لماذا أصبح وجه السياسة أحمرا؟
بقلم/ د. حسن شمسان
نشر منذ: 14 سنة و 9 أشهر و 7 أيام
الإثنين 15 فبراير-شباط 2010 01:40 م

لا أخفي على القارئ الكريم أن مقالي السابق [الذئاب وسياسة الغاب] كان بمثابة استثارة فضوله لمعرفة متجهه، وقد تم لي بعض ذلك، فيما وجدته من تعليقات على الموضوع. كما لا أخفيه أن العنوان لم يكن فيه ثمة اعتباط؛ أي لم يكن اختياره جزافا؛ بل كان مقصودا بعناية؛ ولعلي رأيته يلخص فكرة، عبرت عنها الصورة أو اللوحة التي رسمها لنا البيان النبوي الذي يأسر الألباب. وقد كان المقال السابق هو بمثابة تمهيد لألفت انتباه القارئ أو أنعطف في اتجاه ساحة البيان النبوي لنطوف فيها سوية (لا عليها) متأملين روعته ودقة التشبيه، ودقة اختيار المفردات، ولعل القارئ الكريم قد يتفق معي في الحكم على المقال السابق؛ أنه لم يكن سوى مقبلات، وسيجد نفسه في هذا المقال أمام أكلة شهية؛ ووصفي لها بشهية لا أعني براعة الكاتب في عرضها؛ بل أقصد ما يجعلها شهيا أنها مقتضبة من البيان النبوي ولا شيء غير ذلك.

وأنا أدعوك أخي القارئ معي لننظر سوية إلى المثل النبوي الذي انتزعت منه عنوان المقال السابق، المثل النبوي الذي نظر صاحبه صلى الله عليه وسلم بعين الوحي إلى المستقبل البعيد والذي أراه أصبح حاضرنا [اليوم] بالنسبة لنا كمخاطبين بهذا الحديث النبوي؛ الذي يقول فيه الحبيب المصطفى صلى الله عليه وسلم: "ما ذئبان جائعان أرسلا في غنم بأفسد لها من حرص المرء على المال والشرف لدينه".

نعم أخي القارئ ما زلنا نعيش مع [الدين] وفي كنفه؛ وحتى لا أتهم بتوظيف [الدين] للنيل من السياسة والسياسيين، وحتى لا أتيح الفرصة لأقلام بعض المغرضين، قد آثرت في هذا المقال أن أطرحه طرحا علميا موضوعيا يستند إلى حقائق علم اللغة؛ فيكون بذلك أقرب إلى روح الموضوعية منه إلى نزعة التأثر العاطفي والوجداني، والتعصب الحزبي أو المذهبي فما أسهل أن تُغطى الحقائق بأن نلصقها بمثل ذلك. وإذا ما أجمعت أمري وأعددت عدتي فإنه لا يحسب القارئ أني [قد جئته من سبأ بنبأ يقين]، إنما هي محاولة المقلين، وعدة المتواضعين، فهو البيان النبوي المعجز الذي لا تقف أسراره، ولا تدرك أغواره. ولا يمكن لغواص مهما امتلك من الوسائل أن يلتقط كل درره ولآلئه، وهذا لا يعفينا من أن نصطاد منها بحسب ما نمتلك من أدوات وإن كانت متواضعة.

وما ينبغي الإشارة إليه قبل البدء: إن طَرْح المقال بهذه الكيفية سيجعله يتسع ويتشعب، ولن يستطيع مقالُ واحد أن يلملم كل جوانبه؛ وعليه فقد رأيت أن أتناول هذا الحديث في مقالين؛ حيث إني أريد أن أصل مع القارئ إلى قناعة بأن الرسول صلى الله عليه وسلم قد شخص حال هذه الأمة التي نعيش فيها منذ آلاف السنيين، وقد قال قولته البيضاء والتي يملأ نصها البياض "تركتكم على البيضاء ليلها كنهارها لا يزيغ عنها إلا هالك", ولا أرى العالم الإسلامي اليوم إلا في طريقه إلى ذلك أو يكاد. 

