الرئيس الحمدي لم يكن ناصري الانتماء والولاء كما تدعون !!
د.طارق عبدالله الحروي
د.طارق عبدالله الحروي

في الذكرى الـ39 من قبوله بتولي مقاليد السلطة في اليمن (13/6/1974م)

- من نافلة القول إن الدافع الرئيسي الذي يقف وراء اختياري الكتابة تحت هذا العنوان بالتحديد الذي تعمدته شكلا ومضمونا؛ هو طبيعة ومستوى ومن ثم حجم التأويلات والأمنيات والأحاديث التي ما انزل الله بها من سلطان التي أصبحت مجتمعاتنا المحلية واقعة تحت وطأتها إلى حد النخاع بدون أية رحمة تذكر، والتي جُبل على ترديدها الكثيرين من عموم الرأي العام ومثقفيه وقياداته من حين إلى أخر بوعي وبدون وعي دون أن يكون لدي الكثيرين منهم أية مصوغ أو مستند تاريخي أو منطقي يقبله العقل والمنطق أو استعداد للدخول في مواجهات حقيقية مع هذا الركام الهائل من ثقافة (سياسة) الجهل والتجهيل التي تقف ورائها القوى التقليدية وشركائها.

- من خلال القيام بحركات تصحيحية فردية وجماعية نسبية لطبيعة ومستوى ومن ثم حجم المعلومات التي يستند عليها الرأي العام في إبداء قناعاته ووجهات نظره- وفقا- للدلائل التاريخية القائمة على البحث الموضوعي الجاد، سيما في حال تعلق الأمر برمته بواحدة من أهم المحطات الرئيسة في تاريخ اليمن المعاصر التي من خلالها التيار التحديثي التحرري أن يؤسس لأهم المعالم الرئيسة الحاكمة لحركة التغيير الوطني في البلاد فكرا ومشروعا وأفرادا، لدرجة أصبح معها الكثيرين ومنهم المثقفين والمتعلمين- بوجه خاص- يرددون ما يسمعوه بدون أية استعداد منهم لإعمال ملاكات العقل والذهن فيما يدور حولهم بحثا عن المعلومة الصحيحة التي يستسغها العقل ويقبل بها المنطق، كي تبني قناعاتهم (مع/ضد) على معلومات لها أساس من الصحة أو معقولة.

- فهكذا تبنى الدول وتحرز أشواطا في التقدم والتطور والإنماء المنشود، مكتفين في ذلك بما يصل إليهم من فتات الفتات حولها ومن مصادر مشبوهة لحد النخاع، في ضوء ما يتطلبه هذا الأمر من جهود مضنية لا يقوى عليها الكثير منهم، جراء ندرة توفر المعلومات وصولا إلى محاولة البعض احتكار جزء منها لنفسه كإرث شخصي وليس ملك لأمة بأكملها كالحالة التي نحن بصدد تناولها في مقالنا هذا، وإذا جاز لي أن أتعمق أكثر في هذا الأمر ومحاولة اختصاره فيمكن القول أنه نوع خطير من أنواع اللا مبالاة الذهنية والاستسلام والإذعان شبه الكامل لكل ما يدور حولنا التي أصبحت عليه أذهاننا وعقولنا، جراء طبيعة ومستوى ومن ثم حجم الضغوط الهائلة التي وقعت فيها على مدار العقود الماضية وانعدام أو هشاشة ذلك النوع من الحصانة الفكرية والعقائدية القادرة على مد يد العون لصاحبها في الوقت المناسب.

