الإصلاحيون: بين تطلّعات الأمس وتحدّيات اليوم الحلقة 4-5
أ. د/أ.د.أحمد محمد الدغشي
أ. د/أ.د.أحمد محمد الدغشي

شاهدان كبيران على ضعف التوازن:

ظاهرة البراءة من الحزبية والإخوان (فوبيا)

إذا كان الدافع للبحث في جوهر التحدّيات التي تواجه تجمّع الإصلاح الذي غدا ملك المجتمع اليوم – قبل أن يكون ملك نفسه وأفراده- هو البحث عن الخلل بتواضع خُلُقي، ومنهج علمي، ومستوى مسئول وجادّ، وصولاً إلى الحقيقة، كي لا نستمر في اللدغ من الجُحر الواحد ألف مرّة؛ فليس من السهل تجاوز مسألة حساسية الشارع اليمني في أغلبيته بما في ذلك بعض النخب السياسية والفكرية من ظاهرة الحزبية والحزبيين، هل استطاع الإصلاح أن يكون استثناء في ذلك؟ أم أن مشكلته تجاهها أعقد وأكثر إشكالاً؟ تأتيك الإجابة واضحة من خلال شاهدين كبيرين:

أحدهما: ظاهرة البراءة من الحزبية :

وتتجلّى في ذلك الإصرار المستميت من قبل السلطة السياسية ممثلة في حزبها الحاكم (المؤتمر الشعبي)، ومعها أذيالها وأبواق أجهزتها الأمنية، حتى في ساحات التغيير ذاتها وجمهرة من المغفّلين أو المستغفلين حتى من داخل الأحزاب ذاتها على أن الأحزاب السياسية – والإصلاح بوجه خاص- هي من قاد ويقود الثورة الشعبية السلمية! وبدلاً من أن تناقش الأحزاب - ومنها الإصلاح- ذلك برويّة بحيث لاتسارع إلى نفي المقولة دفعة واحدة، على نحو ما جرى تقريباً؛ فهل هي (تهمة) حقيقية كي تُنفى على ذلك النحو؟ أم يمكن استحضار مقولة: “ تهمة لانُنكرها وشرف لاندّعيه” – مثلاً- لكن المحزن أنّها – من حيث تدرك أو لاتدرك- وقعت في شرك ذلك الفخ، فانجرّت إلى مشايعة تلك المقولة وعدّتها (تهمة)،أي كونها من يشرُف – قبل أي طرف آخر-بالوقوف وراء صناعة ثورة الربيع اليمني، ولذلك تم غضّ الطرف عن رفع شعار سيء وغير واقعي حصل رفعه في بعض ساحات التغيير وربما من قبل شباب الأحزاب – ومنهم الإصلاح- ولا سيما في أكبرها وأوسعها بإطلاق وهي ساحة صنعاء منذ الأيام الأولى للثورة وهو الشعار القائل: ( لاحزبية ولا أحزاب ثورتنا ثورة شباب)، وفي تلك المشايعة من الأحزاب – بمن فيها الإصلاح- اعتراف شبه صريح بأنّ الحزبية جميعها: إسلامية أو غير إسلامية (خيانة وطنية)، أو رجس من عمل الشيطان يجب اجتنابه، لإثبات البراءة والطهر!! مع ما يعلمه كل متابع لشأن الثورة الشبابية الشعبية في اليمن أن الأحزاب -وحزب الإصلاح على وجه الخصوص- هو من قاد هذه الثورة في عمومها، بل هذه الأحزاب هي من تسلّمت زمام السلطة في الحكومة المؤقتة، كمحصلة أساس لنضال شبابها وأعضائها في مختلف الساحات وميادين التغيير في عموم محافظات البلاد، فهل يُعقل أن ذلك لايُمثّل الثورة وشبابها ؟ أو أن الشباب في الساحات والميادين كانوا عاجزين عن الإعلان عن ثورة جديدة على الحكومة الجديدة، لو كانت حقّاً لا تمثل أغلبيتهم – على الأقلّ- ؟ الحق أن ذلك ممثل لأغلبيتهم الذين ينتمون إلى أحزاب -وفي مقدّمتهم حزب الإصلاح- وما التفاف أغلبيتهم الغالبة، نحو حكومة الوفاق الوطني ومرشّح الرئاسة التوافقي المشير عبد ربّه منصور هادي؛ إلا دلائل على ذلك . وإذا كانت بعض استطلاعات الرأي - حسب مركز أبعاد للدراسات- توقّعت أن نسبة شباب الساحات المؤيدين للمشاركة في الانتخابات الرئاسية قبيل إجرائها قُدِّر بـ80 %؛ فإن الواقع الفعلي أكّد أن نسبتهم تجاوزت ذلك عملياً. والواقع أنّه من غير المتصوّر من الأساس قيام ثورة – ناهيك عن نجاحها- في واقع كواقع المجتمع اليمني حالياً بلا مشاركة للأحزاب - وحزب الإصلاح على وجه الخصوص- . وصحيح أنّ الأحزاب جميعها لم تكن متبنّية لفكرة الثورة على ذلك النحو، بل كان موقفها لايزال مع الحوار الجادّ مع النظام السياسي ومحاولة إصلاحه ما أمكن، بيد أنّها حين لم تلمس جدّيته سارعت إلى تبنّي خيار الثورة منذ الأيام الأولى لها، ووجهت عناصرها رسمياً وإلزامياً للانخراط في صفوفها. والحق أنّه لولا تولّي قيادة الأحزاب لمسارها – وحزب الإصلاح في المقدّمة- لارتُكبت حماقات، وخرجت الثورة عن هدفها السلمي، من جرّاء استفزازات النظام وبلاطجته وعنفه في غير ما موقف ومرحلة، ولكثرة المناداة الصاخبة بجملة (الحسم الثوري)، وهو العنوان الذي تداخل فيه الممكن مع المستحيل، واتضح لاحقاً – وربما منذ اللحظات الأولى لدى البعض- أن المصطلح لايخلو من (هلامية) في أحسن الظنون، ومن (خُبث) في أسوأها، ومفاده المباشر البسيط: الانجرار نحو عملية انتحار جماعي لدى نظام أرعن، أدمن الجريمة، لايتورّع عن القتل بأي طريقة وأيّ عدد. أمّا إن جئت لإجابة تبدو أكثر مقاربة للحقيقة من زاوية سرّ ذلك (التفزيع) بالأحزاب فهي أنها جميعاً – ومنها الإصلاح- لم تقم بدورها طيلة تاريخها في مساندة الشعب – كل الشعب وليس أعضاء أحزابها وحدهم- لنيل حقوقه عملياً في المواطنة بكل متضمناتها وأهمها –عنده- ضمان الحصول على حدّ معقول من الحياة الكريمة، ونيل الحقوق المدنية الأساسية الأخرى في حدودها المعقولة، ليتميّزوا عن معاناته من السلطة السياسية الفاسدة، التي استأثرت بالسلطة والمال والأعمال، وبغت و وانتهكت المحظور، بيد أن الحقيقة أن الأحزاب لم تصعّد خطابها تجاه السلطة السياسية قبيل الثورة إلا لتسلّم السلطة والفوز بالانتخابات النيابية ثم الرئاسية، وفق منطق (الهبّة الشعبية) التي أعلنت عنها أطراف اللقاء المشارك ومؤتمر الحوار الوطني، ردّاً على تخرّصات حزب المؤتمر الشعبي العام (الحاكم)، الذي كان يعتزم المضي في إجراء الانتخابات النيابية منفرداً، بل مستفزّاً للجميع بمقولة (خلع) العدّاد الرئاسي على لسان أحد صقوره (البائسين)! وفرض منهج (التوريث) لنجل صالح الأكبر (أحمد)، زعماً منه بأنّ ذلك يأتي التزاماً بموعد الاستحقاق المفترض وهو إبريل 2011م، الموعد الذي كان مضروباً منذ العام 2009م، للانتخابات البرلمانية!

