انهيار الريال اليمني والسقوط في الهاوية
بقلم/ ميساء شجاع الدين
نشر منذ: 6 سنوات و شهر و 14 يوماً
الأربعاء 10 أكتوبر-تشرين الأول 2018 09:00 ص
 

يهدّد الانهيار المتسارع للعملة اليمنية الملايين بالجوع، فقبله انقطعت رواتب القطاع الحكومي، وبالتالي أصبحت مئات الآلاف من الأسر بلا دخل، وهي أسرٌ كانت تعتبر ضمن الطبقة الوسطى، وفيما تعرف بالأسر المستورة. وفي أثناء انقطاع المرتبات عامين، باعت هذه الأسر كل ما وفرت وامتلكت، بما فيه عفش المنزل، وتقلصت احتياجاتها، حتى صارت بالكاد تغطي لقمتها يومياً. كما أن مصانع وشركات خاصة كثيرة توقف عملها، بسبب ظروف الحرب، ولن تستطيع بقيتها الصمود أمام هذا الانهيار الجديد، وهذا يعني تسريح الآف الموظفين، لتنضم آلاف الأسر لصفوف الجائعين، وهي التي لم تعرف السؤال والحاجة من قبل. أما الطبقة التي كانت بالكاد تعيش قبل الحرب فقد أصبحت أشد جوعاً وحاجة، بعد أن ضعفت قدرة المجتمع على مساعدتها، ولم يعد التكافل الاجتماعي قادراً على تغطية أعداد المحتاجين المتزايدة. وهذا يعني أن انهيار العملة، بما يعنيه من ارتفاع جنوني لأسعار مواد غذائية أساسية كانت عزيزة المنال بالأصل، سوف يطيح ملايين نحو المجاعة بعد أربع سنوات حرب، وعامين من انقطاع مرتبات أفقدت كثيرين كل أدوات الصبر التي تؤجل حاجتهم وجوعهم. 
تتبادل أطراف الصراع في اليمن مسؤوليتها عن هذا الانهيار، فالتحالف يتعامل معه باعتباره شأنا داخليا، وكأنه ليس طرفا في هذه الحرب، يجب أن يتحمل مسؤولية تدخله، كأية قوة عسكرية تدخلت في صراع دولة أخرى، والأمثلة على هذه كثيرة. صحيح أن التحالف لا يستطيع دعم حكومة شديدة الفساد، تبتلع أية أموال تصل إليها، لكن بإمكانه فرض آليات رقابةٍ خاصةٍ به للأموال التي يقدمها. الأهم أنه كان في الوسع فتح الباب للعمالة اليمنية، أوعلى الأقل استثناؤها من إجراءات التسريح. أما الأطراف الداخلية، من حكومة وحوثيين، فلم تعد اتهامات الفساد والفشل بشأنها تستدعي أدلة من شدة وضوحها، وقد صارت ملامح الثراء المادي، أو على الأقل الارتياح، ظاهرة ومكشوفة، من خلال شراء العقارات، في الخارج بالنسبة لأعضاء الحكومة، وفي الداخل بالنسبة للحوثيين. 
يعود اتساع ظاهرة الفساد إلى عدة أمور، أبرزها أن الفساد تحوّل إلى ثقافة بعد سنوات طويلةٍ  "أصبحت سرقة المال العام جريمة غير مستنكرة في وعي الناس وضمائرهم"من الفساد والإفساد التي مارسها نظام علي عبدالله صالح، لتصبح سرقة المال العام جريمة غير مستنكرة في وعي الناس وضمائرهم. وتفاقمت الظاهرة بعد الحرب، مع تلاشي كل آليات العمل المؤسسي، حيث إن الحكومة والحوثي يعملون كأشخاص بلا أية أشكال مؤسسية، وفي غياب كل أشكال الرقابة من إعلام ومجلس نواب وقضاء، ما دفع الجميع إلى التعامل مع الموارد التي تصل إليها يداه مالاً سائباً، تسهل سرقتها بالكامل، وهكذا تضاعف الفساد في وقتٍ شحّت فيه الموارد، بشكلٍ لم يعد يحتمله مجتمعٌ كان فقيرا قبل الحرب. 
أدّى هذا الهلع والتهافت على الفلوس والسرقة من دون أدنى شعور بالمسؤولية ووخز الضمير، وهو هلع لا يقتصر سببه على الاختلال القيمي والأخلاقي الذي أصاب المجتمع اليمني جرّاء عقود من حكم البلد بشكل فاسد، بل أيضاً جرّاء عوامل نفسية وإنسانية تحكم كل طرف، لأنه يشعر بعدم الأمان والعزلة المجتمعية، ويتعامل مع الحرب باعتبارها فرصة وحيدة للإثراء، فالحوثيون يعلمون أن وجودهم صار مرتبطا بالحرب، غير شعورهم بالعزلة داخل مجتمع حضري مختلف عن بيئتهم الريفية والفقيرة الموارد. كما يشعرون بهذا النفور المجتمعي ضد جماعتهم التي تتعامل بشكل متعجرف وانتقامي ضد المجتمع، بل اعتبر الحوثي الحرب عذرا أخلاقيا لابتزاز الناس وسرقتهم، وكأن الحرب صارت أداة تطهيرية للجماعة التي تسبّبت فيها. 