- وضمن هذا السياق بالتحديد يسعنا الدخول مباشرة في صلب موضوع مقالنا بالإشارة إلى إن القول جزافا بدون أدلة تاريخية أو مصوغات يستسيغها الذهن والعقل ومن ثم المنطق أن الرئيس الشهيد إبراهيم ألحمدي رحمة الله عليه كان بالفعل ينتمي إلى الحركة الناصرية فكرا ومشروعا وأفرادا أو لها عليه ذلك النوع من الولاء الذي تفرضه شروط الانتساب إلى صفوفها، أمرا شبه خالي من الصحة لا بل ومستبعد جدا إلى حد كبير- هذا إن لم نقل بل هو المستحيل بعينه - أما لماذا ؟ نرد بالقول على ذلك لان هذا الأمر من حيث المنطق والدلائل التاريخية سوف يصطدم شكلا ومضمونا مع إرهاصات ووتائر إيقاعات الواقع الذي كانت تعيشه اليمن دولة وشعبا.

- فالرئيس وفريق إدارته جاءوا واستمروا يعملون في ظروف استثنائية جدا فرضتها المعطيات الظرفية للبيئة الخارجية أكثر منها الداخلية، وهذا ما جعل معظم أفعالهم وأعمالهم التي قُدر لهم القيام بها ومن ثم رؤاهم وطموحاتهم استثنائية بكل ما تحمله هذه العبارة من دلالات ومعاني لها شأنها، فالغلبة كانت لمن استطاع وكان له السبق في فرض إرادته على الطرف الأخر بمراعاة عامل الوقت والسرعة والكلفة، لذلك فقد أعطى الرئيس ألحمدي كل اهتمامه لولوج أهم مرحلة من مراحل العمل الوطني قاطبة التي تمثلها (مرحلة النظام والقانون والتنمية المنشودة) وهي التي نستطيع أن نطلق عليها كما أعتدت في كتاباتي بالمرحلة الثانية من العمل السياسي؛ التي تقوم على محاولة لم شمل أبناء البلاد بدون استثناء يذكر معه وإلى جانبه في تراجيديا وطنية قل نظيرها.

- على خلفية أن الإطار الفلسفي الحاكم للنهج ألتعددي بشقه السياسي الحزبي؛ يتمحور- في نهاية المطاف- حول مرحلتين أساسيتين الأولى لها علاقة بتفكك الجبهة الداخلية في شقها السياسي والمجتمعي إلى قوى وتيارات وحركات سياسية متنافرة ومتصارعة ليس لها هم يذكر سوى كيفية الوصول إلى كرسي السلطة أو أخذ حصتها من مصادر القوة والثروة، موظفة في ذلك كل الوسائل والأساليب المشروعة وغير المشروعة، لذلك فهي مرحلة يسودها سمة الخلاف أكثر منه الاختلاف.

- أما المرحلة الثانية فهي عكس الأولى تماما حيث يجب أن تسودها سمة الاختلاف في الوسائل والآليات والطرق الذي يخلق ذلك النوع من التنوع الايجابي المرغوب والقادرة على تمكينها في الوصول إلى غايتها المنشودة بمراعاة عامل الوقت والسرعة والكلفة فقط لا غير، لأنها قد أصبحت فيها متفقة إلى حد كبير على الثوابت المجسدة لأولويات المصلحة الوطنية العليا، وهو الأمر الذي ينعكس بدوره مباشرة على إعادة دمج وتوحيد للجبهة الداخلية، بما يخلق مقومات البيئة الأكثر أهمية وإلحاحا لولوج مرحلة إرساء مداميك الدولة المدنية الحديثة المنشودة (الأمن، الاستقرار)، فهذه المرحلة بحاجة إلى عقول وقلوب ومن سواعد كل أبناء الأمة.

- وهنا يكمن بيت القصيد بالتحديد في حقيقة رؤية وتوجهات إدارة الرئيس ألحمدي أو الرئيس نفسه في موضوع الانتساب إلى الحركة الناصرية، فذلك يعني رجوعه خطوات واسعة الى الخلف بدل من القفز خطوات الى الأمام، انسياقا مع مسار حركة الأحداث الرئيسة، فالانتساب إلى صفوفها أمر مستبعدا جدا بالنسبة للرئيس في الظروف العادية فكيف ذلك في الظروف الاستثنائية جدا التي كان يعمل فيها، فقد كان في سباق مرير جدا مع الزمن، فخوض مضمار الحياة الحزبية في تلك الأوضاع التي أحاطت به كان يقف بالضد قلبا وقالبا من مشروعه الوطني وطموحاته- هذا من جهة.