الشاهد الثاني: الإخوان (فوبيا)

حين أقدمت السلطة وبلاطجتها على العدوان على حيّ الحصبة ومنزل الشيخ صادق الأحمر، وحين وقعت الاشتباكات المسلّحة بين السلطة وبلاطجتها من طرف وأنصار الشيخ صادق الأحمر من الطرف الآخر، وكذا حين كان يقع العدوان بين الفينة والأخرى على الجيش المؤيّد للثورة، أو القبائل المناصرة لها في مناطق أرحب أو نهم أو الحيمة أو سواها؛ كان التسويق الإعلامي للسلطة قائماً على أساس أن هؤلاء جميعاً هم: ميلشيات (الإخوان المسلمون)، أو بالتعبير الإعلامي لبقايا النظام وقتذاك: (الإصلاح – الإخوان المسلمين)، ولم يكن يذكر سوى مصطلح (الإصلاح – الإخوان المسلمين) هكذا باضطراد إعلامي لافت، وذلك كلّه يحمل دلالات ورسائل داخلية وخارجية، لكن أهمها -فيما نحن بصدده- : التخويف الداخلي بـ(فوبيا) الإصلاح – الإخوان، وحيث إن نسبة غير قليلة من أبناء الشعب ربما لايدركون مصطلح (الإخوان المسلمون)؛ فكان لابدّ من جرّهم إلى الربط بين الإصلاح الذي عرفت به الحركة الإسلامية في اليمن وبين الإخوان المسلمين الذين تسعى جهات كثيرة داخلية وخارجية لتقديمهم على أساس أنهم أساس (الإرهاب) وصناعة (العنف) وملاذ الجماعات (المسلّحة) وعلى رأسها: القاعدة، حيثما حلّوا، ثمّ لتحقيق هدف محلّي فحواه أنّ الانتماء إلى الإصلاح أو الإخوان أسوأ من الانتماء لأي طرف سياسي آخر، وفي ذلك مخاطبة لذهنية قطاع واسع من أبناء المجتمع اليمني ومشاعرهم، بحيث يتم تذكّر معاني الانتماء الحزبي التي انقدحت في أذهانهم، بكل ما يحمله ذلك الانتماء من أدواء الحزبية وآفاتها، من حيث التعصّب والتخندق والإقصاء للمخالف، والربط بين ذلك وبين حصول الويل والثبور وعظائم الأمور، على البلاد والعباد، إن هم توصّلوا إلى مقاليد السلطة في البلاد . والسؤال هنا مجدّداً: فأين بناء الفرد ثمّ الأسرة ثم المجتمع في أغلبيته على تقبّل توجّه الإصلاح، ودحض الشائعات المغرضة من جانب أغلبية الشعب بعد عقود من تثقيفه وتنشئته على حب الدين والمتديّنين؟ ومن ثم إذا حان وقت إقامة الحكومة (الرشيدة) التي نادى بها المؤسس الراحل: حسن البنا فلن يكون هناك ممانعة على نحو ما نلاحظه اليوم من خلال مؤشر كبير هو الثورة السلمية، بالنظر إلى من يوصف بأنّه يقف وراءها! أم أن الخصوصية اليمنية في الشراكة السياسية باتت تأخذ صفة الدوام والخلود، ومن ثمّ فلها طريقتها المستقلة المناقضة لأسس التربية السياسية – والإخوانية جزء منها- ومنهجها في العالم، من حيث التدرّج والبناء والتأثير المجتمعي؟ ولئن حدث مثل ذلك – ولا أحسبه كذلك على نحو يذكر نظرياً على الأقل- فهو مما يقتضي إعادة النظر في أبجديات التكوين التربوي – بمفهومه الشامل العميق- والبحث عن الرؤية الاستراتيجية - لا الاقتصار على التكتيك والنظرة المرحلية الراهنة وحدها- لتجمّع الإصلاح في الفكر السياسي ومتغيّراته ؟

