سلاسل بشرية بمدينة مأرب تضامنا مع الشعب الفلسطيني ودعما لقطاع غزة - صور وزير الخارجية يستقبل الرحالة اليمني منير الدهمي بالرياض الضالع.. القوات المشتركة تدمر مرابض قناصه المليشيا وتحرز تقدما ميدانيا تفاصيل لقاء وزير الدفاع ومحافظ حضرموت باللجنة الأمنية بالمحافظة محكمة الجنائية الدولية تصدر أوامر اعتقال بحق نتنياهو وجالانت وتكشف عن أسبابها المنطقية عاجل: وزير الدفاع الأمريكي: سنعمل على انتزاع قدرات الحوثيين في اليمن مليشيا الحوثي تحول محافظة إب لقادتها ومشرفيها القادمين من صعدة وعمران عاجل:حريق هائل يلتهم هايبر شملان العاصمة صنعاء نقابة المعلمين اليمنيين تدين الاعتداء السافر على المعلمين في شبوة وتطالب بتحقيق عاجل ''أكد أنه لا أحد فوق القانون''.. أول مسئول كبير يحيله رئيس الحكومة للتحقيق بسبب قضايا فساد ومخالفات
كبنات جنسها كان يجول بخاطرها أن يأتي يومٌ يشرقُ صباحُه بنور حبّ لم تعتدْه ، وتُسدلُ شمسُه خيوطاً من حنان ، وتعطـّـر زنابقـَه نسائمُ المودة والاحترام . في طراوة غصن نديّ لم تتجاوز زهراته ست عشرة زهرة تعبق بياسمين الفطرة ، ترعرع عودها في بيئة تجمع بين اليأس والأمل ، الفقر والغنى ، الترح والفرح في مدينة تعيش كثيراً من التناقضات ؛ فقد ولدت ندى (في سبعينيات القرن العشرين) لأبوين فقيرين: الأم أمّية كسائر كثير من نساء المدينة ، اللائي جئن إليها بصحبة أزواجهن من كل فجّ عميق ؛ طلباً لحياة مستقرة هادئة . . والأب أبيّ في نفسه ، عزيز في بيئته، أمّيٌّ كذلك ، لا يجيد من القراءة والكتابة سوى أبجديتهما ، ولا يعرف من الحياة سوى أبجديتها أيضاً رغم أن قسوتها قد صلّبت عوده على مدى نصف قرن ونيّف . لندى ثلاثٌ من الأخوات يصغُرْنَها سنّاً ، يدرسْن في مرحلة التعليم الأساسي ، وأخ يكبرهنّ الأربع ترك المدرسة حيناً من الدهر ، ثم عاد إليها من بعد حين . ندى طالبة مجدّة ذات ذهن صافٍ ، وذكاء متوقّد ، قرأت كثيراً من الكتب المدرسية ، لكن عينيها لمّا تتفتحا ولو على كتاب واحد من سفْر الحياة ، بل ولو على باب من أبوابه ، وما أكثرَها! في أجمل فصل من فصول عمرها ، ربيع شبابها الذي لا يتكرر ، ومن حيث لا تعلم ، دُقّ بابُ منزلها دقـّاً آخر... فتحت أمّها الباب ، فإذا بزكية تستأذن للدخول . رحّبت بها الحاجة فاطمة كغيرها من نسوة الحي اللاتي يتزاورن فيما بينهن وقت فراغهن يتجاذبْن الأحاديث ، ولا يتركن بيتاً من بيوت الحي إلا شاركنْــَه أفراحه وأحزانه وهنّ قابعات في خلواتهن الجماعية . لكن ، ما الذي جاء بجارتها زكية هذا اليوم ، وهي امرأة لديها ما يشغلها صباحاً ومساءً ؟ ! تفاجأت الأم وبناتها بهذه الزيارة ، لكنهن تفاءلن خيرا ، وأخذت زكية - ذات الأربعين عاماً - تسأل عن حال الأسرة ، وجعلت تربّت على رؤوس البنات ، وتدعو لهن بالصلاح ، ثم ما لبثت أن تنحّت جانباً بأم ندى ، تُسرّها حديثاً لم يدُمْ سوى برهة من الزمان على عجلة من أمرها . وبينما لم تلق ِ الأخوات الثلاث (مروة ، ونبيلة ، وسمية) أيّ بال لهذا الهمس ؛ ذهبت ندى تضرب أخماساً بأسداس : مرة تراها قلقة مضطربة ، وأخرى باسمة تملـّك عقلـَها شعورٌ آخر ، خاصة أن زكية هذه ليس من عادتها تبادل الزيارات كباقي نساء الحي ، وليس لديها من الوقت ما تهدره في الثرثرة مثلهن ، فهي تعمل في الصباح ممرضة في أحد المراكز الصحية ، وفي المساء خياطة للملابس في بيتها .