- بالإضافة إلى أنه كان يعتبر أن هذا المضمار بحد ذاته ما هو إلا نوع من أنواع الترف السياسي الاجتماعي الذي تلجي إليه المجتمعات في مرحلة متقدمة من حياتها وهذا ما لا ينطبق على اليمن، ولا على الرئيس نفسه الذي كان بعيدا عنه إلى حد كبير، وفي نفس الوقت تجدر الإشارة بهذا الشأن إلى أن الرئيس ألحمدي لم يكن يقف بالضد أو له أفكار ورؤى مناهضة للعمل السياسي أو للنهج ألتعددي بل أن أكثر ما كان يهمه بهذا الشأن هو طبيعة حقيقة قدرته على تجسيد جوهر هذا الأمر برمته في أرائه وتوجهاته ومن ثم أفعاله وطموحاته على أرض الواقع بكل ما تحمله هذه العبارة من معاني ودلالات.

- سيما في ضوء إدراكه التام أن صيغ العمل السياسي- الحزبي التي أفرزتها الحياة السياسية في المنطقة العربية والمسموح بها، ما هي سوى وسيلة من وسائل القوى الدولية والإقليمية المعنية لإرجاع البلاد خطوات الى الخلف من خلال تفتيت وتجزيئه وحدته الداخلية ومواقفه السياسية في اتجاه إشغاله بأمور ثانوية وهامشية بعيدة جدا عن قضاياه الرئيسة، إلى جانب إنه كان يدرك تمام الإدراك كرجل يحمل بين جانبيه مشروع وطني لبناء دولة عصرية أهمية لا بل وضرورة وجود قوة سياسية جديدة تكون الوعاء الحاضن له، وتتولي مهام قيادة مشروع التغيير الوطني وتضمن إمكانية قيامه من الأساس ليس هذا فحسب، لا بل وبقائه واستمراره بين الأجيال المتعاقبة.

- والدليل على ذلك أنه عندما ارتضى ولوج مثل هذا المضمار فقد قرر ولوجه من أوسع أبوابه هي (بوابة الوطن) من خلال السعي الحثيث وراء تأسيس كيان سياسي- حزبي جديد يجسد أولويات المصلحة الوطنية العليا وينقل العمل السياسي- الحزبي برمته نقلة نوعية إلى الأمام، كي يواكب متطلبات المرحلة المنشودة، أخذ مسمى (المؤتمر الشعبي العام)، الذي يضم بين صفوفه وجنابته كافة العناصر والقوى والتيارات والحركات والفعاليات السياسية والمجتمعية..الخ، وتؤكل له مهام مصيرية عديدة منها على المدى القريب تتعلق بمهام الإعداد لخوض المواجهة المتوقعة التي فرضت على البلاد دخولها مع ألد أعدائها الداخليين والخارجين كما أشرنا إليها سابقا في مقالنا المنشور بعنوان(الرئيس الشهيد إبراهيم ألحمدي: مؤسسا لمشروع المؤتمر الشعبي العام)، ومنها على المدى المتوسط والبعيد تتعلق بمهام قيادة عملية الانتقال باليمن دولة وشعبا إلى عتبة دولة النظام والقانون، والتمهيد من خلالها لولوج أهم مرحلة من مراحل العمل الوطني قاطبة التي تمثلها مرحلة التنمية المنشودة.