الإصلاحيون: بين تطلّعات الأمس وتحدّيات اليوم 5-5

تحدّي الإصلاحيين:

 أزمة الحوار الداخلي ومدارس الإخوان

أنتج التحدّي السابق المتمثّل في ضعف الاهتمام بعملية التنشئة والتكوين الشامل للفرد وفق هدف الراحل المؤسس ضعفاً في الالتزام بقيمة إسلامية وإنسانية عامة تتمثل في قيمة الحوار، سواء مع المنتمي إلى إطار الحركة أم غير المنتمي، الموافق لأطاريحها أم المخالف، لكننا هنا سنقتصر على أزمة الحوار الداخلي لما لها من دلالة سلبية مؤثّرة على واقع الحركة ومستقبلها، فيما إذا استمرت الأزمة تنهش مكوّنيها الرئيسين التالي ذكرهما بلا معالجة جادّة.

 ويظهر أن للتنشئة الخاطئة باكراً على مفهومات الولاء والبراء على نحو ضيّق الواسع ووسع الضيّق دوراً غير قليل في تفاقم الأزمة واستمرارها، وذلك حين وقع قدر من الضيق لدى بعض أفرادها بمختلف مستوياتهم ببعض من يحمل رأياً اجتهادياً في إطار العاملين للإسلام، سواء من داخل إطارها أم من خارجه، وسواء جاء ذلك على المستوى الفردي أم الجماعي، حركياً كان أم دعوياً، فقهياً أم اجتهاداً يتصل بأولويات المرحلة، والاستجابة لبعض التحدّيات الراهنة، على حين تأتي المفارقة اللافتة من خلال ذلك التوسّع في الانبساط ورفع الكُلفة وإذابة الفوارق، إلى حدّ التماهي أحياناً في الأطاريح، وبعض المسالك مع من لايدّعون انتماء إلى الفكر الإسلامي ولا أيّ من مدارسه، وذلك في الوسط السياسي والإعلامي والثقافي بعامة. ومع التأكيد على ضرورة التفاعل والتآلف بين كل أبناء المجتمع وأطيافه بمختلف المشارب والأفكار؛ غير أنّه لاشك أن لذلك حدوداً وضوابط من جهة، كما أن ليس من مستلزمات ذلك أن يأتي على حساب العلاقات الداخلية في الإطار التنظيمي أو بين العاملين للإسلام في الإطار الوسطي العام، من مختلف المدارس والاتجاهات، بشقيها الفردي والجماعي من الجهة الأخرى.

لقد قاد ذلك الوضع إلى تشكيل اتجاهين أو مدرستين داخليتين في إطار الإصلاح : الأولى: مدرسة علمية (محافظة):

وهي محدودة من حيث التنظيم الداخلي، بيد أنّ لديها مخزوناً معرفياً شرعياً (تقليدياً وغير تقليدي) أكثر تأثيراً من حيث الجانب الشعبي العام، وتوصف من قبل أنصارها بالاتجاه العلمي والشرعي (المنضبط)، ومن قبل مخالفيها من داخل التنظيم بالاتجاه (المتشدّد)، أو (السلفي)، ومن قبل خصومها من خارج التنظيم بالاتجاه (المتطرّف) تارة، و(السلفي) أخرى، وقد يتطرّف بعضهم فيبلغ حدّ وصفه لها بالاتجاه (التكفيري) أو (المسلّح)، ولكن تثبت الأحداث الكبيرة كحدث الثورة الشعبية الحالية – على سبيل المثال- أنّ هذه المدرسة وإن شاب منهجها العملي قدر من التشدّد والضيق بالرأي المخالف وربما سفّه بعضهم أو تجاوز آداب الخلاف في الأوضاع الاعتيادية، لكنها بريئة من تهمة التكفير بمعناه الشرعي، أو الإيمان بمنهج العنف (المسلّح) والدعوة إليه، وكثيراً ما أغضت الطرف في ظل الثورة القائمة عن بعض المسائل ذات الخلاف الحسّاس في الأوضاع الاعتيادية، حرصاً منها على نجاح الثورة، وتفويتاً لفرص المتربصين بها الدوائر.

