صعدة: إمبراطورية عزرائيل
صحفي/عابد المهذري
صحفي/عابد المهذري

نسي الجميع البحث عن الحلول.. فقط.. منذ ثلاث سنوات وهم مشغولون بالنقاش البيزنطي عن أسباب هذه الحرب.. صعدة تحترق.. أبناء الوطن يموتون هنا.. القتل المجاني بضاعة رائجة بالجملة.. الدماء أرخص من سعر التراب.. عزرائيل يوزع هداياه بكرم مفرط.. مقبرة المدينة الصغيرة تمتد أفقياً كل يوم.. أعداد الأرامل واليتامى الصغار في ازدياد مضطرد.. الجميع يواصلون الانشغال بقضايا الدين والسياسة.. المأساة تكبر بحجم الوطن.. والحرب تستوطن صعدة.. لم تعد للدماء تلك الحرمة واللون الأحمر صار التعاطي معه كما لو كان ماء وليس دماءً.. يعلق مواطن من صعدة: «القتل أسهل من إشعال سيجارة».. المأساة تجاوزت هذا الحد.. القتل أصبح مثل "شربة ماء" حد تعليق مواطن آخر.. هذا يحدث في صعدة -الآن- والجميع يواصلون الانشغال بالبحث عن أسباب الحرب.

** عند ما تكون في صعدة لا تندهش حين تجد "الحيرة" هي شعار الوقت الراهن.. ستوزع علامات الاستفهام على الملأ.. لكنك لن تحصل سوى على إجابة واحدة متشابهة.. لن تلقى غير البحلقة من عينيك رداً على سؤال عارض.. هنا.. الناس يقلبون كفوفهم على مدار الوقت.. «لا أدري» هي الكلمة الأكثر تداولاً بين أوساط المجتمع.. حتى الذين يملكون مفاتيح المعرفة عن الاستفسارات الطارئة.. يتحاشون التمادي في البراءة خوفاً من لبس قد ينتج.. لم أصدق أنهم جميعاً لا يعرفون أبسط الأشياء.. كلما زادت شكوكي بانت خيوط مهمة.. إنهم يهربون من الحديث عما يملكون من أخبار ومعلومات.. قال «عبدالله» إن القلق يرجع إلى «مقاضاة الأغراض».. والكلمتان الأخيرتان معناهما في القاموس الشعبي لأبناء صعدة يقابل معنى «تصفية الحسابات» في لغة السياسة.. حساسية مسؤولي الدولة بما تصيب الموقف العسكري من حرج.. يدفعهم لتصديق أي وشاية وإن كانت كاذبة!!

** كثيرون وقعوا ضحايا الفخ.. إذا كان لديك خصومة مع أحد وتريد الانتقام.. أسلك طريق «الحوثية».. قدم نفسك كمتعاون مع الدولة ضد أتباع الحوثي ثم مرر وشايتك ضد من تريد.. لن يمر وقت طويل حتى يكون الخصم في السجن وهو من الحوثية براء.. ضحايا هذا المأزق بالعشرات.. منهم من يصبر ويتحمل.. وكثيرون تأخذهم العزة بالقهر إلى الانضمام لصفوف المقاتلين من أصحاب الشعار كردة فعل طبيعية على ظلم لحقهم أو تأثراً بأفكار حوثيين عايشوهم في المعتقل.. حتى «منصر» صار أحد (المكبرين).. كان مسجوناً على ذمة قضية جنائية من قبل اندلاع الحرب في 2004م.. حين زج بالمئات من المحسوبين على الحوثي في السجن.. اختلط بهم وتعرفوا عليه.. في فترة وجيزة اقتنع بما حملوه من رؤى وطقوس دينية.. أخبرني «منصر» بقصته قبل عام.. وحالياً أخبروني أنه يقاتل في تلك الجبال البعيدة.. قصة «منصر» هي نسخة طبق الأصل لنماذج بالعشرات.. أصبحوا «حوثيين» بإحدى وسليتن كلاهما دون ترتيبات مسبقة دون وعي وغصباً عنهم!

