هكذا يستغل الساسة دوافع الأمان في توجيه الرأي العام
بقلم/ إحسان الفقيه
نشر منذ: 5 سنوات و شهر و 23 يوماً
الثلاثاء 01 أكتوبر-تشرين الأول 2019 04:23 م
 

يكاد يجمع المستبدون مهما كان جبروتهم وقوتهم وتسلطهم، أنه لا بد مع القمع، من مسار آخر ناعم، يتم عن طريق تغيير الرأي العام، وتوجهات الشعوب وآرائها، حتى فرعون الذي يعد رمزًا تاريخيًا للطغيان، لم يكتف بسيطرته على الملأ من حوله بإظهار القوة، لكنه سلك كذلك معهم هذا المسلك الناعم «قَالَ لِلْمَلَإِ حَوْلَهُ إِنَّ هَذَا لَسَاحِرٌ عَلِيمٌ (34) يُرِيدُ أَنْ يُخْرِجَكُمْ مِنْ أَرْضِكُمْ بِسِحْرِهِ فَمَاذَا تَأْمُرُونَ».

لقد استغل فرعون حاجة قومه إلى الأمان، في تخويفهم من دعوة موسى عليه السلام، فالإخراج والإقصاء عن الوطن أمرٌ خطير قاسٍ على كل البشر، فلطالما كان تهديد المكذبين للأنبياء «لَنُخْرِجَنَّكُمْ مِنْ أَرْضِنَا أَوْ لَتَعُودُنَّ فِي مِلَّتِنَا». احتياجات الأمان هي أحد أبرز دوافع السلوك البشري، وتتمثل في سعي الإنسان الدائم للتحرر من الخوف والتهديدات الموجهة للمرء في دينه ونفسه وعرضه وماله، والحرمان الذي قد ينشأ عن الاضطهاد، أو اختلال الأمن، أو المرض، أو الإقصاء ونحو ذلك.

عالم النفس النمساوي ماسلو، وضع هرمًا يبين الدوافع الأساسية للسلوك البشري، ورتب من خلال هذا الهرم الاحتياجات النفسية على خمسة مستويات، تبدأ بالأهم وهي، الحاجات البيولوجية المتعلقة بغريزة حب البقاء من الماء والغذاء والمأوى، أتبعها مباشرة بالحاجة إلى الأمان بعيدًا عن الحروب والدمار ومناطق الكوارث وكل تهديدات الأخطار المختلفة، ثم الحاجة إلى الحب والانتماء، ثم حاجات التقدير والاحترام، ثم حاجات تحقيق الذات. وقد تحدّث القرآن الكريم عن حاجة الإنسان إلى الأمان، فقال في معرض الامتنان على قريش «فَلْيَعْبُدُوا رَبَّ هَذَا الْبَيْتِ (3) الَّذِي أَطْعَمَهُمْ مِنْ جُوعٍ وَآمَنَهُمْ مِنْ خَوْفٍ».

 

الناس يميلون إلى المألوف سعيًا للاستقرار ودفعًا لاحتمالات التعرض للأخطار، فيؤثرون ما اعتادوا عليه وإن كانت أوضاعًا سيئة

 

الإنسان يخضع خضوعا تاما لاحتياجات الأمان، وتصير هي المُوجِّهة لسلوكياته، ويُجنِّد لخدمتها كل طاقاته وجهوده، فتسيطر سيطرة تامة على شعوره وتفكيره ونظرته للأمور وللعالم من حوله. ونظرًا لقوة تأثير الحاجة إلى الأمان، فقد استغلها الساسة والحكومات والأنظمة في تكوين وتغيير اتجاهات الرأي العام، وتتعدد في ذلك مشاربهم ومسالكهم. فنرى على سبيل المثال الدعاية النازية، التي كانت تقوم على الحرب النفسية، كانت تستغل دوافع الأمان لدى الشعب الألماني عن طريق الإرهاب لإخماد صوت المواطنين، ومن ثم تُستثار دوافع الأمان الكامنة في نفوس الشعب ليختار الصمت طلبًا للأمان ويؤثر طاعة هتلر، وتم هذا بالتوازي مع أساليب أخرى، كإقناع الشعب بأفضلية الجنس الآري على غيره، والوسيلة ذاتها (استغلال دوافع الأمان) كانت تعمل عليها الفاشية.

