القدرة على التحكم بوظائفه الفزيولوجية بحكم الاعتلال الصحي والتقدم الشديد في العمر. لكنه مع ذلك أبى إلا أن يسّير الدولة، ويحكم إلى آخر قطرة من.....

وكم من زعمائنا مرضوا، وخرفوا، وماتوا سريرياً، وظل الإعلام الرسمي يُظهر صورهم على شاشات التلفزيون بصفاقة وكذب مفضوح، وهم يستقبلون، ويودعون ضيوفهم، أو يوقعون مراسيم، أو يجتمعون بأعضاء الحكومة، مع العلم أن بعضهم كان غائباً عن الوعي، ولا يستطيع الحراك. لا بل إن البعض أبدى غضباً شديداً لأنه لم يتسلم الحكم بالرغم من أنه كان منتهياً تماماً صحياً. ومما يبعث على السخرية أيضاً أن الحزب الحاكم في إحدى الدول العربية أعاد انتخاب رئيس الحزب بالرغم من أنه مصاب بمرض عضال، وهناك خشية من أن يموت في أي لحظة.

هل سيأتي اليوم الذي سيصارح فيه الحكام العرب شعوبهم بأمراضهم، كما يفعل أعداؤنا الأقربون، أم أن الشعوب العربية ستظل تكرر ما قاله الرهبان بعد موت الديكتاتور الإسباني فرانكو؟ فقد دخل الأخير في غيبوبة لأسابيع عدة قبل موته، حيث كان كبار رجال الدين يزورونه يومياً، وفي اليوم الأخير خرج الرهبان وهم يصيحون مندهشين: "معجزة.. معجزة.. لقد مات"

fk@fkasim.com