** على الطريق المسفلت الفسيح الذي تبرعت بإنشائه حكومة السعودية في الثمانينات.. نمشي بحذر وتوجس خلف سيارة بيضاء عليها شعار الصليب الأحمر.. قبل قليل كنت أتحدث مع أحد موظفي هذه المنظمة.. الصورة في هذا المكان مثل تلك التي اعتدنا مشاهدتها في نشرات الأخبار المتلفزة وتقارير مراسلي الفضائيات من مواقع الحروب والنزاعات المسلحة بمختلف دول العالم.. لكننا مازلنا داخل اليمن.. لم نغادر حدود صعدة.. قمت بجولة سريعة وسط غابة من «الخيم»..

مساحة واسعة من مزارع مملوكة للقطاع العام في منطقة «الضميد» حدِّدت لتكون مخيماً لإيواء النازحين من أهالي الطلح وضحيان وآل الصيفي.. وزع الصليب الأحمر والجمعيات الخيرية مواد إغاثة وإسعافات أولية لمئات الأسر الفارين من بيوت ومزارع يقطنونها منذ عشرات السنين.. الصورة مأساوية من حولي.. هؤلاء الأبرياء مشردون.. شيء لا يصدق الحال الذي باتوا فيه.. الصورة أكثر مأساوية في مناطق التوتر كما فهمت من نبرة صوت موظف يمني يعمل مع الصليب الأحمر «هناك قضايا إنسانية مؤلمة.. نحاول القيام بواجب إنساني.. لكننا لا نستطيع التحرك إلا في حدود ما يسمحون به...»!

** للمرة الثامنة نتوقف أمام البرميل للتفتيش.. على امتداد طريق «صعدة - ضحيان» هناك نقطة عسكرية في كل خمسة كيلو مترات.. يتفحص الجندي المناوب وجوه المارة ويوميء لهم بمواصلة السير بعد ما يكون قد تأكد من عدم حملهم لأي سلاح غير مرخص.. صاحبي كان قد استجاب لطلبي وترك سلاحه في منزله لكي لا نلفت الأنتباه أو نتعرض لعراقيل.. عند كل نقطة تواجد عسكري مكثف.. مدرعات وأطقم ودبابات تحتمي بسواتر ترابية.. نخضع لتفتيش دقيق.. هذه الإجراءات الأمنية ينزعج منها المترددون على الطريق يومياً من سكان تلك القرى.. ليس هناك خيار آخر.. الطرق الفرعية مغلقة كاحترازات حربية تهدف إلى الحد من عملية التنقل وضبط حركة المرور لمنع أي عمليات تسلل ينفذها الحوثيون.. هناك طريق واحد إلى كل قرية، لا بد أن يكون تحت مراقبة الجيش!!

** نقطة المقاش هي الأخيرة التي توقفنا عندها في طريق عودتنا من ضحيان والطلح وبنى معاذ.. مسافة قصيرة تفصل بيننا. ووسط مدينة صعدة.. ننعطف جهة الشمال لنسلك طريق يربط عاصمة المحافظة عبر منفذ البقع الحدودي.. تتداخل على امتداد الطريق مناطق وعزل تتبع إدارياً مديريات عدة.. الحمزات والطويلة لمديرية سحار.. نشور والرزامات وآل شافعة لمديرية الصفراء.. العشاش وآل بوجبارة لمديرية كتاف.. آل سالم لمديرية الحشوة.. ومرجعها قبلياً يعود إلى همدان وائلة.