رمزية الشيخ الزنداني وقراءات متباينة:

ومع أنه لاتزال ثمّة قراءات متباينة لهذه المدرسة ورمزها الأكبر الشيخ عبد المجيد الزنداني، ولكن لاشك لا شك أنّ بعضها قراءة خاطئة قاصرة، بل جاحدة أحياناً، كتلك التي تصم الرجل بالتشدّد والتكفير تارة، وبالعنف والولاء لأنظمة سياسية (استبدادية) تارة أخرى. وقد تولّى هذه القراءة بعض خصوم الشيخ التقليديين من اليسار واليمين على حدّ سواء، وخاصة ممن اصطدموا به أو باتجاهه الفكري يوماً من بعض عناصر اليسار اليمني وقلّة من رموزه، وجزء ممن تربّى على أيديهم أو تأثّر بمقولاتهم من الشباب وبعض السياسيين والمثقفين اليوم، وذلك كاجترار مؤسف لرواسب مرحلة الصراع الشهيرة بين الإسلاميين واليساريين منذ الستينات والسبعينات من القرن الميلادي المنصرم، دون أن يدركوا أنّه لو تمّ استدعاء تلك المرحلة بعُجرها وبُجرها لما أبقت لأحد رمزاً إلا وأشبعته قدحاً وتشريحاً للمثالب والعيوب، وبدلاً من أن تغدو تلك المرحلة محطة عبرة، تدفع الجميع لاستلهام دروسها المرّة، لنبني عليها اليوم جسور التآلف والتعاضد؛ إذا ببعضنا يسعى لإحيائها جذعة اليوم، في تسابق محموم مع دعاة الثارات القديمة، لافرق بين موصوم بـا(الظلامي) أو موسوم بـا(الحداثي)، فالعبرة في نهاية المطاف بالمسلك لا بالشعار!

مواقف مؤسفة ولكن... :

 نعم ثمّة بعض المواقف العملية المحدودة (المؤسفة) – من وجهة نظر كاتب هذه السطور- انجرّ إليها الشيخ، وهو وإن لم يكن متبنياً لبعضها بقدر ما كان مشايعاً أو مناصراً أو متلقّفاً، لكنها حُسبت جميعاً عليه، وأحدثت من التقوّل والإحن، ماكان أغناه عن ذلك، لو كان ثمّة تأنٍ واستيعابٌ كافٍ لأوجه بعض تلك المشكلات وأسبابها وملابساتها، ومآلات تبنّيها، كما أن غياب الناصح الأمين، أو الصديق الصادق الصدوق، ممن يثق به الشيخ ويستمع لمشورته عمّق من هوّة ذلك المسلك. وأغرب من ذلك أن بعض تلك الأطاريح أو المواقف للشيخ جاءت على خلاف قناعاته ومواقفه الكليّة التي عُرف بها طيلة تاريخه الدعوي والفكري.

حرّية الصحافة والضحية: اليوسفي والأسعدي

ويبدو أن موقف الشيخ من حرّية الصحافة- في إطار الثوابت بطبيعة الحال- واحد من ذلك الإشكال. ولا أظنني سأنسى موقفين في هذا السياق انجرّ إليهما الشيخ، وأحدثا من التداعيات (المؤسفة) ما يجعل الحليم حيران!

أمّا الأول: فذلك الموقف المستغرب صدوره من رجل كالشيخ الجليل حين صعّد خطابه تجاه رئيس تحرير صحيفة (الثقافية) آنذاك الأستاذ سمير اليوسفي، على خلفية ملابسة أفضت إلى نشر صحيفة (الثقافية) التي كانت تصدر عن مؤسسة الجمهورية بتعز قبل سنوات، نصوصاً من رواية الراحل: محمّد عبد الولي (صنعاء مدينة مفتوحة)، فُهمت على أنها مسيئة للمقدّسات - وقد تكون كذلك، كما أن الصحيفة وقعت في تجاوزات (أخلاقية) كثيرة باعتراف رئيس تحريرها ذاته- لكن أحسب أن لرئيس تحرير الصحيفة ألف مندوحة ومندوحة فيما يتصل بنشر تلك الرواية، بعد أن اطّلعت واطّلع كثيرون– كما اطلعت النيابة العامة وبرّأت ساحته بناء على ذلك- على ملابسات النشر ودوافعه، وهو ما لم يقنع الشيخ، أو يحدّ من تصعيد بعض المنتسبين إلى جامعة الإيمان التي يديرها، ومع غرابة هذا الموقف كذلك من القضاء وأحكامه؛ فالشيخ يعلم – قبل غيره-أنّ المحققين من أهل العلم – كما يقول حجة الإسلام أبو حامد الغزالي ت: 505هـ في كتابه (فيصل التفرقة بين الإسلام والزندقة) - يذهبون إلى أنّه إذا كان ثمّة تسعة وتسعون باباً إلى الكفر وواحد إلى الإيمان؛ فإنّه يقدّم باب الإيمان على باب الكفر، ذلك أن الأصل في المسلم البراءة الأصلية، ولما تحمله تهمة التكفير من عواقب ! ولم يكن يتوقّع محبّوا الشيخ والمدركون لملابسات الأمر وعواقبه، العارفون بشخصية الشيخ وتاريخه أن يسارع فضيلته -وقد عُرف طيلة تاريخه الدعوي بالمناداة لاحترام القضاء وسلطته، وعدم الضغط عليه، أو التدخّل في شئونه، وكم لجأ إليه شخصياً وأنصفه- ليقول في خطبة جمعة ألقاها بجامع الزمر- بصنعاء القديمة ولعلّها مسجّلة وكنت واحداً من حضورها- ما مفاده أن رئيس الجمهورية وجّه بتشكيل لجنة للتحقيق في الأمر، فاعترض الشيخ على ذلك بالقول نصّاً- إن لم تخني الذاكرة-: “وهل يستحق مثل هذا الأمر تشكيل لجنة؟ وهل جزاء مثل هذا الكاتب إلا أن يودع في السجن ....؟” والحق أنّه نال الأستاذ اليوسفي من عنت المحاكمة و(عنف) بعض (الفُتوات) المحسوبين على جامعة الإيمان أثناء انعقاد جلساتها، ما لو حدث لغيره، لربما أفضى به إلى موقف سلبي من الدِّين ذاته!!