- إذا فهو إن كان لا يعطي اهتماما كبيرا للحياة السياسية بشقها الحزبي في المرحلة الأولى من مراحل العمل السياسي والتي كانت سائدة بكل معالمها الرئيسة كتحصيل حاصل، إلا انه كان حريصا كل الحرص على أهمية لا بل وضرورة إشراك كافة فعاليات العمل السياسي والمجتمعي في إدارة شئون المجتمع والدولة من خلال صيغة جديدة تأخذ على عاتقها إعادة صياغة وبلورة قواعد اللعبة السياسية وفقا- للثوابت الوطنية، بما يلبي متطلبات المرحلة برمتها ويتجاوز معظم سلبيات العمل السياسي- الحزبي القائمة.

- أما القول بأنه كان ينتمي بشكل أو آخر إلى الحركة الناصرية فكرا ومشروعا وأفرادا دون الانتساب إلى صفوفها بشكل رسمي، فهذا أمر يمكن إعادة قراءاته في أكثر من اتجاه أساسي، ولكن تجدر الإشارة هنا إلى أن منبع هذا الأمر برمته في توجهات الرئيس ألحمدي ليس الانخراط في إرهاصات الحياة الحزبية وإنما يرتكز بالدرجة الأساس على النظرية القومية نفسها كمنهاج عملي يمكن الاعتماد عليه لخوض غمار بناء الدولة المدنية الحديثة في المراحل الأولى، بالاستناد على التجارب التي تخوضها دول فتية بعينها والعراق على وجه التحديد الذي كان يحرز تقدما سريعا (كمي/نوعي) منقطع النظير، تجعل منه أنموذجا حي يحتذي به بكل ما تحمله هذه العبارة من معاني ودلالات لها شأنها.

- أكثر منه مصر التي بالرغم مما حققته من انجازات نسبية لا بأس بها بهذا الشأن، إلا أنها عانت إلى حد كبير من قصور حاد في استكمال منظومتها النظرية والعملية، كي تصبح تجربة بناء الدولة المدنية فيها مثالا يحتذي به لاعتبارات عديدة لها علاقة بالمعطيات الظرفية في البيئتين الداخلية والخارجية السائدة آنذاك، سيما في ضوء حالات النكوص الحادة التي ظهرت عليها مصر بعد موت الزعيم العربي جمال عبد الناصر وخفوت بريقها إلى حد كبير كدولة إقليمية قائدة للتيار التحديثي التحرري، وظهور العراق بقوة في المقابل كدولة إقليمية تحمل مشروع متكامل الأبعاد لبناء دولة مدنية حديثة ترقى إلى مستوى الدولة الإقليمية النموذج الحي التي يحتذي بها، إلى جانب ما أبدته من استعداد واسع النطاق لتولي مهام قيادة التيار التحديثي التحرري بامتياز منقطع النظير، كي تصبح بموجبها الدولة رقم واحد لا بل والوحيدة في المنطقة العربية وجوارها التي تعج فيها أنظمة تقليدية رجعية من كل حدب وصوب إذا ما صح لنا القول ذلك.

- وهو الأمر الذي يؤشر لنا حقيقة طبيعة ومستوى ومن ثم حجم ما كان يدور في مدركات الرئيس وإدارته وصولا إلى أرض الواقع، فالعراق بكل إمكانياته وما أبداه من استعداد وجراءة منقطعة النظير في تولي مهامه القومية إزاء أشقائه سواء على صعيد المواجهة مع التيار التقليدي المحافظ والمتطرف المحلي والإقليمي المناهض والمناوئ شكلا ومضمونا لمشاريع حركة التغيير الوطنية في عموم المنطقة العربية برمتها، أو على صعيد بناء الدولة المدنية الحديثة وولوج مرحلة التنمية المنشودة بمراعاة عامل الوقت والسرعة والكلفة أم الاثنين معا، كان بحسب وجهة نظري يمثل الحاضر والمستقبل للنظام الوطني اليمني الذي كان يشق طريقه بصعوبة بالغة في البيئتين الداخلية والخارجية، وهذا ما تؤكده معظم الدلائل التاريخية بهذا الشأن، في ضوء استمرار تنامي واقع العلاقات اليمنية- العراقية ووصولها إلى مرحلة التحالف الاستراتيجي إذا ما صح لنا القول ذلك، وهنا تتضح أمامنا بعض أهم المعالم الرئيسة عن ماهية الجهة التي سعت وراء الترويج لمثل هكذا مقولة وطبيعة أهدافها المنشودة.