معسكرات وبشمركة

** المعسكرات الضخمة ملامحها بارزة للمارة.. على اليسار معسكر اللواء 15 حالياً وخلفه مدينة سكانية حديثة تسمى «قحزة» ترابط تحت أسوار سجن الإصلاحية الشهير.. بجوار السجن معسكر آخر حديث ما زال محتفظاً بتسميته القديمة المستمدة من نشاطات المعسكرات الصيفية.. وهنا أيضاً محطة توليد الكهرباء ومنشأة لتعبئة الغاز تابعة لشركة النفط.. ويمتد مطار صعدة ليتوسط المقاش وقحزة وولد مسعود.. المنطقة تبدو استراتيجية لذلك فالاحتياطات الأمنية مشددة.. نحو كيلو متر واحد يفصل معسكر العروبة والمجد سابقاً «الـ15» حالياً.. عن معسكر قيادة المحور.. أمامه من جهة الشرق مباني كلية التربية ومعهد المعلمين.. ملاصقين لدار رعاية الأيتام الذي اتخذت منه قيادة حرس الحدود والاستخبارات العسكرية مقراً منذ سنوات.. يجاوره بأمتار قليلة مكتب الشباب والاستاد الرياضي والصالة المغلقة.. في ذات المربع.. هناك بيت الشباب بأدواره الثلاثة المؤثثة، يستخدم أحياناً لأعراض عسكرية ومبنى مكتب التربية والتعليم.. وبعد كيلو مترات قليلة ستجد معسكر كهلان الخاص بقوات المدفعية يتموضع بأحضان سلسلة جبلية متقاربة.. قبل أن تصل إلى هناك ستكون قد توقفت في مفرق الحمزات امتثالاً لإجراءات النقطة العسكرية المرابطة عند نقطة الطريق الفرعي المؤدي إلى قرى الحمزات والقهر.

** هذه المناطق كانت ساحة ملتهبة في الحرب الثانية المعروفة بحرب نشور والرزامات التي تبعد عن مواقع المعسكرات نحو 15 كيلو تقريباً.. الحواجز الخرسانية ما تزال منذ الحرب الأولى تمنع الدخول إلى الجهة المقابلة لقيادة المحور باتجاه الكلية.. ومئات الأكياس الرملية عادت إلى أماكنها السابقة على أسوار قيادة المحور وفوق أسطح مبانيه.. استطاع الحوثيون الوصول إلى هذه النقطة في الحرب الأولى والثانية.. قاموا بهجمات انتحارية استهدفت قيادة المحاور وسقط في المواجهات ضحايا من الجانبين بينهم «يحيى» نجل «عبدالله الرازمي» خليفة «حسين بدر الدين الحوثي».. وحتى هذه الحرب يشن المكبرون هجمات مباغته على معسكر كهلان ومواقع عسكرية محاذية له تسفر عن مواجهات شرسة تدوم لأيام وساعات.. يتناوب الجانبان في عمليات الكر والفر وتبادل السيطرة على مواقع ذات تحصينات جبلية تتمركز على مساحات جغرافية هامة وحيوية.

