العقود الجمهورية - الفكرة والبناء
بقلم/ عادل الاحمدي
نشر منذ: 4 سنوات و شهر و 30 يوماً
الخميس 24 سبتمبر-أيلول 2020 06:28 م
 

فور قيام النظام الجمهوري في شمال اليمن في ال26 من سبتمبر 1962، بدأت آليات الأحرار في ترسيخ معاني الحياة الجديدة واجتثاث رواسب الحقب الإمامية، تتظافر في جهدٍ متناغمٍ لرعاية هذا التحوّل وحراسته من الأذى.

 

كانوا على اطلاع عميق بمكامن الوجع اليمني المعتّق عبر قرون، وكانوا، بالمقابل، على درايةٍ دقيقةٍ بعوامل نهضته ومفاتيح مجده.

 

“وكما كان للإمامة أشياع يحاربون من أجلها. فلابد للجمهورية من تنظيم للجماهير ذات المصلحة المباشرة في قيام النظام الجمهوري، لتحمي هذا النظام الذي يحقق أهدافها في الحياة. والتنظيم السياسي للجماهير، بالقيادة اليمنية الواعية، هو السياج الواحد لدوام الجمهورية وازدهارها، وبدون ذلك فإن الجمهورية في اليمن لن تعدو أن تكون كإمارة بني زياد أو بني نجاح، أو غيرهم ممن تعاقبوا على حكم اليمن من غير الأئمة. لقد انقضى زمن الإمارات والولايات والسلطنات، إذ لم تعد روح العصر الحديث تتقبل شيئا من ذلك، فليس أمامنا إلا مواجهة تبعات التطور في بلادنا، وامتلاك الأسباب الحديثة للوفاء بهذه التبعات”.

 

الرؤية كانت أوضح مما نتصور.. حيث يضيف محمد أحمد النعمان:

 

“وبالأخذ القوي بأساليب التفكير الحديثة في سياسة الدولة، وإعادة بنائها، وإتاحة الفرصة للشباب الواعي المستنير للقاء الدائم المنتظم لدراسة المشاكل العامة والبحث عن حلولها العلمية، بهذا وحده نقضي على الأزمات النفسية والفكرية لدى الشباب المستنير ذي القدرة على التفكير الحديث، والإسهام الفعال في تطوير أوضاع البلاد، ونقلها من حالة الجمود والرتابة إلى وضع متنور متفاعل مع التقدم الإنساني الذي تخلفنا عنه طويلاً” (النعمان الفكر والموقف).

 

وها هو البردوني يضطلع بمهمةٍ جديدة، (بعد مهمة تغريد القبح الإمامي)، هي جَبْر الوحدة الوطنية، وإزالة الشق الذي لحق بالمجتمع، محاولاً عبر قصائده لملمة أجزائه وتوحيد أنفاسه ورؤاه، نافخاً الروح في الأماكن والأرجاء، مُعنْقداً إياها في نسق متآلف يدحرج ما لحق بالوحدة الوطنية من ندوب وتشوهات، مؤكداً لليمنيين واحدية الحلم، وواحديّة الهم، وواحدية الوجع، ومذكرا،ً أيضاً، باليمن الواحد شماله وجنوبه:

 

عرفته يمنياً في تلفُّتِهِ

خوفٌ وعيناهُ تاريخٌ من الرمَدِ

 

من خضرة القات في عينيه أسئلةٌ

صُفرٌ تبوح كعودٍ نصفِ متقدِ

 

رأيت نخل (المكلا) في ملامحه

شميت عنب (الحشا) في جيدهِ الغَيِدِ

 

من أين يا ابني؟ ولا يرنو وأسأله

أدنو قليلاً: صباح الخير يا ولدي

 

ضميته ملء صدري إنه وطني 

يبقى اشتياقي وذوبي الآن يا كبدي

 

(يسعد صباحك) يا عمي أتعرفني؟ 

فيك اعتنقت أنا قبلت منك يدي

 

لاقيتُ فيك (بكيلاً) (حاشداً) (عدناً) 

ما كنتُ أحلم أن ألقى هنا بلدي

 

رأيت فيك بلادي كلها اجتمعت

كيف التقى التسعة المليون في جسدِ

***

 

عرفتُ من أنت يا عمّي: تلالُ (بنا)

(عيبانُ) أثقله غابٌ من البرَدِ

 

(شمسانُ) تنسى الثريا فوق لحيته

فاها وينسى ضحى رجليه في الزبدِ

 

(بينونُ) عريانُ يمشي ما عليه سوى

قميصه المرمري الباردِ الأبدي

 

 لقد انطلق الأحرار نحو صوغ معالم الحياة الجديدة بشيء من العمق والشمول، وذلك لإدراكهم أن الإمامة لم تكن مجرد نظام للحكم يسير دون ارتباط روحي بأتباعه وأنصاره، بل ارتبطت الإمامة بقداسة الأسرة الهاشمية، وحقها في احتكار السلطة.