ورد في الحديث السابق مفردات كثيرة لا شك أن بينها ترابط شديد، ولا بد أن تقرأ بعلاقتها مع بعضها، وعلاقتها بواقع المخاطبين اليوم، وهذه المفردات كما وردت في الحديث النبوي هي على الترتيب كما وردت: [ذئبا/جائعان/أرسلا] [غنم] [فأفسد لها] [حرص] [المرء] [المال/الشرف/ الدين].

وما دام حديثنا عن الدين وسياسة دعونا نبدأ منه وإن كان إمام البيان صلى الله عليه والسلم قد انتهى به حيث جاء على ذكره آخر المذكورات في المثل النبوي. وقد يتبادر إلى ذهن القارئ للمثل النبوي تساؤل: لم جاء المثل على ذكر الدين في آخره؟ وهو لا شك سؤال قد يكون وجيها إلى حد كبير، وقد يكون فيه مغزى رائعا، خاصة وهو يتكلم عن فتنة [المال/الشرف] وإن شئت قلت [الثروة/السلطة] سيان.

والقارئ المتبصر لا شك أنه عندما يتأمل مفردات الحديث السابقة سوف يستحضر سؤالات عدة من أهمها: لم جاء البيان النبوي على ذكر [الدين] في آخر المثل و[الذئبان] في أوله؟ وأين الراعي وما هو دوره؟ فلم يتعرض نص المثل البتة إلى ذكره؟ وما نوع العلاقة بين الذئبان الجائعان وبين الغنم الضعاف ؟ وما دلالة الفعل [أرسلا] ؟ كل هذه أسئلة قد تطفوا على السطح من وراء كلمات المثل الموجز بألفاظه المتسع بدلالته، يتبصر بها من يقرأ بقلب مفتوح وعقل متدبر، ولا أظنني ذاك، بيد أن هذا لا يعفيني من المحاولة.

فتعال بنا نبدأ من [الدين] ومفهوم [الدين] ولنستعرض بعض أراء المفسرين واللغويين، ففيه عون لنا في بيان فكرة الحديث. ولإدراكي - وأرجو أن لا أكون مخطئا - أن المشكلة فيما يراه الراءون ويسمعه المستمعون من أقوال قد تتصدر وسائل الإعلام المرئية والمكتوبة تدعو إلى إزاحة الدين عن ساحة السياسة والسياسيين، أو بتعبير آخر تنظيف الدين من أماكن السياسة تكمن في عدم فقه معنى [الدين] فقد غاب مفهومه عند الكثيرين، وقد ألفوه في الشعائر التعبدية واكتفوا بذلك القدر من العلم والإلف والوِرث.

