في حب صورة الرئيس
د. قائد غيلان
د. قائد غيلان

 ترتبط فكرة الزعيم دائما بالتخلُّف، ففي المجتمعات المتخلفة فقط يتم إنتاج الزعماء أما المجتمعات المتقدمة ذات الأنظمة الديمقراطية فيحكمها أناس عاديون يؤدون أدوارهم وواجباتهم ثم ينصرفون. فالزعيم أو القائد الرمز كلمتان تعنيان الدكتاتور أو الطاغية، والسلطة التي يمتلكها الزعيم الرمز لا حدود لها فهو يدير البلاد بقدرات وصفات خارقة يصطنعها لنفسه ويرسخها في شعبه، فهو ينطلق من ذاته المُلْهَمَه لا من الدستور والقوانين والأنظمة والمؤسسات التي تحكم البلد. والعلاقة التي تربط الزعيم بشعبه علاقة غامضة لا تنطلق من تطبيق القانون بل علاقة عاطفية يحكمها شعار لا علاقة له بالدستور أو القوانين وهو شعار "حب الشعب ووفاء القائد". فهي علاقة غامضة وغير محددة، لا تُفسَّر إلا بمفردات عاطفية لا وجود لها في أنظمة الحكم في العالم المعاصر، و هي علاقة الحب، فما سر ذلك الحب؟ 

أشخاص يؤيدون علي عبدالله الصالح ويستميتون في الدفاع عنه، البعض يفعل ذلك انطلاقا من مصلحة معينة وهذا أمر طبيعي وليس هو موضوع حديثنا، والبعض ينطلق مبالغاً في حماسه بدون أي مصلحة بل انطلاقا من حبه للرئيس. 

يعلق أحد المشايخ صور الرئيس على سيارته وقد كتب عليها: من السهل أن تموت من أجل علي عبدالله صالح لكن من الصعب أن تعيش بدونه. هذا النموذج الأول الذي ينطلق من مصالحه. أما النموذج الثاني وهم كثر، فهم أولئك المتعبون والتعساء الذين نصادفهم في الأماكن العامة وعندهم الاستعداد للدخول في معركة معك وقد يرتكب فيك جناية إن فتحت فمك بكلمة ضد الرئيس. 

ما الذي يدفع شخصاً يعيش حالة البؤس والفقر وفقدان الحاضر والمستقبل لاتخاذ هذا الموقف المتشنِّج، والتطوُّع في الدفاع عن شخص هو سبب معاناته وبؤسه وفقره؟ لعل التخلف سبباً رئيسيا لهذا، لكنه ليس السبب الوحيد، ولا يعطينا الإجابة الكافية، لأن كثيراً من الناس يعيشون حالة التخلف نفسها ومع ذلك فهم يفهمون جيدا أن هذا النظام هو المسئول عن سوء وضعهم.

المسألة شديدة التعقيد ما يجعلنا نذهب إلى علم النفس لنفهم موقفهم في هذا السلوك الغريب. ولعل مفهوم (التماهي) هو التوصيف الأنسب لتلك الحالة النفسية، وقد شرحه بدقّة الدكتور مصطفى حجازي في كتابه (التخلف الاجتماعي.. سيكولوجية الإنسان المقهور). فالإنسان المقهور في المجتمعات المتخلفة، يعجز عن تحقيق أحلامه في تطوير ذاته فيلجأ لاشعورياً إلى التعلُّق بشخصية أخرى يرى فيها بديلاً لشخصيته المهزومة، ثم يتطور الإعجاب العادي إلى حالة مرضية تسمى (التماهي) وهي حالة أكبر من مجرد التقليد العادي أو التقمص الواعي، إن التماهي حالة لاشعورية تتمثل في توحُّد وذوبان للشخصية مع الشخصية المتماهى معها، فهذا الشخص المقهور، عادة ما يتماهى مع شخصية أقوى، ثم يضفي عليها من خياله صفات أخرى غير واقعية فتغدو صورة مثالية.