** من على جانب الطريق تشاهد منزل «الرزامي» مهدماً وآثار الحرب الثانية ما تزال موضحة على بعض المباني.. الأوضاع هادئة نسبياً في هذه المناطق.. وسوى مناوشات متفرقة وغارات متبادلة يمكن التخلي عن بعض القلق.. الأحداث أضفت على هذه الأمكنة هيبة وحضوراً ذهنياً مهماً.. ليست مختلفة عن تضاريس الجغرافية الطبيعية.. تجمعات سكنية تشكل قرى متناثرة حول أودية زراعية تحيط بها جبال ليست شاهقة كجبال مديريات صعدة الغربية «ساقين - حيدان - رازح - منبه».. وصلنا إلى المكان الذي بدأت منه شرارة الحرب الثانية.. هنا قتل ضابط كبير واستولى أتباع الحوثي على طقمه المسلح.. وقعت الحادثة عندما حاول الضابط اختراق الحظر المفروض على الطريق المؤدية إلى كتاف أثناء سيطرة الحوثيين على حركة السير عبر الخط.. على صخور الجبال تظهر آثار القصف المدفعي وبصمات القذائف المصوبة إلى متاريس المقاتلين على امتداد سلسلة جبال العصائد وما حولها.. أعلام مرفوعة في تكنات العساكر ومواطنون من مختلف الأعمار تصادفهم على الطريق.. يتمنطقون بالجيتري والكلانشكوف والجرامل وعلى صدورهم. تتعلق «جعب» ممتلئة بخزانات الرصاص والذخيرة.. المعارك التي دارت في نشور والرزامات كبدت «المكبرين» خسائر فادحة.. ألحق بهم الجيش ضربات موجعة أقساها كان في الحرب الثالثة.. الطالب الجامعي"نائف" سقط في تلك المعارك ليلحق بوالده واثنين من إخوانه.. ما حصل لـ«نائف» يعد مقياساً على نتائج المواجهات.. حين أخبرني أحدهم أن تحت الكوم الترابي القريب من رقعة الإسفلت عشرات الجثث المدفونة على عجل.. تذكرت "منصور" موظف البلدية الذي كلفته قيادة المحافظة بتجميع الجثث والأشلاء والتعامل معها كما يفترض.. كان قد شرح لي في لقاء سابق كيف تمكن من تنفيذ المهمة مستعيناً بعمال النظافة.. كان وصفه لمناظر الجثث مقززاً بعد بقائها في العراء لأيام عديدة.. معظم الجثث يصعب التعرف على أصحابها.. والكثير منها دفن في سراديب تشبه المقابر الجماعية!!

** عبدالله الرازمي.. هو القائد الفعلي لجماعة الشعار.. وإن بدا عبدالملك بدر الدين كقائد ميداني في وسائل الإعلام.. يؤكد «محمد ضيف» تلك الحقيقة.. عدة لقاءات جمعت «محمد وعبدالملك» لتبادل وجهات النظر بحثا عن مخارج ممكنة لإنهاء القضية.. في كل لقاء يؤكد عبدالملك أن «أبو يحيى» صاحب الرأي الأول.. لا يمكن لأحد تجاوز الرازمي في اتخاذ أي قرار.. و«أبو يحيى» ليس هاشمياً.. هو محب لآل البيت وشيعي مخلص للزيدية ورفيق وفي لحسين بدر الدين.. عندما شد الرحال إلى «النقعة» أحاط نفسه بغموض شديد.. قطع قنوات التواصل مع الجميع.. المصادر تؤكد استئناس «بدر الدين» الأب بهذا الرجل.. وعندما عاد الاثنان من صنعاء إلى نشور عقب الحرب الأولى.. ظلت الحكايات تتناسل بغزارة.. الرزامي والحوثي لم يتمكنا من الالتقاء برئيس الجمهورية كما كان متفقاً عليه لإغلاق ملف الحرب.. قضوا عشرة أسابيع داخل العاصمة ثم عاودوها فجأة ليتفاجأ اليمنيون بعد فترة باندلاع الحرب في صعدة مجدداً!

** هناك «سر» إلهي.. يحتدم النقاش لدى أبناء صعدة بسخونة وجدية حول ما يعايشونه من حرب.. لا أحد حتى اللحظة تمكن من كشف الحلقة المفقودة في حرب صعدة.. تتعدد التفسيرات عن عدم الحسم وغياب النهاية لمشكلة تزداد تعقيداً وتطوراً.. هناك شيء ما غير مفهوم.. حرب صعدة تحولت إلى لغز عصي على تفكيك متاهات شفراته المتشعبة.. اليأس من حلول جذرية لهذه الورطة أوصل الناس في صعدة إلى حالة نفسية متأزمة.. لقد طفح بهم الصبر.. ها هو «أحمد علي» يتحدث بلسان أبناء صعدة.. يقول رداً على استفساراتي «العلم عند الله».. أسأله كيف فيجب «الله أعلم».. طيب ما الحل: «على الله».. عندما تكون في صعدة تتحدث مع الناس حول الوضع المؤلم. قد تقتنع بالفعل أن البشرية عاجزة عن احتواء الصراع الدامي.. لم تفلح الوسائل المستخدمة.. فكرياً.. عسكرياً.. سياسياً.. التوصل إلى النهاية.. غير رب العرش العظيم.. لا يمكن لأحد حسم الموقف.. المطلوب استيعاب مدلولات هذه الخلاصة!!