فالدين - بمفهوم الأغلبية - لا يتخطى حدود الجامع وزواياه، وهذا الآخر (أي الجامع) لا ينبغي فيه الخروج عن حدود الدين التي فهموها سلفا، وبهذا فقد ضيقوا واسعا وقيدوا عملاقا. وفقهوا الدين على الطريقة الغربية (لا الإسلامية). فقهوه كما أراد لهم أعداؤهم أن يفقهوه؛ على طريقة السفير الأمريكي عندما ظهر يوما على إحدى القنوات المشهورة ليقول – بالعربية لا يكاد يبين: "أنا معجب بمولد السيد البدوي وبالطريقة الصوفية". هكذا أرد أعداؤنا أن نفقه الدين، وهكذا أرادوا أن يُفهِمونا إسلامنا؛ فالصوفية أفضل طريقة للتدين يمكن أن تدعمها الحكومة الأمريكية؛ لأنها لا ترى الإسلام إلا ببعض الشعائر التعبدية دون قضايا التحكيم والسياسة والجهاد وغيرها. وأظنهم قد نجحوا في ذلك نجاحا غير مسبوق؛ وأضننا قد أخطأنا خطأً فادحا أو قل [قاتلا] عندما أصبحنا أو أصبح بعضنا يروج لهم أفكارهم فأصبحتَ تجد في بلد المسلمين قاطبة، وفي بلد الإيمان والحكمة على وجه الخصوص؛ عناوين تتصدر الصحف (يكفي تسيسا لمنابر المساجد) وآخر: (لا ينبغي أن ندنس الدين بالسياسة)، وآخر: (ينبغي تنظيف الدين من السياسة). وإذا كان هذا حاصلا وسط المثقفين فكيف بعامة الناس. ولا تعجب كذلك عندما تقرأ أغلب [المقالات السياسية] فلا تجد فيها بصيصا إلى الدين؛ فالسياسة نجاسة؛ وعليه فعدم ذكر الدين معها من الكياسة هكذا أراد هواة السياسة. كما يجعلني أو يجعل الجميع يتساءل هل السياسة أصبحت نجاسة إلى هذا الحد؟ حتى نخاف على [الدين] منها؟ أم هو مكرٌ مكره الساسة وهواة السياسة؟ وردده آخرون عن قصد أو غير قصد؟ إنه منطق غريب؛ منطق يطلق في الهواء وكفى، دون تفكير أو حتى تبرير. إنه ليس ثمة شك أن وجه السياسة الآن قد صار قاتما وأكثر سوادا وأصبح حالها يفرق لا يؤلف، ويشتت لا يجمع، ويباعد لا يقارب. وليس ذلك في طبيعة السياسة، بل يرجع ذلك - باقتضاب شديد – أنها نُظِّفت من الدين، أو بتعبير آخر تم تنظيف الدين من دنسها المزعوم!!

وهذا – ليس ثمة شك – يرجع إلى عدم فقه روح الدين تحديدا [إسلامنا العظيم]. فهناك فرق كبير بين [الدين] و[والإسلام]. وقد جاءت فكرة فصل [الدين] عن الدولة أو السياسة نتيجة حادثة معروفة ومشهورة إبان النهضة الأوربية الفرنسية تحديدا؛ حيث كان [دين الكنيسة] آنذاك يناهض فكرة العلم بل ويحرق العلماء ويسحلهم في الشوارع، فكان [دين الكنيسة] يحارب كل شيء يمت إلى العلم، وهذه معلومات من البداهة بمكان فلا يمكنني التطويل في تفصيلها بل إشارة للذكرى، ولبيان أن فصل الدين عن الدولة لا يعنينا نحن المسلمين لا من قريب ولا من بعيد لأن ديننا دين العلم ودين العقل ودين الرقي ودين الحضارة.

وعودة على بدء فما هي دلالة الأصل [دين] جاء في لسان العرب: "الدَّيّانُ: الله عز وجل. والدَّيَّانُ: القَهَّارُ وقيل: الحاكم والقاضي وهو فَعَّال من دان الناسَ أَي قَهَرَهم على الطاعة ", والدِّين: الطاعة. وقد دِنْته و دِنْتُ له أَطعته". "والدِّين: الإِسلام وقد دِنْتُ به" الدِّينُ: العادة والشأْن تقول العرب: ما زالَ ذلك دِيني ودَيْدَني أَي عادتي" والدين القضاء: (ما كان ليأْخُذَ أَخاه في دين الملك) قال قتادة: في قضاء الملك". و دِنْتُ الرجل: خدمته وأَحسنت إِليه. و دِنْتُه أَدِينُه دَيْناً: سُسْته. ودَيَّنْتُه القومَ: وليته سياسَتهم". "والدَّيَّان: السائس" (لسان العرب: د ي ن). وجاء في الفروق اللغوية: "الفرق بين الشريعة والدين: أن الشريعة هي الطريقة المأخوذة فيها إلى الشيء ومن ثم سمي الطريق إلى الماء شريعة ومشرعة، وقيل الشارع لكثرة الأخذ فيه، والدين ما يطاع به المعبود ولكل واحد منا دين وليس لكل واحد منا شريعة". الفروق اللغوية:204). فيفهم من القول السابق أن مادة [دين] تتنوع وهو ما لوحظ في التناول القرآني للفظ الدين ومن ذلك قوله تعالى: (لَكُمْ دِينُكُمْ وَلِيَ دِينِ) (الكافرون:6). كما أطلق لفظ [الدين] على دين الملك في قوله تعالى: (كَذَلِكَ كِدْنَا لِيُوسُفَ مَا كَانَ لِيَأْخُذَ أَخَاهُ فِي دِينِ الْمَلِكِ) (يوسف:76).