في المقابل، الحكومة التي لا تختلف عن الحوثي بشعورها أن الحرب فرصتها الأخيرة بالثراء لأن بقاءها مرهون بوجود الحرب، وسيتم التخلص منها مع أية تسوية سياسية، بالتالي يعلم أفرادها أن مستقبلهم السياسي احترق، ولم يتبق لهم سوى الإثراء بفحش، خصوصا أن معظمهم تم توظيفه بالواسطة بدون مؤهلات. 
تعزّز شعور هذه الحكومة بالعزلة المجتمعية هو الفجوة التي أحدثتها الإقامة الطويلة خارج اليمن، ما جعلهم في حالة استرخاء لا يعانون من سوء الخدمات وانفلات الأمن التي يعاني منها بقية المواطنين، فلم يعودوا يشعرون بالحرج من احتفالات زواج باذخة في الخارج. وأخيراً، في يوم الاحتفال بثورة 26 سبتمبر، ظهرت صور مبتهجة للرئيس ودائرته الضيقة وهم يقطعون "الكيك" للاحتفال، هكذا ببساطة واسترخاء من دون شعور بمسؤولية تجاه بلد فيه مجاعة يحتاج لحضورهم للعمل في الداخل، وليس الاحتفال بعيداً. 
وتتألف هذه الحكومة من 37 وزارة في بلدٍ لا يحتاج إلى معظم هذه الوزارات، ولا يستدعي أكثر من عشر وزارات ضرورية حدا أقصى. أضف إلى هؤلاء عشرات الوكلاء لكل وزارة، بلغت إحداها عشرين وكيلاً، أما الرئيس عبد ربه منصور هادي فتجاوز عدد مستشاريه الخمسة عشر، إضافة للسلك الدبلوماسي الذي تضخم بموظفين، معظمهم من خارج الوزارة، وهذا كله خارج اليمن وبلا عمل. ليس هذا فقط، بل تضاعفت المرتبات وصارت تفوق مرتبات هذه الوظائف عندما كانوا في اليمن، ولا شيء يصف هذا التضخم الوظيفي، والأسوأ منه التضخم في المرتبات المستلمة بالدولار، سوى أنه فساد مقنن. لعل أكبر مثال يوضحه مرتبا محافظ  "صارت اليمن بأشد الحاجة لنخبة سياسية مختلفة"البنك المركزي ونائبه، حيث كان المحافظ يستلم مرتب الوزير نفسه، لكن مرتب المحافظ الحالي تضاعف عشرات الأضعاف، فهو يفوق مرتبات الوزراء، بل يفوق مرتبات نظرائه في أوروبا، مع فارق أنه لا يدفع ضريبة، وهذا مفهوم إذا علمنا أنه مرتبٌ أقرب إلى رشوةٍ للرجل الذي سوف يمرّر كل المدفوعات حسب رغبة الرئيس، من دون شفافية أو رقيب. 
عوضاً عن أن تتّخذ الحكومة إجراءات تقشّفٍ تتناسب مع الانخفاض الحاد لموارد الدولة، تضاعفت المرتبات وبدلات السفر وأعداد الموظفين غير المؤهلين، وبدون دواعٍ وظيفية، لتتساوى الحكومة مع الحوثي الذي يتخذ من الحرب ذريعةً لتفاقم المعاناة، من دون أن يحمل مسؤوليته طرفا صاحب سلطة، تتعذّر الحكومة أيضاً بالحوثي، مستخفةً بالموارد التي لديها، وهي موارد، على الرغم من محدوديتها، تعبث فيها الحكومة. 
لن تستطيع منظمات الإغاثة والحلول الإسعافية، مثل الودائع المليونية، إنقاذ الملايين من المجاعة، والأخطر أيضاً التداعيات السياسية لهذه المجاعة التي قد تؤدي إلى فوضى، أو تدفع إلى تحرّكات شعبية، بلا قوى سياسية، أو قياداتٍ تعبّر عنها لتتحوّل ببساطة إلى فقاعة غضب، تستفيد منها بعض الأطراف الخارجة عن معادلة التمثيل السياسي الحالي، وهما المجلس الانتقالي الجنوبي وشظايا حزب المؤتمر الشعبي العام (الموالي لصالح سابقاً). ودخول هذه القوى يعني مزيدا من الارتهان للخارج، وتغير معادلة السياسة في اليمن من حكومة شرعية وانقلابيين إلى حرب أهلية أوسع نطاقاً وأطرافها أكثر تعدّداً، وبضياع المرجعية السياسية المتمثلة بالشرعية سوف يصعب جداً وجود حل سياسي لوقف هذا النزيف والتشظّي. 
انتظار الحلول من الخارج، كما تفعل الحكومة، لن يجدي، كما أن تصوير المشكلة كأنها مؤامرة خارجية كما يفعل الحوثي لن يجدي، ولن يعفيهما من المسؤولية، كما لم يعد انتظار الحلول من كل هذه الأطراف ممكناً، والضغط الشعبي على محدوديته الآن لن يكسر عزلة هؤلاء. 
صارت اليمن بأشد الحاجة لنخبة سياسية مختلفة، لديها مصلحة بوقف الحرب وبناء دولةٍ على أسس ديمقراطية، نخبة لا تتعالى عن المجتمع واحتياجاته، ولا تستخف بمسؤوليتها تجاهه، وتتعامل مع الخارج الإقليمي، لا بخضوع أو عدوانية، وهذا يحتاج تنظيما وتنسيقا قد يأخذان وقتاً، لكنه أمر أفضل من عدم التحرّك مطلقاً.

 

* نقلا عن العربي الجديد