 

ولذلك فإن “الجمهورية النقيضة للإمامة أشد ما تكون حاجة لزاد عاطفي لأنصارها يملأ أسماعهم وأبصارهم، أي أنه لا بد من نظرية سياسية ترتبط بها كل شئون الفكر والحياة في اليمن، لتحل محل النظرية القديمة التي رسمتها العقيدة الإمامية” هذه النظرية الجديدة تمثلت في ربط اليمني بكينونته، وبأسباب عزته وسعادته.

 

لذلك، وعلى نفس الدرب، وإكمالاً لأدوار النعمان والزبيري والبردوني، جاءت قصائد عبدالله عبدالوهاب نعمان وعثمان أبو ماهر لتلهب الحماس الوطني في أوساط الجماهير المشرئبة نحو عهدٍ جديد، ومثّل كلٌّ منهما مع الفنان أيوب طارش، ثنائياً مغِّرداً أفعم تفاصيل الحياة الجديدة بالحيوية والإقبال لصنع الواقع الجديد المرتبط بحفيف الحقول ونفج السَّبُول وأشواق الروح المنسابة من شُبّابة المرعى و”دِخْداخ النسيم”:

 

أذكرك والحمايمْ يسجَعَنّكْ لنا 

والندى والبراعمْ يسمعنّكْ غُنا

والعيون الحوالمْ يحمِلنّكْ رنا

واذكرك وانت نايمْ ملء عينكْ هَنا

حين يكون كل هايمْ نام إلا أنا

 

هذا الربط الواعي بين معاني الحب والحقل تجسّد أيضاً عبر ثنائي مطهر الإرياني وعلي الآنسي وبلغ ذروة سحره في معزوفة “الحب والبن” التي تعيد الإنسان اليمني وجدانياً إلى الزراعة باعتبارها أساس عزته وجذر حضارته.

 

كذلك انطلق مطهر بن علي الإرياني مغرّداً للعامل في مصنعه، وللجندي المرابط فوق الجبل.

 

فوق الجبلْ حيث وكر النسرْ، فوق الجبلْ

واقف بطلْ محتزب للنصرْ، واقف بطلْ

يزرع قُبَل في صميم الصخر، يزرع قُبَلْ

يحرس أملْ شعب فوق القمة العالية

 

لم يتوقف الدكتور مطهر الإرياني عند هذه المهمة بل توجه صوب الذاكرة المدفونة للشعب اليمني، وتخصص في مجال الآثار مفتشاً عن أسرار عزة هذا الشعب ومنقباً عن ظروف تمكِّنه وانبلاجه، هذا لأن الثوار أدركوا منذ وقت مبكر أن “تاريخ اليمن واقتصاديات اليمن وآداب اليمن وثقافة اليمن.. كل ذلك لا يزال مَعميّات أمام الغالبية منا وهي أوْلى بجهدنا جميعا نتلمس من خلالها شخصيتنا ووجودنا، ونستبين من دراستها مشاكلنا وطرق الحل السليم لها” (الفكر والموقف ص ٢٨٦).

 

على الجانب النظري لهذا المجهود الآثاري تكرّست جهود الثنائي محمد بن على الأكوع الحوالي، وشقيقه إسماعيل بن علي الأكوع، رحمهما الله، وتفرّغ كلاهما في تدوين التاريخ اليمني وتبسيطه للقارئ وتنقيته مما لحقه من الأوساخ والشوائب. 

 

المؤرخ الكبير محمد عبدالقادر با مطرف، العالم الآثاري راشد محمد ثابت، عالم الاجتماع أستاذ دكتور حمود العودي، الدكتور المؤرخ حسين العَمري، الدكتور علي محمد زيد، الأستاذ الباحث حارث الشوكاني، الأستاذ المؤرخ محمد حسين الفرح، الدكتور الباحث أحمد الأصبحي، الدكتور المحقق مقبل التام الأحمدي، وغيرهم من سدنة التاريخ اليمني المدفون، كلهم ذهبوا الى الماضي الحميري البعيد وعادوا بأثمن الجواهر.