* * *
في ظهيرة اليوم التالي عادت ندى من مدرستها تحمل في يدها حقيبة طموحها وأحلامها ، وفي عينيها غبش لمّا ينجل ِ . المنزل ببساطته ليس كعادته : اهتمام زائد بترتيبه وكنسه ونظافته ، وزيادةٌ على ذلك رائحةُ (البخور) الذي لم يتنفسْـه إلا في أيام معدودة من العام . هاهو الباب يطرق في الوقت نفسه الذي طُرق فيه عصرَ يوم أمس . . لكنّ الطارقَ اليوم متعدّدُ الوجوه ، والوجوهُ ذاتُها غيرُ معروفة الملامح من قبلُ سوى وجه زكية ! ! لم تغالِ أمّ ندى في لباسها هي وبناتها، لبسْن أجمل ما عندهن ، المهمّ في الأمر أن يظهرْن بشكل لائق ومقبول لدى ضيفاتهن اللاتي ما أن وضعْن عباءاتهن وأسفرْن عن زينتهن حتى شرَعْن يتحدثن عن كل شيء يخطر ببالهن إيجاباً وسلباً . برهة من الزمان ساد مجلسَ النسوة صمتٌ تلاه تناول بعض الحلوى والعصائر على وقع نُكاتٍ من هذه وتلك ، قالت إحداهن ساخرة : (امرأة ٌ أرسل لها زوجُها من بلاد الغُربة ثرَيّتين ، فردّت له برسالة شكر : زوجي العزيز ، شكراً لك على هديتك الثمينة إلا أن الخرصين كبيران جداً وثقيلان لا تتحملهما أذناي) !! ورأيتـَهن يتضاحكن كلّهن ، بينما ابتسمت الحاجة فاطمة مداراةً لهن ، فهي لم تعتدْ على سماع النكات والسخرية بأحد وإن كان مجهولاً بالنسبة لها ، بينما انزوت بناتها في حياء . الضيفات أحسن حالاً من مضيفتهن ، هذا ما يبدو عليهنّ ؛ فقد تميّزن عنها بملابس تزيد بريقاً كلما ملْن يميناً ويساراً ، فضلاً عن الـحُليّ التي تزيّنهن ، من أساور ، وأخراص ، وسُلُوس ، إلا أنهن غير متعلمات مثلها ، حالُهنّ في ذلك كحال كثير من النساء اليمنيات في تلك الفترة الزمنية وما قبلها . أخذن يتطلعن في وجوه الأم وبناتها، ورحْن يمتدحْنهن كثيراً رغم حداثة المعرفة التي عمرها ساعة من زمن ، كانت نظرات المدح والإعجاب مصوّبة أكثر نحو ندى كبرى أخواتها . . ثم ما لبثـْن أن ذكرْن الله وصلّين على نبيّه كما هو معتاد في جلسات كهذه . شعرت ندى بسعادة غمرت قلبها ! افترّ ثغرها عن ابتسامة قلقة ، تتلاشى فجأة بين حين وآخر . وفي وسط هؤلاء النسوة كانت كأنها القمر بين النجوم ، أو كأنها أميرة صغيرة بين وصيفاتها . . غير أنها لا تأمر ولا تنهى ! ! عجلة الأحداث تمرّ سراعاً ؛ ففي اليوم الثالث على التتالي ، وبهمّة عالية ، ثمة جلسةٌ أخرى ، لكن في بيت زكية اللصيق ببيت أم ندى ، الجلسة هذه المرّة لجنس الرجال ! ! سيّد المجلس أحمد ، شابّ أعزب في الثلاثين من عمره ، لم يكمل تعليمه الثانوي ، موظف في مؤسسة حكومية ، وهو أخ للآنسة زكية ، والتي تكبره بعشر سنين . وضيوفه هم : سعيد ، وهو صديق لأحمد منذ زمن طويل إلا أنه لم يره منذ عشر سنين ! ! والحاج عبد الصمد ، والد سعيد ، وهو شيخ في السبعين من عمره ، متقاعد عن العمل ، والحاج أسعد والد ندى ، في الستين من عمره ، يعمل بجدّ في أحد مصانع المدينة بأجر زهيد ، وابنه ربيع الذي لم يتعدَّ العشرين عاماً .