استغلت الإدارة الأمريكية بعد الحرب العالمية الثانية دوافع الأمان لتعبئة الجماهير الأمريكية والغربية ضد السوفييت حلفاء الأمس، فقامت بإثارة المخاوف من الشيوعية، الذي سماه الرئيس الأمريكي ترومان في مذكراته بـ»هستيريا الشيوعية»، عملت عليه الدعاية الأمريكية لكي تمحو لدى الشعب الأمريكي والشعوب الغربية بصفة عامة آثار الانتصارات السوفييتية على النازية، كتمهيد لحرب ثالثة بين الغرب والشرق.

وبعد أحداث 11 سبتمبر والتي لم يعد مشكوكًا في ضلوع الإدارة الأمريكية بها، هيأت القيادة الشعب الأمريكي وشعوب العالم لقبول ودعم احتلال العراق وأفغانستان، بإثارة دوافع الأمان بدعوى امتلاك صدام حسين أسلحة كيميائية وإيواء الحكومة الأفغانية – طالبان حينذاك- لمخططي ومنفذي العمليات الإرهابية، فاستطاع الإعلام الأمريكي أن يصيب شعبه وشعوب العالم بالفزع من خلال الطرق على التهديدات التي يمثلها الأفغان والعراقيون. الدوافع ذاتها استغلتها الصهيونية، أولًا في خطابها لليهود في شتى أنحاء العالم، حيث روجت للهجرة إلى أرض فلسطين، باعتبارها الملاذ الآمن لهم ولأبنائهم، حين تقام دولة جامعة لهم بعيدًا عن المحارق والاضطهاد والقمع الذي كان يُمارس ضدهم في أوروبا، رغم أنهم كانوا مندمجين في مجتمعاتهم، باعتبارهم جزءًا من الحضارة الغربية، إلا أن دعاة الصهيونية لعبوا على ذلك الوتر الحساس وهو الحاجة إلى الأمان.

ثم استغلتها الصهيونية من بعد ذلك وحتى اليوم، لربط مكونات الشعب الإسرائيلي، حيث لا يوجد رابط يجمع هذه المكونات غير الشعور بالتهديد المشترك للأخطار الخارجية.

وفي السنوات القليلة الماضية وبعد إخفاق الموجة الأولى من ثورات العربي، بعد تعرضها للثورات المضادة، ظهر استغلال الأنظمة، حاجة الجماهير إلى الأمان، في تغيير اتجاهاتهم وقناعاتهم بضرورة التغيير، عبر التخويف من المصير المظلم، والتركيز على نموذجي سوريا والعراق، لدفع الجماهير العربية إلى الرضا بالأوضاع المأساوية الحالية، حتى لا يصلوا إلى ما وصلت إليه هاتان الدولتان، وبرز ذلك في أعتى صوره عند الإعلام المصري الرسمي في هذه الفترة، التي عادت فيها التظاهرات إلى الشارع المصري من جديد، كما تجده حاضرا في الدول العربية التي لم تندلع فيها الثورات، ودائما يحذرون شعوبهم من الاحتجاجات، حتى لا يصيبهم مثلما أصاب دول ثورات الربيع العربي. وطرقت الأنظمة الحاكمة على مسألة الاستقرار، وأنه ينبغي تحمل الفقر والجوع ومساحة الحريات المعدومة، أو المحدودة، حتى لا تُقاد البلاد إلى مصير ربما يكون أكثر سوءًا، ذلك لأن الناس يميلون إلى المألوف سعيًا للاستقرار ودفعًا لاحتمالات التعرض للأخطار، فيؤثرون ما اعتادوا عليه وإن كانت أوضاعًا سيئة.

هذه الوسائل التي تتخذها الأنظمة المستبدة لتكوين وتوجيه الرأي العام العربي، إلى مسارات تصب في صالح بقاء تلك الأنظمة على طغيانها، لا بد أن تكون هناك مقابلها توعية مضادة يعمل عليها أهل الثقافة والعلم والتأثير، تتجه لإصلاح طرق التفكير وكيفية تقييم الأوضاع، فالثبات ليس محمودًا دائما، فالأموات أيضا مستقرون، وليست هذه دعوة للثورات وإنما دعوة لأن تعمل الأمة على التغيير وبكل وسائله السلمية، والمطالبة بكامل حقوقها، فالحكومات في الأصل إنما هي عاملة لدى الشعوب، وأن تخويلها زمام الأمور، لا يعني القبول بظلمها وتجاوزاتها وسلبها ثروات الشعوب ومقدراتها، والله غالب على أمره ولكن أكثر الناس لا يعلمون.

كاتبة أردنية

 

كلمات مفتاحية