** وهؤلاء من هم؟!.. إنهم «البشمركة»!

أعداد كبيرة من البشر يرتدون ملابس عسكرية جديدة وبنادق هي الأخرى مصروفة للتو.. لكن الهندام الخارجي يدل على قصور في تعامل هؤلاء مع «الميري».. طريقة اللبس وأشياء أخرى تدفعك للبحث عمن يكون أولئك المنتشرون بكثافة داخل شوارع مدينة صعدة.. صاحبي يقول لكم إنهم المتطوعون للقتال إلى جانب جنود الجيش.. شباب وصغار وكبار قدموا إلى صعدة من عديد قبائل مجاورة.. أغلبهم من حاشد.. يأتي كل شيخ بمن لبى نداءه من رجال قبيلته.. يُشحنون بالمعنويات القتالية ودون تدريبات يتم إرسالهم إلى خطوط المواجهة.. القبيلي يجيد الرماية وكيفية استخدام البندقية.. بسبب أخطاء تكتيكية.. يسقط عشرات المتطوعين فرائس سهلة لقناصة الحوثي.. سأل «حسين» أحد العائدين من صعدة عن خسمة من زملائه.. مع كل اسم كان المجيب يرد بكلمة واحدة: قتل..!!

** لا أدري كيف أنقل للقارئ صوت الطائرات الحربية التي أسمع صوتها المخيف فوق رأسي الآن.. لكن لا أحد يعرف كيف يستطيع الحوثيون إسقاط مروحيات مقاتلة.. مصادر موثوقة تؤكد عدم وجود أسلحة مضادة للطيران في أيديهم.. إذا كانت بوازيك الـ«آر بي جي» تساعدهم على تدمير المجنزرات.. ربما لو ساعدهم خبير عسكري في شرح الطريقة المثلى لإصابة أهداف في الجو بسلاح تقليدي.. خصوصاً وما يتناقل من روايات متضاربة عن تحطم طائرتي «ميج 29» في مطار صعدة الشهر الماضي.. ما زال محط جدل واسع وحادثة يضيفها البعض إلى رصيد الحوثيين.

الهبوط الاضطراري إلى الأرض.. نقتحم ثكنات المتطوعين.. لقد أصيبوا بالصدمة.. لم يتوقعوا أن صعدة صعبة جداً.. بعضهم كانوا يعتبرونها رحلة تنزه للصيد في البراري.. سمعت متطوعاً يشجع صاحبه على الرجوع إلى بلادهم.. كان يقول له: صعدة جحيم وموت أحمر!!

سنتوقف قليلاً لشرب فنجان قهوة مع مجموعة مزارعين ترهق ملامح وجوههم مرارة الحرب.. الإرهاق البدني واضح.. أكثر منه.. تعب نفسي اكتشفناه من الحديث معهم.. الأرض الخصبة في صعدة تحتفي بفصل الصيف غير أن أهازيج ومواويل الانتشاء غائبة هذا الموسم.. دوي الانفجارات ولعلعة الرصاص أكمل المعالجات التصويرية لأجواء الموت ومواكب الجنائز والنواح والأنين هي أصوات الفاجعة.. تتشح القيعان المنبسطة بالسواد.. إنها هي التي كانت في عيون من يعرض صعدة تختال كعروس بكساء سندسي أخضر.. قل حماس الفلاحين لممارسة الحب العذري مع الحقول.. أصاب الانهيار معنويات التنافس الزراعي.. بساتين الرمان لم تحظى هذه المرة بالاهتمام المعهود.. الحرب هي السبب في كل شيء.. لقد بلغ الضيق أوج المصيبة.. بعد أسابيع سيتدق فراشات الخريف أبواب.. لن يتمكن أهالي صعدة من تسويق منتجات الفاكهة.. هدايا الرمان الصعدي سيفتقدها الوطن هذا العام.