* * *
ندى في السادسةَ عشرةَ من عمرها ، كل ما تسرّب إلى سمعها عن سعيد - حتى اللحظة - أنه يكبرها بعشر سنين ، متعلّم ، طيّب العشرة ، كريم ، سخيّ ، مغترب في بلد مجاور ، يعمل هناك منذ عشر سنين ، وسوف يعود برفقة عروسه حالما يتم الزواج . كأترابها ، ذهبت بها الخيالات كلّ مذهب جميل ، رأت السعادة تلمع في ملابس وجواهر قريباته اللاتي جئن لخطبتها ، إلا أن هاجساً يقلقها بين حين وآخر، لم يكن يهمّها هذه المظاهر بقدر ما كانت تتمنى أن تعيش حياة زوجية يسودها المودة والرحمة ، وأن تكمل تعليمها في ظل زوج يقدّر العلم ، ويحترم المرأة . أخذ أحمد يكيل المدح والإطراء لصاحبه ، كأن المجلس لسيف الدولة الحمداني في عصره ، غير أن أبا فراس الشاعر يجيد نظم القوافي وسبك المعاني في حضرة من يستحق المدح والإطراء ، وأحمد يجيد حبك الأماني وزفّ الغواني ، ذاك في بلاط المُلك الذي يسوده العلمُ والأدبُ والحكمةُ والمشورةُ ، وأحمد في بلاطه الذي يتخلله أغصان القات الخضراء وأوراقه ذات التأثير السحري . . بينما هو كذلك إذ بسعيد يشنّف أذنيه جذلاناً ، حيناً يمسح عن وجهه عرقاً يتصبب ، وحيناً ينفث دخاناً رمادياً خانقاً . أردف الحاج عبد الصمد : أولادي - ولله الحمد - لا يعرفون سوى البيت والعمل أو ما فيه أداء لحق من الأقارب والأرحام وفعل الخير . لم ينبس الحاج أسعد وابنه ربيع ببنت شفة أو أختها ، ولم يحركا ساكناً أو يوقفا متحركاً إلا من إيماءات تدل على الرضا والقبول التام ، مكتفيَـيْن بثقتهما بجارهما أحمد ومدحه لهذه الأسرة المجهولة ، فهما على يقين بأنه لن يخسر الميزان . طوال سنين عشناها سوية في (عروس البحر) مذ كنّا صغاراً ؛ لم نرَ في هذه الأسرة إلا كل خير ، ولم أرَ في سعيد إلا أخاً وفيّاً وصديقاً مخلصاً ، وشاباً كريماً ليس ككثير من شباب اليوم . سعيد الخير والخير سعيد ، كلاهما رديف بعض ، وهو الآن يعمل في شركة عملاقة ، ويتقاضى معاشاً كبيراً ، ستحظى من ستكون من نصيبه بالعيش الرغيد والنعيم الدائم ، وقد دلَـلْتُه على خير البيوت وأحسن البنات يا عمّ أسعد ، وهو سعيد بهذه المصاهرة . وبينا هو يستطرد في مديحه صاحبَهُ علتْ وجهَ سعيد ابتسامةٌ ماكرةٌ ، تساءل في نفسه : أهذا أحمد صديقي الذي عرفته في صغره حييّاً؟! . . لم أكن أتصوّره بهذا الدهاء ، لقد أدّى دوره وزيادة. . ثم أخذ ينفث دخانه الذي كاد يخنق الحاج أسعد وابنه ، اللذين لا يتعاطيان هذا السمّ ، المسمّى (دخاناً) . إنْ هي إلا لحظاتٌ حتى سُمع - فُجاءةً - جلَبةٌ ، اختلطت أصوات نساء وأطفال في بيت زكية بالزغاريد ، ثم انتقلت النساء إلى بيت أم ندى يوزّعن الحلوى والمشروبات ، يهنئن العروس بعقد القران وقرب الزفاف . في قلق وارتباك شديدين ، لا تدري ندى أتضحك للدنيا أم تبكي منها؟ وهل ستبتسم الدنيا بوجهها أم ستكشّر عن أنيابها ؟
* * *