إن هذا الشخص الذي يعيش حالة من التماهي مع المتسلِّط يكاد يصنع تلك الصورة بنفسه، ولذلك يصبغ عليها من الأوصاف ما لا تتوفر إلا للأنباء وهي الكمال والعصمة من الخطأ. فالتماهي حالة لاشعورية غير واعية يقوم فيها الشخص المقهور بتمثل صورة المتسلط وتقمصها حتى يصل إلى مرحلة التماهي بها، يلجأ لاشعورياً إلى التعلق بشخصية ناجحة هروباً غير واعٍ من فشل الذات في بلوغ المكانة اللائقة بها، وأي جرح أو نقد لتلك الصورة يقلل من صورة المتسلط أو يشوِّهها، يحس الشخص المقهور أنها تجرحه هو شخصياً، حتى لو كان نقداً عادياً لا يقلل من شأنها ، ولذلك عندما يدافع عنها إنما يدافع لا شعوريا عن صورته التي كان يريد أن يكونها ولم يستطع فتماهى مع تلك الشخصية، إنه عندما يغضب في وجهك دفاعاً عن علي عبدالله صالح إنما يدافع لاشعوياً عن صورته وقد خرجت من ذاتها والتحقت بشخصية أخرى .

كيف نفسر ذلك الاحتفال الجنوني بأول ظهور للرئيس بعد حادثة النهدين؟ لقد كان احتفالاً هستيرياً لا يمكن فهمه إلا بالرجوع إلى علم النفس، خاصة وإن ظهوره على ذلك النحو كان يدعو إلى الشفقة لا إلى الفرح والاحتفال. لقد ظهر الرجل في صورة مغايرة تماماً للصورة المرسومة له في مخيلاتهم، فشعروا بهزيمة نفسية قاسية لا يمكن تعويضها إلا بافتعال نصر وهمي سرعان ما تحوَّل إلى حزن في الساعات التالية للاحتفال، فما ذلك الاحتفال إلى صراخ المقهور، إنه مغالطة للنفس وهروب من الشعور بسقوط الرمز/ الذات. وعندما أدرك النظام المفعول العكسي لذلك الظهور سارع إلى عرض صورة أخرى أحسن ترميماً، علّها تعيد بعض بريق الصورة الوهمية للرئيس إلى ذهن الناس وقد تمحو الصورة المحروقة.

 إن التماهي عملية نفسية تبدأ بالإعجاب وتنتهي بالذوبان أو التوحد أو التماهي مع الشخصية المتسلطة. ولأن العملية تتم في اللاوعي فإن الشخص لا يجد سبباً منطقياً مقنعاً فيضطر في الأخير إلى القول إنه لا يمكن أن يتصور الحياة في اليمن بدون علي عبدالله صالح أو أنه لا توجد أي شخصية في اليمن يمكن أن تحل محله، والبعض لا يجد تفسيراً لموقفه إلا على أنه الحب. والحب، وإن كان عصياً على التعريف، ومن أكثر المفاهيم غموضاً، ويصعب عليك في كثير من الأحيان أن تجد سبباً ما لحبك شخصاً ما، فإن الحب المتّجه إلى الزعماء ليس إلا أحد ّأمرين: الأول: انعدام الحب نفسه وما هو إلا تضليل إعلامي من الحكام لشعوبهم كما رأينا في الحالة المصرية، فقد كان النظام يروِّج أن الشعب يحبه فاتضح أن كل الشعب المصري خرج ثائراً ضده. والأمر الثاني، هو ما ذهبنا إليه من أنه نوع من المرض النفسي، يدخل ضمن التماهي بالمتسلط وهي حالة نفسية غير سوية.

 
في الخميس 06 أكتوبر-تشرين الأول 2011 05:57:49 م

تجد هذا المقال في مأرب برس | موقع الأخبار الأول
https://mirror1.marebpress.net
عنوان الرابط لهذا المقال هو:
https://mirror1.marebpress.net/articles.php?id=11848