** ممارسات بعض المتطوعين الخارجة عن النص.. رسخت انطباعاً ساد لدى أهالي المحافظة.. تسمية «البشمركة» ولدت تلقائياً منذ حرب مران في استعارة لفظية بشمركة العراق الذين برز حضورهم خلال حرب احتلال بلاد الرافدين.. أطلقت على المتطوعين في صعدة تعبيراً عن حالة انزعاج وتأفف شعبي من استعانة الجيش برجال القبائل.. شاع وسط الناس اعتقاد بنوايا «البشمركة» لنهب ممتلكات المواطنين.. مثل ذلك حدث في الحروب السالفة.. لذا، خاف سكان القرى الملتهبة مغادرة بيوتهم والتخلي عن أملاكهم الزراعية خشية تعرضها للنهب والفيد.. هناك من استجاب لأوامر القيادة العسكرية ونزح من داره مكرهاً على قلق.. آخرون أخرجوا النساء والأطفال وظل الرجال يحرسون المنازل والأملاك.. ليسوا جميعاً حوثيين لكن رفض مغادرة المساكن ألصق بهم تهم الجيش.. وحين طال القصف المدفعي القرى المستهدفة بالاجتياح وتعقب مقاتلي الحركة.. سقط كثير من حراس الأعراض ضحايا الدفاع عن كرامة مهددة بالاستباحة.. لولا الظروف الاقتصادية المدقعة لما جاء المتطوعون إلى ساحة الحرب طمعاً في رقم عسكري يهب راتباً شهرياً يعين على الحياة.. لا أحد يريد أن يموت ببساطة والدافع ليس عشقاً للدماء أو ممارسة هواية الجاهلية.. تفهمت وضع هؤلاء و«الشيخ صالح» يحدثني بمرارة عن أصحابه.. ومنه عرفت أن المتطوعين يتذمرون من مناداتهم بـ"البشمركة" والتعامل معهم كغزاة جاءوا لاحتلال صعدة.. أبناء صعدة -أيضاً- يؤلمهم استفزاز المتطوعين لمشاعرهم عندما يقال باستعلاء «جئنا لتحريركم يا أهل صعدة من السادة».. أبناء صعدة أحرار وأسياد للحرية والتاريخ يشهد.. رد قوي عبر عن جمرة غضب خامد في نفوس الصعديين.. زفرة حارة ألقاها في وجهي شيخ شاب من صعدة يدعونه أبو عبدالرحمن!!

جنود يفرون ومدنيون ينزحون

الرحيل من صعدة متواصل على مدار الخوف والحياة تلفظ أنفاسها الأخيرة.. إلى جانبي في «بيجوت» العودة إلى صنعاء.. موظف من تعز وزوجته وطفلهما الصغير.. يقسم أنه لن يعود إلى صعدة بعد الآن ولو كلفه العناد خسارة درجته الوظيفية.. كما يحاول بقية الركاب إخفاء الانتماء للقطاع العسكري.. لهجتهم تدل على انتمائهم للمحافظات الجنوبية.. يتبادلون الحديث بحذر يغلب عليه التمتمة الخافتة.. السائق يشي إلى أن عشرات الجنود يلوذون بالفرار يومياً.. جندي شجاع كان قد أفصح لي بأن الوضع لا يطاق.. أبدى احتجاجاً صارخاً على تقديم المساكين للمحرقة - قاصداً الجنود -.. ساخطاً على القيادات العسكرية التي تضحي بالأفراد لكي تسلم وتستفيد.. لسنا جبناء لكننا نرفض أن نكون كباش فداء.. ومضى يقص عليَّ حكايات يشيب لها الرأس.. الجندي الشجاع سيغضب حين يقرأ هذا دون الإشارة إلى اسمه رغم إلحاحه على نشر الاسم الرباعي مع الصورة.. اعتذر له عن تراجعي لأسباب سيتفهمها لاحقاً.. كما سيتفهم القراء الظروف التي تجعلني أتعامل مع الأسماء بحذر يجنب الشخوص أي عقاب او مضايقة.