سبعةُ أيام بلياليها مرّت ثقيلة وطويلة على قلب ندى وعقلها ، هي الفاصل بين سنواتها الماضية بطفولتها وعذوبتها ، وبين مستقبل لمّا يسفرْ عن كنهه . . سبعة أيام لا تدري أتستعدّ ندى لزفافها إلى رجل لم تره من قبل ولم يرها في خِطبتها ولا في عقد قرانهما ، ولم يؤخذ رضاها وقَبولُها من عدمهما ؟ ! أم تستعدّ لمصير مجهول ، الزواج فيه «قسمة ونصيب». . إمّا إلى جنّة من جنان الأرض ومُلك يبلى ، أو إلى نار من نيرانها وشقائها ؟ ! ! ويَغيب في تفاصيله العقل ويُغيّب الشرعُ الحكيم ، ويسود العُرف والمصالح ؛ فإن ثقافةَ البلد السائدةَ في الزواج محصورةٌ في ثلاث كلمات وخيارين لا ثالث لهما : «للمرأة زوجها أو قبرها» . . ولا شأن للفتاة في أمر زواجها إلا أن تقول لوليّها : سمعاً وطاعة ، قبـِل هو بمن جاء لخطبتها أم لم يقـْـبل . ولا يهمّ بعد ذلك أن تنفطرَ قلوبٌ ، وتتقرّحَ أكبادٌ ، وربما تخرج أحشاءٌ من بين ضلوعها . . لا يهمّ أن تذبلَ الزهورُ ثم تموت موتاً آخر! ! فمبادئُ العرف والتقاليدُ المتوارَثةُ جيلاً عن جيل بلغت في قدسيتها حدَّ أن تكادَ تكون شرعاً بدلاً عن الشرع الحكيم !! لم يتبقَّ سوى شهرين على شروع امتحانات الثانوية العامة . . تحضن ندى حقيبتها حضناً آخر هذه المرّة ، تكاد تعضّ عليها بنواجذها وجوارحها كلّها . في سابق عهدها كانت تحمل حقيبتها المدرسية وحدها . . لكنها الآن تنوءُ بحِـمْـل هموم ملازمة لها ليلاً ونهاراً ، فإلى جانب أعباء الزواج وحقوق الزوج ، هناك حَمْـلٌ آخر وعِبْءٌ جديد ، جنين في شهره السابع من زوج يكبرها بربع قرنٍ إلا عاماً. . وليس العَجَبُ في شيء بقدر العَجَب من معاملته ! !
* * *
أمام واقع وقدر مقدور وجدت ندى نفسَها ؛ فالغبش الذي كان أمام عينيها يتجلى يوماً بعد يوم عن رجل كانت تظنه شاباً في عنفوان شبابه ، تدبّ في جسمه حرارة الشباب ، ومن عينيه تبرق الأحلام ، ومن لسانه تتناثر كلمات الغزل والشوق كما تتناثر أوراق الشجر ، ومع روحه تحلـّق روحها في سماء الله . لم يكن من ذلك في شيء ، فهو إلى كِبَر سنِّه كثير السهر خارج المنزل فيما لا جدوى منه ، كسول ، كثيرا ما يختلق المشكلات من العدم مع زوجته ، أو حتى مع أبويه وإخوته ؛ لسوء فهم ، أو لأسباب لا تستدعي أن تكون فوق حجمها ، عصبيّ ، انتهازي ، فاحش القول ، ماكر ، سريع الغضب والانفعال لأي سبب ، لا يقبل نقاشاً أو يتفهّم أمراً . كم مرة حاولت أن تهدئه ندى في موقف ما من المواقف التي يساء فيها الفهم بين أي اثنين ، فيزداد غضباً وسوءَ فهم ، وإن هي صمتت لإخماد ناره لم يزدْها صمتُها إلا اشتعالاً. الحقيبة التي أحبتها انفرط عقدها مرات عديدة ؛ فتناثرت درر المعرفة أمامها ، وراحت تجمعها حبّةً حبّة ؛ بسبب يده التي ما فتكت تبطش بها ، فلا هو يحترم العلم ، ولا يريدها أن تتعلم ، وما قيل عنه بأنّ لديه مؤهلاً جامعياً ؛ لم يكن سوى محض افتراء ، ولا يهمها هذا الأمر كثيراً بقدر ما