 

الدكتور القدير عبدالعزيز المقالح قام، بدوره، بمهمة حفظ وجدان الثورة من الضياع، وراح ينقل للأجيال الجديدة صدى الصدق الكامن في رجالاتها، وانبرى الدكتور المقالح أباً للأجيال، ورائداً لحركة البحث العلمي في يمن الثورة، ومثّل بسلوكه ويراعه النموذج الأروع الذي كانت عليه دماثة الحركة الوطنية وجلالها ومقدار الحب الذي حملته.

 

أما على مستوى الشعر الشعبي فقد برز الشاعر الكبير صالح سحلول مُسْتَّلاً ملاحم عصماء تطاير صيتها في كل ريف وحضر، رسّخ من خلالها يقين الشعب بالثورة وبالعهد الجديد.

 

فيلسوف الثورة الأستاذ محمد أحمد نعمان كان المعادل الموضوعي لذلك الزخم العاطفي الهادر إبان الثورة، فراح بفكره الحكيم السباق ليضفي لمسات الواقعية على إيقاع الحياة الجديدة مؤكداً طابعها الحضاري في التفاعل مع الآخرين ونزعتها الإنسانية الرامية إلى جعل الشعب اليمني عاملاً مؤثراً في بناء البشرية ورقيها، ذلك أن الثورية، كما يرى المفكر النعمان، لا يصح أن تفهم على أنها مجرد حمل السلاح أو هز القلم لمناوأة العهد الإمامي. “وإنما الثورية الحقة هي الخروج على أساليب التفكير السياسي العتيقة التي احتبست كل طاقات شعب اليمن في مصارعة ذاتية أودت بسمعة هذا الشعب العريق، وجعلته واحدا من الشعوب المتخلفة البائسة المشردة”.

 

يواصل المفكر النعمان: “إن الثورية الحقّة، التي تعطي صاحبها حق الإمساك بزمام السلطة، هي الوعي الكامل لحقيقة أسباب تخلف الشعب، والإدراك البصير لسبل الرقي به وتحقيق الوحدة الشعورية بين أبنائه، والقضاء على أوجه البؤس والشقاء الذي يسيطر على حياته، واستعادة كرامته أمام نفسه، وأمام السلطة وأمام الآخرين خارج حدود بلده. ولن نبلغ شيئاً من ذلك إذا لم نكن مزودين بالثقافة الثورية، ننهلها من كل تجربة إنسانية، وإذا لم نعتمد الأسلوب العلمي أساسا لتفكيرنا وتصرفاتنا وذلك بدراسة مشاكلنا على الطبيعة دراسة مباشرة جادة معتمدة على اللقاء المباشر بجماهير شعبنا، واعتماد الإحصاء وسيلة، والتخطيط الشامل منهجا، باسطين داخل نفوسنا وعقولنا خريطة اليمن، كل اليمن نتنسم روائح أجوائها جميعا، ونحصي طاقاتها كلها، واحتياجاتها كلها، لنخرج بالخطة الشاملة التي تعيد لنا بناء اليمن الحديثة الموحدة المتطورة".

 

ويحدد النعمان الابن أن "نظام الحكم الأمثل في اليمن هو النظام الذي يعرف أن مهمته الأساسية وسبب وجوده ليس غير إعادة تنسيق العلاقات بين المواطنين، على أساس عادل منصف، وإقامة الروابط بين المواطنين وأرضهم بطريقة تغمر نفوسهم بالاعتزاز والحب لها، وتُيَسّرُ لهم الرزق الهنيء العزيز، فلا يحتاجون للهجرة والاغتراب، يفرون بأنفسهم من عناء الفاقة وقسوة البؤس، أو ينجون بها من ظلم بعضهم لبعض، واختطاف بعضهم لقمة العيش من أفواه بعضهم الآخر”.

 

على مثل هذه الدرجة من الوعي والمسؤولية، كان الإيقاع الوجداني والفكري الذي تبلورت على أساسه أهداف الحركة الوطنية في طورها الناضج المكين.. فكان النضال، وكانت الثورة، وكان أيلول.

 

وعلى نشوة البعث الكبير، تفجرت طاقات الشعب، وازدحمت، وربما تزاحمت، في سياق اندفاعها نحو التحقق والكينونة والحضور..

 

اقتصادياً، قام الحاج هائل سعيد أنعم واخوان ثابت والعاقل وغيرهم، بوضع النواة الأولى للصناعة الوطنية.. وقس على ذلك كافة أعلام الثورة اليمنية الذين اختطوا دربها في كافة المجالات، فناً، وأدباً، وتاريخاً وطباً وهندسة.