الموقف الآخر: ردّة الفعل غير المتوازنة تجاه كل من نشر صوراً أو مقاطع من الرسوم (الكاريكاتورية) الدانمركية المسيئة للنبي العظيم محمّد – صلى الله عليه وآله وسلّم- قبل سنوات، أيّاً تكن الدوافع، ومهما عُرف عن الكاتب أو الصحيفة من حُسن السمعة أونبل المقصد، أو حتّى أسلوب العرض وسياقه، وذلك ما حدث مع الأستاذ محمّد الأسعدي الذي كان يرأس تحرير صحيفة (يمن أوبزرفير) الناطقة بالإنجليزية، فقد كان وضع على تلك الرسوم علامة ( x )في إشارة إلى استنكاره لها، لكن كل ذلك لم يشفع له لدى الشيخ حيث رفع عليه دعوى بالترويج للرسوم المسيئة، ونال ذلك الرجل الموصوف من بعض من تربطه به علاقة بحسن السمعة والخُلُق القويم- مع أني لا أعرفه شخصياً- من البلاء وتعسّف المحاكمة، وإهانة السجن وقسوة بعض العساكر، مالا يُعقل أن يكون وراء ذلك شيخ تقيّ حكيم كالزنداني.

شخصية الشيخ ودوافع الإشكال:

قد يقال - وهذا لا يبرّر للشيخ ذلك بحال بالنظر إلى علمه ووعيه وخبرته وجهاده- إن الشيخ قد اندفع نحو تبني ذينك الموقفين بناء على غيرة دينية (جامحة)، وعاطفة إيمانية لاتقبل المهادنة، خاصة مع نفخ غير حكيم حيناً، وغير بريء حيناً آخر في موقفيه من قبل بعض طلبته (الغُلاة) في الجامعة، بل من بعض رموز الوعّاظ و(كهنة) الدّين من خارجها، وربما - لو تأمّل- فضيلته لتذكّر أن ولاء بعضهم للحاكم الأعلى في ذلك الحين يفوق ولاءهم لله ولرسوله وللمؤمنين، من حيث يدركون أو لايدركون، أي أنّه لو وجههم الحاكم (بأمره) إلى الكفّ عن ذلك- وهو المشهور بانتعاشه في أجواء الصراعات وخلق الأزمات وأجواء الاضطرابات بين الفرقاء- لارتدّ بعضهم عليه !

