عبد ربة الجنرال الصاعد من وسط دخان حرب 1994م
بقلم/ محمد العلائي
نشر منذ: 16 سنة و 10 أشهر و 16 يوماً
الخميس 10 يناير-كانون الثاني 2008 04:15 م

كلما تحركت المياه في الجنوب، يخرج الفريق عبد ربه منصور هادي لممارسة هوايته العزيزة على قلبه: السباحة.

فالجنرال المخضرم، الذي يسير في الـ63 من عمره، والقارئ الشغوف للسير السياسية والتاريخ العسكري، عاد لينبض بالحياة منذ منتصف العام المنصرم 2007، حين بدأت "النقمة الفاضلة" تدب في شرايين الجنوبيين. لقد أخذ يتصدر، على غير المعتاد، وبشكل دؤوب، واجهة الأحداث في الإعلام الحكومي.

الأربعاء الفائت كان عبد ربه منصور هادي الفضلي، نائب رئيس الجمهورية، والقائد العسكري البارع والصموت، الذي حاز على درجة الأركان في روسيا بموجب دراسة حول "الدفاع في المناطق الجبلية في استراتيجية الحرب"، يدشن العام التدريبي والقتالي 2008 "في الحرس الجمهوري والقوات الخاصة"، بمعية نجل الرئيس العميد الركن أحمد علي عبد الله صالح قائد الحرس الجمهوري والقوات الخاصة.

بالنسبة للرجل الذي يظهر حليق الوجه على الدوام، والمحب لرياضة السباحة، كان الأربعاء يوماً حافلاً. ففي اليوم نفسه حضر أيضاً مراسم تدشين عام التدريب والقتال لقوات الدفاع الجوي. إنه يمخر عباب مياه حركتها ملعقة المتقاعدين جيداً، بعد 14 عاماً من السكون المريب. 

الجيش قوة، رادعة ومفصلية، في يد الرئيس (القائد الأعلى للقوات المسلحة منذ توليه الحكم في 1978)، لا ريب في ذلك، وبالتالي ليست فكرة مطمئنة أن يعتلي الجنرال الجنوبي منصة ميدان مدرسة القوات الخاصة ويلقي خطبة حماسية منمقة.

بالطبع هو لم يقل أكثر مما يجب عليه في مقام لا يعنيه بأي حال. فإلى كونه نقل في "مستهلها تحيات وتهاني الرئيس القائد"، فقد أبدى انبهاره بما أطلق عليه :"الانضباط الحديدي الصارم" الذي تتمتع به القوات الخاصة.

رغم كل شيء، لم تكن كلمة الفريق مجزية بما يكفي، إذ كان لا بد أن تصغي آذان "المقاتلين" في مطلع عام سياسي متجهم إلى كلمات من القائد، علاوة على خطبة نجله أحمد.

هناك ما يمكن أن يُستشف من الحضور، غير المعهود، الذي بات يسجله نائب الرئيس، أقله في ظل مناخ سياسي وعاطفي جنوبي عاصف.

فلئن حاول عبدربه منصور هادي، المولود في أبين 1945، والذي توفي والده عندما كان في السابعة من العمر، إبداء قدر من النشاط، فليس مرد ذلك إلى كونه نائباً لرئيس الجمهورية، بل بصفته مسؤولاً جنوبياً ينبغي عليه أن يؤدي دوراً ما للجم الأصوات التي تنادي بتمثيل عادل للجنوبين في السلطة.

وإذ أورد هذه البدهية، فلكي نصل إلى توصيف دقيق للأدوار التي يضطلع بها الرجل منذ ما بعد أحداث 13 يناير 86 الدامية.

يشبه الأمر لعبة البولينغ، التي تبدو قواعدها أكثر سهولة من سواها. لكن البولينغ السياسية، إن صح التعبير، شديدة التعقيد لكنها ممتعة في نهاية الأمر.

ببساطة، هناك دائماً في لعبة البولينغ ثلاثة عناصر: مضمار، وكرة قذف، وأوتاد.

في صيف 94 أتقن الرئيس علي عبدالله صالح هذه اللعبة بمهارة فائقة، حين أدى عبد ربه منصور هادي وفريقه (المحسوب على الزمرة) دور كرة القذف.

لقد تدحرجت الكرة على المضمار بشدة، فأطاحت بالأوتاد جميعها (فريق الطغمة) إلى الهاوية.

إنها تسديدة صائبة وساحقة في آن.