 

وهكذا؛ ومثلما جسّد عهد المشير عبدالله السلال نموذجاً في الصمود والتضحية، ترسخ في عهد القاضي عبدالرحمن الإرياني نموذج نادر في عدم التشبث بالسلطة، بينما تفتقت في عهد الشهيد المقدم إبراهيم الحمدي فنون الإدارة التنموية الرائدة، وازدهرت تجارب العمل التعاوني الخلاق، وتم وضع الكثير من الأسس في البنى التحتية للدولة الوليدة، وصولاً إلى عهد الرئيس علي عبدالله صالح، الذي توسعت في عهده رقعة التعليم وقطعت أشواط في العيد من البنى التحتية، كما تمت استعادة الوحدة بين شطري الوطن وتوسعت.

 

وقد شكلت الوحدة منعطفاً جديداً في حياة هذا الشعب ووضعته قبالة أجندة جديدة من التحديات خصوصاً فيما يتعلق بالحراك السياسي القائم على أساس التعددية العلنية وكذا الاستحقاقات التنموية المتبقية.. نقلةٌ كبرى في حياة اليمنيين في ظل أقل من ثلاثة عقود تكللت بقيام دولة الوحدة، ونشأ على هامش هذه التحولات جيل جديد لا علاقة له بمعركة الانعتاق الكبير في حين أخذ الأجل يقتات من جيل الثورة الأول، الأمر الذي أفسح الطريق أمام مخلفات السلالة الكهنوتية مستغلين اندفاعة هذا الشعب وغفلته البريئة عن مطامحهم وغاياتهم الدفينة.

 

لقد كنا إلى وقت قريب، وبكل براءة اليمني وسماحة طبعه، نستبعد، بعد هذا السجل من الخطوات والتضحيات، أن يَعِنَّ للإمامة همسٌ، أو يرتفع لها شعار، غير أن الحقيقة لا تلبث أن تثبت لنا كم نحن طيبون.. فأصحاب المشروع الإمامي تقوم شرعيتهم المزعومة أصلاً على ادعائهم لِحق قديم عمره 1400 سنة منذ سقيفة بني ساعدة، أفلا يحنُّون إليه بعد 30 أو 40 عاماً في اليمن..

 

إن الدارس المتأمل لحقيقة المشروع الإمامي ليجد كم أنه من الضرورة أن يُنْقَدَ المشروع الإمامي ويُفَنّدَ بلا هوادة، ليس خوفاً من عودته من جديد، ولكن أيضاً من باب الوفاء المستحق، ثمَّ، وهو الأهم، أن التحدي الذي فرضته الوحدة اليمنية في حياة اليمنيين قد أغفلهم نسبياً عن ثقافة الثورة، لتتسرب ثقافة الإمامة من جديد إلى ضلوع الدولة، وهياكلها المختلفة، لنجد أنفسنا بين عشية وضحاها محكومين برِتْمِ الإمامة العقيم، حيث الدولة ريع “للمتفيّدين”. والقانون، وإن أصبح مكتوباً، إلا أنه حبر على ورق.

 

ورغم كل ما شاب العقود الجمهورية إلا أننا كيمنيين منذ قيام دولة الثورة نعيش في ظل نظام حكم يتداول عليه أفراد من بيننا، ويحكمون باسمنا، لا نيابة عن الله، سبحانه، ثم إنها عهود ذات طابع حضاري حاول قادتها جاهدين أن يرفعوا اسم اليمن في كافة المنتديات والمحافل الدولية، وكذلك ذات طابع وطني تحققت في ظلها وحدة البلاد وعادت إلى الوطن بعض أراضيه من دول الجوار، وهي كذلك، مبدئية، لا تزال تدفع ثمن مواقفه المبدئية الثابتة، إنسانيّة لا تلتمع سيوفها، ولا يرتجز “وشاحها” ولا ينطق “بورزانها”، ولا يخشاها خصومها، ثم إنه، ومن باب الإنصاف، نظام جمهوري يتمتع بكل نقاط الضعف التي نحملها نحن كيمنيين سواءً من حيث العفو، أو من حيث الاطمئنان للأعداء والغفران لهم، وهو ما أوقع الجميع في حبائل أفاعي مخلفات الإمامة من جديد لتشكل هذه المجازفة الإمامية التي أطلت برأسها منذ ٢٠٠٤، مصلاً ولقاحاً يقوي مناعة ضد أية انتكاسة، لتصبح هذه آخر محاولات الإمامة وآخر نثرة لها في أرض اليمن.