ولكن ولئن قيل ذلك فكيف يستوعب المرء موقفه من المرأة على ذلك النحو من الحسم والصرامة في بعض جوانب الخلاف مع أغلبية حزبه؟ هل كان دافعه إلى هذا الموقف الأخير – كشخصية كاريزمية جامعة- حرصه على استيعاب كل صوت (دعوي) داخلي أو خارجي، بصرف النظر عن صوابه من خطئه؟ ومن منطلق التوفيق بين العاملين للإسلام من داخل اتجاهه (الإصلاح) ومن خارجه؟ ربما لاسيما مع ما عُرف عن الشيخ مؤخراً من الانحياز أحياناً إلى بعض الآراء أو الاتجاهات الواردة من خارج الإصلاح أكثر، خاصة تلك المشتهرة عن (السلفية الجديدة)، بدافع أساسه- فيما يظهر- وحدة العاملين للإسلام، ورفض المسلك الحزبي الضيّق، ليتبع ما يعتقده صواباً من أي إطار أو فرد أتى، هذا بما لا يخلو من ردّة فعل على بعض ما قد يراه تجاوزاً له من بعض رفاقه، أو حتى من تلامذته أو من هم دونهم. ومع أنّ سعة الأفق هذه محمدة في ذاتها من حيث جوهر الفكرة، ومنطلق المبدأ، أعني عدم التقيّد لشخصية علمية وفكرية (مرجعية) بحجم الشيخ الزنداني بإطار خاص، لكن ليت ذلك كان علناً منذ البداية، أي أن يظل الشيخ وأقرانه خارج الأطر الحزبية وقيود التنظيمات السياسية، ليظلوا مرجعاً جامعاً للأمة، حتى وإن ظل ولاؤهم الخاص (لاشعوريا) لإطار ما أكثر من غيره، فذلك طبيعي في ظل عقود مديدة قضوها فيه، أما بعد أن يختار أيّ منهم المضي في طريق الدعوة رسمياً عبر تنظيمه المعروف؛ فإن هدفه في دعوى الاستقلال والحرص على جمع الكلمة حتى من خارج التنظيم، تصبح – من حيث لم يقصد- عامل تفتيت وانقسام داخلي، دون أن تؤدّي إلى تحقيق ذلك الهدف النبيل، وهو جمع الكلمة بصرف النظر جاءت من داخل إطارهم التنظيمي أم من خارجه، علاوة على أن نتائجها لاتأتي دائماً سليمة صائبة، كما أنّه من غير المسلّم به ابتداء أن كل تلك الآراء أو المواقف قائمة على أساس علمي أو فقهي أرجح من غيرها، ناهيك عن أن تكون قطعيات لاتقبل النقاش. وقد كان الأمل يحدو كل غيّور حريص على الرقيّ بالعمل الإسلامي أن يجذب عالم وداعية ومفكّر بحجم الشيخ الزنداني الأطراف التي تربطه بهم علاقة طيبة مع انشداد بعضهم إلى آراء أو مواقف- تبدو – من وجهة نظر أغلبية العاملين في إطار الوسطية الإسلامية - غير منسجمة مع مبدأي الاعتدال والوسطية إلى هذه الدائرة – دائرة الاعتدال والوسطية- أكثر مما ينجرّ هو إلى مشايعة آراء ومواقف لاتنسجم مع تاريخه الفكري والدعوي والسياسي الشخصي، أو تاريخ جماعته الفكري والدعوي والسياسي من باب أولى. ولعل الشيخ الجليل لايزال يتذكّر أن بعض الاجتهادات المثيرة التي روّج لها بعض الفضلاء من العاملين في الإطار السلفي يوماً ثم مالبث بعضهم أن أعلن مراجعته لها، قد كشفت الأيام أن بعضها لايعدو آراء اجتهادية مدرسية (خاصة)، أو اتجاهات فقهية (محدودة)، قد لايدوم بعضها طويلاً، شأنها في ذلك شأن مسائل أخرى كانت تقدّم في السابق، على أساس أنها مسائل قطعية، ثابتة، بل ربما تجاوز بعضهم فأدرجها في دائرة الاعتقاد، ولعل من أبرز نماذجها (المحزنة) رسالة ( القول المفيد في أن دخول المجالس النيابية ينافي التوحيد) أو رسالة (خمسون أو مائة مفسدة في الديمقراطية) ، وقد لاقت مثل هذه الأطاريح احتفاء وقبولاً، وبنيت عليها مواقف يوماً من بعض الذين تغيّرت اتجاهاتهم اليوم إزاءها (مائة وثمانين درجة)، أي أنها ما لبثت وغيرها أن غدت مجالاً للبحث والنقاش والترجيح، حتى بعض من كتبها أو مثلها لم يعد بوسعه اليوم إلا أن يحتفظ برأيه إن كان لايزال مصرّاً على وجاهته، دونما تشنيع أو اتهام لمخالفيه! تأمّل ذلك التحوّل الذي طرأ على بعض تلك المسائل أو المواقف فنقلها من دائرة الخطأ المحض يوماً إلى الصواب المطلق أو الأرجح – على أقل تقدير- اليوم، وكذا مسائل كانت راجحة بالأمس غدت مرجوحة اليوم، كمسألة مشروعية الانتخابات البرلمانية والرئاسية وسواها، والمشاركة في العمل الحزبي والسياسي، والموقف من العملية (الديمقراطية) برُمتها، والموقف من الآخر بكل مستوياته، ودور المرأة ومشاركتها المجتمعية وغيرها .

الأظهر أن تبنّي الشيخ لبعض تلك الآراء الغريبة عن منهجه الكلّي وتاريخه الفكري والدعوي تعزى – إلى جانب عوامل أخرى أشير إلى بعضها آنفاً- إلى تأثّره البيّن ببعض الأفراد ذوي المنزع (الخاص) الذين كانوا – وربما لايزالون- يصحبون الرجل كظلّه، ومعلوم تربوياً واجتماعياً ونفسياً أن دوام المجالسة والمنادمة مع الوثوق يفضي إلى المتابعة، حتى من الكبير إلى الصغير، أو من الشيخ إلى لتلميذ، أو من الأعلى للأدنى- على حدّ تعبير أهل البلاغة والأصول- وإن من غير بيّنة حقيقية أحياناً ! أمّا ما عزّز من تلك القراءة القاصرة عن الشيخ أكثر فصارت أشبه بمسلمات لامجال للنزاع حولها لدى بعض النخب الفكرية والسياسية – وفي مقدّمتهم- بعض رفاق النضال اليساري القديم- فتنامي بعض الّلدد الداخلي، الذي أفضى مؤخراً إلى ما يشبه فساد ذات البين، حيث خرجت في السنوات الأخيرة، عن حدودها الأدبية المعقولة، إلى إطار التنادم مع أطراف خارج التنظيم ربما يكون بعضها من تلك الفئة التي تحمل تلك القناعات من قبل، بل ربما لايزال لدى بعضها ثارات فكرية وسياسية قديمة مع الشيخ لم تسهم العقود السالفة ولا المرحلة الراهنة بكل إيجابياتها في الشراكة السياسية والائتلاف من تناسيها أو طي صفحتها، فجاء ذلك التنادم من قبل بعض من يوصفون بزملاء الشيخ ورفاقه في الحركة كشهادة قاطعة من الداخل ليس بعدها شهادة!