يهمها أخلاقه وكفاءته ، كيف لا وهي غير مقصّرة في حقـّه ، بينما لا يعرف من الحقوق إلا ما كانت له ، ولا يقبل لها عذراً في حال ضعف أو مرض أوكرْب . أكثر وقته يقضيه بصحبة أقرانه في جلسات الدّخان والقات اللذين لا ينقطع عنهما ولو يوماً واحداً ، وكأنه لا يحيا إلا بهما ، أو تجده في أندية السهرات ، وفنادق المجون الليلية حتى الفجر . . ثم لا يأتي بيته إلا مع أذان الفجر لينام! وحين يصحو لا يصحو إلا عابساً ، يأمر وينهى ، يشتم ويلعن ، لا تدري أهو ربّ بيت ، أم سجّان بغيض؟! كان لديه بقية دراهم معدودة ادّخرها من غربته ، ثم أنفقها في اللهو والضياع ، ولم يعد إلى عمله في بلاد الغربة ؛ فقد انكشف أمره بعد زواجه ، تبيّن أنه تشاجر مع ربّ العمل هناك فطرده ؛ لأنه كان كثير الإهمال لعمله كثير الانقطاع عنه ، وعودته ليس إلا طبخة أعدّت بعناية في مطبخ أحمد وزكية . . هو الآن عاطل عن العمل إلا من حين وآخر ، هنا وهناك ، ومع ذلك لا يسطيع لذلك صبرا . أربعون عاماً هي عصارةُ تجاربَ عند ذي لبّ ، غير أنها عصارةُ جهل بحقيقة الحياة ، وتخلـّـف عن ركب سفينتها عند من أضاعوا عقولهم ولم يعقلوا ضياعهم ، فانعدم شعورهم وإحساسهم بالمسؤولية . أربعون عاماً كفيلة بأن تجعل منه أباً حنوناً لطيفاً مع زوجة في سنّ ابنته ما لو أنه تزوّج في عشرينيات عمره، تجعل منه زوجاً راشداً يتحمل تبعات زواجه ، وأخاً كريماً في تعامله أمام فتاة لا تملك من أمرها حيلة .
* * *
بين كـَـرْه الحَمْل وكراهية الحِمْل- وبعد عامين من زواجها - أنهت ندى امتحانات المرحلة الثانوية العامة ، بعد تودّدها إلى زوجها وترجّيها وتذلّلها بين يديه ، وبشرطٍ اشترطه عليها : أن تعطيه ذهبها التي تدّخره ليوم أسود ، وما أكثرَها أياماً مع أمثاله ! ! ما هي إلا بضعة أيام حتى خرج إلى الحياة من تمنت له الموت في أحشائها عندما علمت بأنها حُبلى ، لكنها استغفرت ربها بعد ذلك ، رجت أن يكون سبباً في صلاح ذات البين ، والرجوع إلى الحق ، لعل قلبَه يرقّ ، وفؤادَه يلين ؛ فيأتي يومٌ - وإن تأخر - يشرق حباً . غير أنه كلّما مرّت الأيامُ والسنون ازداد سعيدٌ عتوّاً ونفوراً من الحق والعدل ، لقد تغيّرت دوَلٌ ولم يتغيّر ، ونهضت أخرى ولم ينهض ، سقطت قلاع حصينة في أيام معدودة ، ولم تسقط قلاع طبائعه السيئة أمام تودّد زوجته وتلطّفها حيناً ، وأمام دموعها أحياناً كثيرة رغم مضي عشر سنين على زواجهما ، ورغم فترات الافتراق ، و وسطاء الخير بينهما . أهو كيد النساء ابتدأ بزكية ؟ ! ! أم مؤامرة الرجال مذ بدأت باللقاء الحار بين أحمد وسعيد ، بعد انقطاع دام عشر سنين دأباً ، ثم حان وقت حصاد ثمرة هذا الانقطاع بوصال جميل وفرح أجمل ؟ ! ! عشرُ سنين تجرّعت مُــرّها ندى ، لم تسلم من لسانه ويده ومكره . عشرٌ من عمرها سلبت من جسدها القوة ، ومن حياتها الأمان ، ومن قلبها الاطمئنان ، ومن عقلها الراحة ، ومن روحها السُّـمُوّ ، ومن لسانها الذكرَ الحسن ، ومن عينيها لذّة الوسن ، ومن خيالها الصفاء ، ومن ماضيها الذكريات ، ومن مستقبلها النور ؛ وأحلّت مكانها الخوف ، والقلق ، والشرود ، والنسيان . . . إلا أنها مع ذلك لم تنسَ قطّ أنّ الله أحكم الحاكمين ، وأنه لا يُظلم عنده مثقالُ ذرّة . بين حين وآخر تضيق بوجهها الدنيا على رحابتها بسببه ، فتطلب الانفصال ، لكنّه يصرّ على ألاّ يطلّقها ؛ بادّعاء حبّه لزوجته وأولاده ، وأن «أبغض الحلال إلى الله الطلاق»! ! متناسياً حكمة المشرّع «فإمساك بمعروف أو تسريح بإحسان». * * *
ماذا تبقى لها في حياتها الباقية سوى أولادها الثلاثة : (محمد) ابن السنوات التسع ، و(زينب) ذات السنوات الست ، و(رُبى) في سنّها الرابعة ، و سوى أمّها العجوز ، ترعاها في كبرها , هي و صُغرى أخواتها . فقد توفّي أبوها بعد سنتين من زواجها ، أما أخوها ربيع فتزوّج بعد وفاة أبيهم بسنة ، وأصبح له من الأولاد ثلاثة ، يعيش حياته بعيداً عن أمه وشقيقاته ، وأمّا أخواتها الثلاث ، فاثنتان منهن ، وهما : مروة ونبيلة تزوجتا كذلك بعد زواج أخيهن ، وهما أحسن حالاً من ندى إلا أنهما غير سعيدتين في حياتهما ، وأمّا سمّية فبعد وفاة أبيها وزواج إخوتها صار لها رأي آخر في الزواج ، فالذين تقدّموا لخِطبتها ليسوا إلا صوراً مكررة لأصهارها ، يفتقدون لمعياري قبول الزوج : الدين والخلق كليهما ؛ فأصرّت على أن تكمل تعليمها الجامعي بتشجيع أختها ندى ، حتى يجعل الله من أمرها يسرا .
* * *
بعد تردّد وحَيرة داما طويلاً اتخذت ندى قرارها الأخير بما عليه من حِمْل ثقيل ، لم ترَ بدّاً من أن ترفع دعوى قضائية ، بطلب الخُلع من المدعو سعيد عبد الصمد ، فتخلع معه جلبابَ ماضٍ أسودَ لم تنفع معه مختلِـف المساحيق ، وفي سبيل ذلك تتحمّل أوزار من كانوا سبب محنتها فيما مضى وفيما هو آتٍ ، إذ هي لأبنائها الأمّ والأبُ والصديقُ ، هي تعلم أن ذلك مقدّر ومكتوب مذ هي مضغة في بطن أمّها ، إلا أنها لا تقبل عذر من كانا مفاتيح للشر ، مغاليق للخير ، وليتهما اعتذرا ، من كانا محلاً لثقة أبيها وأمها والأسرة كلها : أحمد وزكية . هاهي بعد سنييّ الجفاف تلملم جراحاتها ، وتحضن أحبابها الصغار ، وتُعنى بأمها وشقيقتها ، وتتشبّث بحقيبتها من جديد ، والتي تغيّرت شكلاً ولوناً بتغيّر الأحداث والزمن . . . هاهي ذي الأستاذةُ ندى - في العقد الثالث من عمرها - ومع إطلالة قرن جديد ، تذهب صباحاً إلى الجامعة كأستاذة معيدة ، وتعود في المساء ، تحمل ابتسامة في شفتيها واضحة الملامح ، في إحدى يديها بعضُ أشياءَ لأمها وأحبابها الصغار ، وفي الأخرى حقيبتُها الجامعية ، وفي عينيها بريقُ أمل . لم تكتفِ بذلك ، بل إنها شرعت تلتحق بـ(التعليم العالي) قسم (علم اجتماع) ؛ فنالت أعلى درجة فيه مع رُتبة الشّـرف . .
ثم ما لبثت أياماً حتى أتى يومٌ أشرق حبّـاً آخر .