وقد كان للمسلمين دين هو شريعة الإسلام؛ ومن هنا كان الإسلام هو الشريعة أو الطريقة التي يصوغ من خلالها المسلمون (الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإسْلامَ دِيناً) (المائدة:3). ثم قال تعالى: (وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الْأِسْلامِ دِيناً فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِي الْآخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِينَ) (آل عمران:85). إذا فالشريعة أو الطريقة التي يسير عليها المسلمون هي الإسلام، ومن دون الإسلام لا تقوم الحياة ولا تتطور بل هو الفساد والتخلف والانحطاط. والبيان النبوي من خلال هذا التصوير في المثل المتناول يشخص الفساد الحاصل ويجعله ناتجا صحيحا لعزل الدين عن الحياة عامة والسياسية خاصة، وجعله في الهامش دائما. وهذا ما يبينه المثل أو يحاكيه في صياغة أسلوبه الحكيم، تأمل وانظر معي إلى طرفي التمثيل في الطرف الأول منه [ذئبان] وفي الطرف الآخر [الدين]؟ أليس هذا يحاكي واقع المسلمين؟ إنه يوحي لنا بما لا يدع مجالا للشك، أن الحرص (أقول الحرص)، على [السلطة والثروة] وحبهما إلى درجة التقديس، يجعل المرء يفقد قداسة الدين، سواء كان مسلما أو كتابيا، فالحرص وحب السلطة [حبا جماِ] يجعل القلب مليئا بهما فحسب، وهما في مقدمة الاهتمامات والدين في آخرها إن لم يكن قد غيب.

والتعبير بـ [الدين] وإضافته إلى [امرئ] فيه عموم؛ فالمعنِي كل دين وليس دين المسلمين، وكل امرئ حريص على السلطة والمال، وليس الأمر خاصا بـ [راعي المسلمين] أو [أغناهم مالا]. فالتعبير النبوي في دقة اختيار الألفاظ للتعبير عن مثل هذه فكرة، أفسح دلالاتها، ليفسح فضاءها، وليشمل كل منتسبي الديانات. فمطمع [المال والشرف] أو [الثروة والسلطة] يخرج الإنسان عن إنسانيته، والمسلم عن إسلامه وإنسانيته على السواء. فمتى صار حب المال والسلطة والحرص عليهما في سلم الأوليات كان [الدين/ الإسلام] في هامشها في سائر الأمم. ولما كان الإسلام يدعوا إلى شراكة في الخيرات ومساواة بين الساسة والمسوسين، (الناس سواسية كأسنان المشط)، فقد أعجب أغلب الساسة، فكرة فصل الدين عن السياسة، أو بتعبير بعضهم - تأدبا مع الدين وحرصا عليه من دنس السياسة- (تنظيف الدين من السياسة).

وحين لا يسوسنا بسياسة الدين، تختل الموازين، وتسوء العلاقة بين الحكام والمحكومين، وأفضل ما يمثل بشاعة سوء العلاقة هي صورة الذئبين الجائعين أرسلا في غنم. ولنا أن نقيم موازنة بين العلاقتين ومقاربة حتى نصل سوية إلى المضامين التي يلح علينا البيان النبوي أن نتفهمها، عبر المشهد المتخيل الذي يرسم العلاقة في صورة معركة تسيل فيها الدماء سوف ترد تفاصيلها في مقال قادم إن شاء الله. حينها سنعرف لِمَ صار وجه السياسة أحمرا.