ومع كل ما تقدّم عن الشيخ فإن الموضوعية تقضي بالاعتراف أنّه وإن وقع في مزالق – رغم خطورة بعضها- إلا أنّها تظل – بالمجمل- محدودة لبشر في النهاية غير معصوم، إلا أن التأكيد قمين بأن ذلك خلاف منهجه الكلي العام طيلة تاريخه الفكري والدعوي والسياسي، وذلك ليس شأناً خاصاً بالشيخ وحده، بل يكاد يكون سمة كل الكبار والشخصيات الفاعلة، حيث لابد من بروز موقف أو مواقف نشاز تخالف النسق الكلي، لتؤكّد بشرية المفكّر أو المصلح، إذ لو ظل تاريخه كلّه متناغماً منسجماً صواباً في كل المواقف الكبير منها والصغير، وعبر كل المحطات والمنعطفات ربما أحاله بعد ذلك إلى (مقدّس) بشري لدى أتباعه والمعجبين بأطاريحه، ما يعني بلوغه درجة الكمال المطلق الذي قضت سنّة الله– جل وعلا- أن لا يكون إلا له وحده. وقد أحسن الأستاذ عمر عبيد حسنة (مفكّر سوري) حين وصف ابن تيمية – في سياق دراسة له عنه- فقال :” لو لم يخطئ ابن تيمية لقدِّس”.

ومواقف ثورية مشرقة: جامعة الإيمان وهيئة العلماء

وعلى ذلك تظل العبرة بالمسار الكلي العام للمفكّر أو العالم أو الداعية أو المصلح، وليس للاستثناءات أو حتى بعض السقطات التي لايسلم منها بشر. يؤكّد ذلك المسار – في حالة الشيخ الزنداني- موقفه- على سبيل المثال- من الثورة السلمية الشعبية الحالية في البلاد منذ وقت مبكّر، فمن المعلوم أنّ الشيخ بات اليوم يرأس جامعة الإيمان، المتهمة من بعض الأطراف بالتشدّد والغلو والإقصاء للمخالف- وقد لا يخلو ذلك من أساس صحيح على نحو ما سبقت الإشارة إليه من قبل- كما يرأس الرجل هيئة علماء اليمن – ويمكن أن يقال عنها بعض ما قيل عن الجامعة وقد يكون بعضه صحيحاً- لكن المؤكّد لكل من يعرف الأمور على حقيقتها – وفق منطق علمي قويم- براءة الشيخ والجامعة التي يديرها والهيئة التي يرأسها من كل تهمة بالتكفير أو العنف، كاتجاه كلّي عام، بعيداً عن الشذوذات لهذا الشخص أو ذاك، وذلك حاصل في كل الاتجاهات والمدارس إسلامية وغير إسلامية، وإنما العبرة بالاتجاه الغالب دوماً. وحين أعلن الشيخ الزنداني ومن ورائه الجامعة والهيئة وقوفهم المطلق مع الثورة الشعبية فقد قام الشيخ شخصياً بدور فعَال في مقاومة استبداد صالح، منذ الأيام الأولى للثورة، بعد أن كانت تربطه به علاقة ظاهرها المودّة والتصالح وباطنها التربّص والتوجّس كل بالآخر. وحين أراد صالح توظيف الشيخ وهيئته وجامعته لصالح مشروعه في الهيمنة واستمرار سياسته وعائلته أعلن الشيخ انحيازه المطلق لثورة الشباب السلمية الشعبية، وقال لهم مخاطباً بكلمته الشهيرة “: تستحقون على ثورتكم السلمية هذه براءة اختراع”، وكلّفه ذلك الكثير، سواء من النظام السياسي ورئيسه وإعلامه، أم من مرتزقته وجهلة الوعاظ وخدّام البلاط باسم (الدّين)، وقد تعرّضت جامعته لقصف همجي كغيرها من المواقع التي استهدفتها قوات صالح وخدّام عائلته، دون أن يثني ذلك الشيخ عن المضي في دعم الثورة ومؤازرتها على نحو جلي وواضح، وما التركيز السلبي اللافت على شخصه طيلة مرحلة الثورة من قبل وسائل إعلام النظام وبعض أبواقه بمختلف مستوياتهم إلا جزء من ضريبة موقفه التاريخي في مناصرة الثورة ودعمها القوي، كما أنّ كلا المؤسستين (الجامعة والهيئة) قامتا بدور إيجابي مؤثر، من حيث النشاط الميداني ، والتوعية والتثقيف والفتيا، العامة والخاصة، بوجوب مناصرة الثورة الشعبية، والوقوف معها وقوفاً سلمياً مدنياً، وكان آخرها فتوى وجوب دعم المرشّح التوافقي للرئاسة، التي سوّق لها شباب الثورة على أوسع نطاق، وأثمرت – إلى جانب عوامل أخرى- في حصول المرشّح التوافقي على تلك الأصوات التي أدهشت الجميع. وما من موقف أو قضية أو مشكلة طارئة إلا وتعقد الهيئة اجتماعاً بصددها، لتأتي نتائج تلك الاجتماعات متمشية مع خط الثورة داعمة لها، ولعل من أبرزها وآخرها في مرحلة ما قبل انتخابات الرئاسة وقوفها الداعم الصريح لحكومة الوفاق الوطني، وذلك كلّه يبرز المقصود، حيث لاتكفير، ولا دعوة للعنف، كما يروق لبعض خصوم هذا الاتجاه من خارج التنظيم نبزه بذلك، مع التأكيد على ليس من معاني ذلك – وفق المنطق العلمي- أن هذا يستلزم بالضرورة موافقة على بعض الاجتهادات والمسارات ذات الصوت العالي داخل إطار الثورة كالمناداة بالدولة المدنية، فالواقع أن هذا المصطلح محل جدل وتجاذب في كل البلدان التي شهدت ثورات مماثلة، دون أن يستلزم بالضرورة تراشقاً بالاتهامات من مثل وصم المتحفظ عليها أو الرافض لها بالمتطرّف أو التكفيري، وإلا لكان من غير المُستهجن دمغ المنادي بها بالعِلماني أو المستغرِب، إذا التطرف لا مذهب له، دينياً كان أم ليبرالياً، يسارياً كان أم يمينياً، وطنياً كان أم قومياً !