** فاصل قصير.. نتابع فيه هذه القصة المحزنة ثم نواصل.. بعد ثلاثة أيام من رحلة شاقة.. وصلت امرأة من ضحيان إلى مدينة صعدة مشياً على قدميها وهي حامل في الشهر السابع.. اخترقت حصار القوات المفروض على ضحيان.. بأعجوبة نجت من الموت إثر قذائف انفجرت في منزلها مخلفة نصف الأسرة بين قتيل وجريح.. لم تكن تبكي أو تنوح.. كانت تستنجد.. تصرخ بصوت.. شاحب.. مذبوح.. نبرة الكارثة ترعد في آذان المتلقي.. تحاملت على الآلام تستنهض نخوة الرجال مثل تلك التي نادت واااا معتصماه منذ زمن بعيد.. أخذت تتصل.. تنادي.. تستغيث.. تبحث عن أهل العقل وأصحاب الضمائر.. حشرجات صوتها توقفت عند: يا خلق الله.. الجثث مليان الشوارع.. ويتوقف قلمي ليضع علامة تعجب بين قوسين «!!».

من معسكر كهلان الذي كنا بجواره تقصف المدافع والكاتيوشا تلك المناطق التي زرناها.. الطلح.. ضحيان.. آل الصيفي.. بني معاذ.. التصويب يخطئ الهدف باستمرار.. الدقة ليست بالقدر الذي يحافظ على دماء الأبرياء.. تتساقط القذائف بغتة على السكان الآمنين.. تنفجر بغباء داخل الجدران.. عشرات الضحايا قضوا نحبهم بنيران صديقة ظلت الطريق إلى متاريس الحوثيين.

** بالخطأ كذلك مات عشرات آخرون.. لكن بطريقة مختلفة.. هذه المرة بالرصاص وليس بالقذائف.. مازالت دماء تلك الشابة تغلي في بنى معاذ.. هي وزوجها كانا يشحنان أثاث المنزل على ظهر السيارة استعداداً للرحيل من البيت والنزوح إلى مكان بعيد عن التوتر.. كانا على وشك الانتهاء من رصف الحمولة.. غير أن زخات الرصاص المنبعثة بغزارة من موقع عسكري أعلى جبل مطل على القرية الوديعة.. أنهت حياة المرأة تلك أمام أعين زوج مفجوع بشريكة حياته.. الرصاص ينهال دون توقف.. الزوجة تنزف والزوج مصدوم بما لم يكن يتوقعه.. لفظت المسكينة أنفاسها.. تماسك الرجل قليلاً حتى تمكن من نقل جثة عروسه إلى خلف جدار.. ضرب النيران يتواصل.. يودع المواطن زوجته بنظرات دامعة.. بالكاد استطاع تغطيتها ببطانية على عجل.. ليهرب وهو يبكي بحرقة وينجو من موت محقق!

** الكثير من الحكايات عالقة في الذهن عمن يسمون «بشمركة».. بقايا حطام السيارة التي شاهدتها عند زيارتي إلى منطقة «الجروف» في جبال «مران» لها تفاصيل مثيرة.. التويوتا «الشاص» وقعت في أيدي مجموعة من المتطوعين ضمن غنائم الحرب.. طرأ خلاف جاد بين المجموعة على السيارة.. كانوا على شفا اقتتال فيما بينهم.. يتدخل قائد عسكري لفظ النزاع.. تأزمت المشكلة وانعدم الاتفاق على حل.. كانوا على شرفة حيد في قمة جبل.. أمر القائد العسكري جنوده بإلقاء السيارة من تلك الهوة السحيقة إلى الأسفل.. أمام ذهول المتطوعين نفذ الجنود الأمر.. تدحرجت الشاص لتهوي من مرتفع شاهق إلى حيث استقرت قطع حديدية متناثرة فوق الجرف الذي احتمي فيه «حسين بدر الدين» وعائلته في آخر أيام حرب مران.. هذه قصة تقود إلى قصص بلا نهاية.. تتناقل الحكايات ألسنة العامة كما تتدرج الأصابع على خرزات المسبحة في دوران متواصل!!

