تبدأ الحروب حين تنتهي
بقلم/ محمد الظاهري
نشر منذ: 16 سنة و 3 أشهر و 13 يوماً
الجمعة 08 أغسطس-آب 2008 02:09 ص

يا باب مدرستي المخلوع، ما الذي تفعله مجنزرة متجهمة مكانك؟.

أتدري.. حين كنا طلابا أشقياء لا تثقلهم أحلامهم الكبيرة، لم نكن نحبك.

كان سيفرحنا أنك غير موجود، حتى لا يوصدك مدير يبكر يوما في الشهر في وجوه صغيرة توردت خدودها وأنوفها في صباح شتاء بارد وهي تحاول ألا تتأخر. وأزهرت على جباهها قطرات باردة كأنها الندى.

لا أدري لماذا يؤلمني اليوم رؤيتك مخلوعا؟، يقولون أنك لم تتسع لمصفحة أرادت عبورك، فاقتلعتك. ألم تكن تتسع لأحلامي؟.

ربما حاولت منعهم من جعل مدرستي معسكرا فقتلوك، جعلوك جزءا من حرب مضحكة.

فناء مدرستنا خلفك، ملعب الكرة الذي أتعبناه ركضا في كل اتجاه بحثا عن "هدف" صار محشوا بأدوات كثيرة بمقدورها أن تركض أيضا، وتبحث عن هدف.

كانت أهدافنا سببا للهتاف، وتصفيقا ما زال يذكره الفناء مثل أغنية، وأهدافها سبب للعويل، دوي ستبقى تردده شواهد القبور.

ترنيمة حزينة سترافق الطريق إلى المقابر، وتعثر فيها خطى الثكالى والأرامل واليتامى. سيرددها صوت دمعة تسقط من قلب أم، وزفرت تضج من صدور فتية تهاوت فيها كل الأماني والأغاني الضاحكات.

سطح مدرستنا الذي طالما حلمنا برؤيته يوما دون جدوى، سكنه رشاش كبير، ومحشو برصاصات أكبر من أيادينا التي كانت، وجندي لا ينتظر الموت فوق سطح مدرسة.

مدرستي صارت ثكنة عسكرية، وقريتي الصغيرة محاصرة بالموت ليحميها من الموت، هكذا يقولون.

صعده كلها بقايا ميدان حرب، الطريق بيني وبينك يا باب مدرستي استبدلت أثار أقدامي بوقع مخيف، منزل صديقي الذي طالما اختبأنا فيه من لا شيء لم يجد ملاذا.

مزرعة صديقي نجيب الذي جمعت فيها أشلاء أول درجة هوائية امتلكها، أصبحت أشلاء لا تدري من سيجمعها، ذاكرتي كلها صارت منقوشة بآثار المجنزرات والخراب.

هنا مررت يوما بحثا عن منزل "نهرو" السوداني ليعلمني كيف امسك ريشة؟، كيف ارسم الحب كما يفعل؟، كم كان مهووسا بالمكان؟، حتى صخور صعده رسمها.

ذات يوم نظم معرضا لرسومه في المدرسة التي لم تعد مدرسة، كانت هناك على الأقل ست لوحات للصخور، وأجزاء من جبال بركانية خيمنا فيها يوما في رحلة سافرة.

أربعة أعوام أعادت محافظتي ألف عام إلى الوراء. أربعة أعوام لم تستطع حل أحجية صغيرة: "لماذا؟".

وأبي يردد كل يوم: "ما همني ما أكل الذيب، لكن شماتة الرعيان"، إنه حزين من أجل جيش طالما أشعرنا بالفخر، جعلوه يطارد أشباحا.

حزين من أجل كل الجنود الذين شاركهم بعض أحلامهم أثناء وجبة إفطار، أو فترة استراحة بالقرب من قريتنا، كل الرجال الذين أعجبته بزاتهم الصارمة فحاول دفع أبنائه إلى صفوفهم.

حزين من أجل كل الذين غادرونا دون أن يدري لماذا؟.

عذرا أبي، وعذرا يا باب مدرستي، لا أحد يجرؤ على قول الحقيقة، كيف بات آلاف الأبرياء مشردين دون مأوى؟، وكيف يقال لهم عودوا إلى منازلكم؟.

كيف يتحدثون عن مشروع المياه ِكأول برامج التعويض؟ رغم أنه لم يكن هناك مشروع مياه؟ كانت هناك حياتنا، ومنازلنا التي يتجاهلونها.

يا باب مدرستي لن يخبرك أحد لماذا خلعت؟

.........يتبع