الثانية: مدرسة حركية (تنفيذية):

والواقع أن هذه المدرسة تمثّل اتجاهاً أوسع من السابقة، من حيث عدد الأعضاء في إطار التنظيم، نظراً لكون كل أو معظم القيادات التنفيذية تنتمي إليها، ولكن يبدو أن تأثيرها أقلّ من الناحية الشعبية والجماهيرية العامة – وليس في إطار التنظيم- إذا أخذنا بعين الاعتبار تأثير الفتوى والموعظة في نفوس الجماهير واتجاهاتهم، ورغم كون هذه السمة مشتركة بين المدرستين؛ إلا أنّها لدى الأولى أوضح وأبرز بحكم تميّز دائرتها بأغلب الشخصيات الموصوفة بذلك. ويحلو لبعض أفراد هذه المدرسة وصف أنفسهم بالاتجاه (المنفتح)، ليقع التميّز عن الاتجاه السابق (المتشدّد)، ولكن يُلفت النظر انفتاحها الفعلي على الآخر البعيد، على حين يزداد ضيقها بالآخر في إطار الذات، ولا سيما من المدرسة الأولى. أمّا من خارج التنظيم فتوصف أحياناً بالاتجاه (الليبرالي) داخل الإصلاح. ويلاحظ حظوة هذه المدرسة بقبول لدى أغلب الأطراف السياسية المشاركة لها في تحالف اللقاء المشترك، كما هي محل قبول عام لدى أطراف دولية، في مقابل شبه قطيعة بينها وبين المدرسة السابقة في الظروف الاعتيادية، ولا سيما بين بعض الرموز في المدرستين، وهذا ما يعكّر على وصفها لذاتها بـ( الانفتاح) أو وصف غيرها لها بـ(الليبرالية). ويبدو أنّه لولا المصائب الكبرى لاتسع الشرخ أكثر،إذ لم تلم شعث الفُرقة بين المدرستين في أكثر من مرحلة إلا التحدّيات الكبرى المشتركة، ويبدو أن من أبرزها ذلك الاعتداء الآثم الذي طال الأمين العام الأسبق للحزب الاشتراكي اليمني الراحل جار الله عمر، أواخر العام 2002م، أثناء إقامة الإصلاح مؤتمره العام الثالث، مما صنع التفافاً موحّداً لدى المدرستين لمواجهة أي نزعات تطرّف تحسب على هذا الطرف – داخل الإصلاح- أو ذاك، ثمّ محاولة تطويق آثار الاعتداء وتداعياته على العلاقة بين مكوّنات اللقاء المشترك في مواجهة غطرسة السلطة السياسية التي سعت لتوظيف الحادث، بغية تفكيك الإصلاح من داخله، عبر تضخيمها لخطورة بعض الرموز فيه، والمؤسسات التربوية التي يديرونها، كما هدفت في الوقت نفسه إلى تفكيك عُرى تحالف المشترك، خاصة وأن جار الله عمر يُعدّ أحد أبرز مؤسسيه. كما تجلّى ذلك التوحّد أبرز ما يكون في دعم الثورة الشبابية الشعبية اليوم على ذلك النحو الذي لامجال فيه للاختلاف أو التشكيك أو التأويل، لكن من الواضح أن كل ذلك لاينفي استمرار أزمة الحوار الداخلي وتصاعدها، وتأجيل الاختلافات الكبيرة والصغيرة إلى ما بعد النصر النهائي للثورة، ولا سيما في المرحلة المقبلة، أي مرحلة ما بعد الانتصار والولوج الفعلي في مرحلة التأسيس للدولة القادمة.

وصفوة القول: بأنّه مالم يتم تدارك ذلك التحدّي بمراجعة جسورة من الطرفين فإن الهوّة ستتسع، وتولّد أزمات فرعية جديدة، قد تهدّد وحدة الصف بأكمله -لا قدّر الله- وهو ما سينعكس سلباً حتى في العلاقة مع أطياف العمل السياسي الأخرى، وهذا مالا يريده الغيورون الحريصون على استمرار العطاء الإصلاحي، باعتداله ووسطيته، بما في ذلك تعميق حالة العلاقة الإيجابية مع بقية مكوّنات المجتمع، ذلك أن الإصلاح - بحسب كثير من المراقبين والمهتمين بكل ماله أو عليه لايزال ونأمل أن يظل- يمثِّل النموذج الأرشد بين مكوّنات العمل الإسلامي وأطيافه في اليمن.


في الأحد 11 مارس - آذار 2012 04:16:59 م

تجد هذا المقال في مأرب برس | موقع الأخبار الأول
https://mirror1.marebpress.net
عنوان الرابط لهذا المقال هو:
https://mirror1.marebpress.net/articles.php?id=14442