قذائف فضولية

في حرب الرزامات.. كنت أرى من على سطح منزلنا -في ضواحي المدينة- لمع إطلاق القذائف مصحوباً بدوي هائل لحظة الانفجار.. كما كنت أشاهد كبقية الناس عاصفة الغبار تتوارى في السماء من على ظهر جبال الشبكة وهي تقصف بالسلاح الثقيل ليلاً ونهاراً.. في هذه الحرب يتردد الناس عن الصعود إلى سطوح البيوت لإشباع فضول الإطلاع والمعاينة.. الرصاص ليس لها عيون.. القذائف تتطفل على القرى وتزور المنازل بلا دعوة عشاء أو وليمة عرس.. السكان يتعمدون النوم في الأدوار السفلية ولا مانع من البقاء في البدروم الأرضي إذا وجد.. صار الأهالي بحاجة إلى ملاجئ تحميهم وصفارات إنذار تُعلم بالاستعداد للمصير المجهول..

** أما تلك الطبيبة الروسية فموضوعها مختلف تماماً عن المألوف. فرضت حضوراً طاغياً في صميم أخلاقيات الإنسانية.. بموقفها ذاك أحدثت هزة عنيفة في المشاعر الإسمنتية وأحاسيس الوقت الراهن المتصلبة.. بالتأكيد ستصيبكم قشعريرة صحوة الضمير حين تعرفون أن الأجنبية إياها رفضت مواصلة العمل مع زوجها في أحد مستشفيات صعدة مستعجلة طلب الطلاق والانفصال بإصرار عجيب.. كادت تجن وهي تستيقظ كل صباح على عشرات الضحايا الجدد.. أمام الكم الهائل من القتلى والمصابين حكمت علينا كيمنيين بالإجرام.. عرفت من خلال عملها أن هذه الحرب عبثية بلا هدف واضح ولا مبرر منطقي.. رفضت البقاء حبيسة تأنيب الذات.. عندما كانت تمارس عملها كطبيبة ظلت تتعامل مع حالات المرضى بقدر متساو من الاهتمام والرعاية.. مع الحرب يأتي الإسعاف بأعداد إضافية من الضحايا إلى عيادة الطوارئ المزدحمة بالجروح النازفة.. كان يفُرض عليها معالجة الجنود أولاً ثم المواطنين العاديين بعيداً عن مقاييس الخطورة والحاجة لأولوية التطبيب.. أحست بالإهانة وفيض الإنسانية داخلها لا يقبل الرضوخ لما يتعارض مع شرف المهنة ومبادئ ملائكة الرحمة أمام شياطين العذاب.. استشاطت سخطاً في وجه بعلها اليمني وهي تفرغ عليه حمم أوجاع قلبها المفعم بروح السلام والتسامح.. علمت بحكاية الطبيبة الروسية ومضيت أبحث عنها كي أنحني إجلالاً وعرفاناً أمام موقفها النبيل.. مازلت أواصل بحثي ومساعي الصلح لاحتواء الموقف بينها وزوجها ما تزال كذلك تتواصل.. كما هي الحرب -أيضاً- تواصل نيرانها التهام بقايا الحياة في صعدة.

***

عن الإشتراكي نت 


في الأحد 22 إبريل-نيسان 2007 09:16:14 م

تجد هذا المقال في مأرب برس | موقع الأخبار الأول
https://mirror1.marebpress.net
عنوان الرابط لهذا المقال هو:
https://mirror1.marebpress.net/articles.php?id=1607