سارت الأمور بهذه السهولة، لا أكثر ولا أقل. فعندما تفاقمت الأزمة بين رئيس الجمهورية ونائبه علي سالم البيض، كان الضابط المرموق عبد ربه منصور يتأهب للانقضاض على الخصم الذي تسبب في تقويض حلمه السياسي.

فبعيد أحداث يناير كان قد نزح إلى الشمال رفقة الرئيس علي ناصر محمد، الذي مني بالهزيمة. وفي الشمال شكل العقيد عبد ربه "ألوية الوحدة"، وهي عبارة عن وحدات عسكرية نزحت في حرب يناير الأهلية الفظيعة في عدن. في 1994، حينما شغل قيادة محور البيضاء كانت الحرب تزمجر في عموم محافظات الجنوب. كانت الفرصة مواتية كي يشفي غليله من "الطغمة" التي يضمر لها ثأراً دفيناً. راح العقيد يقاتل بجدارة، مسلحاً بمقدرة حربية ممتازة، وكم هائل من المعلومات اللوجستية بالغة الخطورة (كان من شأن المعلومات التي أفشوها لصالح إسقاط قاعدة العند الذي مهد لسقوط عدن تالياً).

في خضم الحرب بدأ اسمه يتصدر الأحداث. فعين في اللحظات الحرجة وزيراً للدفاع وقائداً لجبهة عدن. إنها لحظة فارقة في حياته.

فقد أخذ يصعد خطوة خطوة. وازداد نجمه لمعاناً. وفي 4/10/94، بعدما استبدل الرئيس الشكل الرئاسي الجماعي (مجلس الرئاسة)، أصدر قراراً بتعين اللواء عبد ربه منصور هادي نائباً له.

بدا القرار غير منصف بالنسبة للجنوبيين، لاسيما رفاقة (أبناء أبين بالتحديد) فقد شعروا بالتململ. ذلك أن الرجل، وإن قدم للرئيس صالح ما يستحق المكافأة، ليس أكثر جدارة منهم كما يعتقدون.

في الدستور يعين الرئيس المنتخب نائباً له، بيد أن مواد الدستور لا توكل للنائب مهمة بعينها على الإطلاق. إنه نائب فحسب. ومن الواضح أن هذه إحدى نقاط الافتراق التي أثارها على سالم البيض، أي فكرة أن يكون النائب منتخباً وتعهد إليه بمهام على غرار الرئيس.

الرئيس علي عبدالله صالح لم يعين النائب منصور هادي إلا مرة واحدة: في 94. في الوقت الذي يقضي الدستور في المادة 108 بأن يصدر الرئيس المنتخب قراراً بتعين النائب حالما يفوز.

بعد انتخاب الرئيس في 1999 كانت هذه القضية موضع جدال، لكنه لم يصدر بشأنه أي قرار، فضلاً عن انتخابات 2006. ما يعني أن بقاءه في ذات المنصب متعارض مع نص الدستور رغم أن النص لا يعطيه أكثر من الصفة: نائب الرئيس.

الحري بالتمعن هو الغموض المطبق الذي يلف علاقة الجنرال الجنوبي مع المارشال الشمالي.

في 2002 مرت علاقتهما بفترة تضعضع كادت تنتهي بانفراط مدو. فحين تأسس ما سمي بـ"ملتقى أبناء المحافظات الجنوبية"، كان الإعلام الرسمي يشير إلى نائب الرئيس بالبنان، همساً وجهراً. وإن كانت المطالب التي رفعها الملتقى هي نفسها فحوى مطالب المتقاعدين الآن، فقد قوبلت من الحكم بهجوم لا هوادة فيه، واتهم بالضلوع فيه، حسين محمد عرب وزير الداخلية الأسبق، وأحمد مساعد حسين، والاثنان محسوبان على نائب الرئيس عبد ربه منصور هادي.

بطريقة ما سويت الخلافات، وعاد عبد ربه أدراجه، بعد أن كان التحالف يلفظ أنفاسه الأخيرة (راجت في تلك الفترة شائعة عزله من منصبه فاضطرت صحيفة الثورة إلى نفي الخبر). لقد عادت المياه إلى مجاريها.

الآن الجنوب محتدم. فهل ما يزال الفريق قادراً على لعب دور كرة البولينغ في الجولة القادمة؟ المحتم أن الرجل هذه المرة سيطوح بنفسه قبل أي شيء آخر. فالرئيس لم يعد ماهراً وقوياً بما يكفي، إلى جانب أن الأوتاد شديدة الثبات والصلابة.