- أما فيما يتعلق بالاتجاه الأول فإنه يتمحور حول أن التسليم بنوع من أنواع المصداقية النسبية بأن الرئيس ألحمدي كان منتميا للحركة الناصرية فكرا ومشروعا إلى حد ما، إذا كان يمكن التجاوب معه قليلا بصورة أو أخرى، لكنه في نفس الوقت سوف يظل من وجهة نظري مجرد نوع من الأماني المرغوبة لدي بعض العناصر الناصرية ومن يتفق معها من عناصر التيار التقليدي أكثر منه واقعا له شأنه بمؤشراته ودلائله التاريخية.

- والتي كانت تخوض سباقا ماراثوني مع إخوانهم من عناصر التيار القومي البعثي الذي حقق اقترابا نوعيا وكبيرا جدا من دائرة الرئيس ألحمدي فكرا ومشروعا وأفرادا، فرضته المعطيات الظرفية للبيئتين الداخلية والخارجية المشار إليها آنفا، في اتجاه قطع الطريق نهائيا أمامهم وخلط الأوراق عليهم والحيلولة دون وجود أية احتمالية لإمكانية استحواذهم عليه؛ بما يفضي إلى التقليل من طبيعة ومستوى ومن ثم حجم الفرص المتاحة أمام العناصر الناصرية للحيلولة دون إزاحتها من سدة السلطة والتقليل من نفوذها وصولا إلى الهيمنة على معظم مقاليد السلطة ليس هذا فحسب، لا بل وضرورة الحيلولة دون المساس بالترتيبات المرسومة الجارية على قدم وساق مع عناصر التيار التقليدي للانقضاض على مشروع حركة التغيير الوطني قبل ولادته-كما- أشرنا إليها في مقالات سابقة.

- فالقول أن الرئيس ألحمدي كان تربطه علاقات وطيدة حميمية إلى حد كبير بالبعض من القيادات النافذة في الحركة الناصرية التي تمثلها القيادة التاريخية بجناحها المعتدل، بصورة أتاحت لها الفرصة كي تحقق اقترابا نوعيا منه، لدرجة تصور الكثير من الناس أو ُصور للكثيرين منهم أنه قد أصبح منتسبا إلى صفوفها وواحدا من قياداتها الحزبية، مما سهل على الجهة التي تبنت تسريب هذه الافتراءات والأقاويل مهمتها الأساسية!!! هو أمر آخر لكنه شبه مقبول يمكن استساغته إلى حد ما، نظرا لما سوف يشكله هذا التقارب من تأثير وتأثر متبادل فيما بينها في الأقوال والأفعال، تظهر بعض أهم معالمه الرئيسة بارزة في رؤى وتوجهات ومن ثم مواقف الرئيس ونظامه إلى حد ما.

- سيما في حال تنامي إلى مداركنا إلى حد كبير بهذا الشأن أن مشروع حركة التغيير الوطني ما هو إلا عبارة عن تلاقح من نوع خاص بين بذور مشاريع تتبناها أحزاب قومية ووطنية يقف على رأسها الناصريون والبعثيون على وجه الخصوص إلى حد كبير إذا ما صح لنا القول ذلك- مستفيدة في ذلك- مما تحقق من ترجمة لها في بلاد أخرى، وبذور روية طموحة متعمقة في أدق تفاصيل الواقع لإدارة الرئيس ألحمدي تشكلت ونمت بالاستناد على ما حققته من نجاحات غاية في الأهمية في مهمة التشخيص الموضوعي الجاد للواقع المراد علاجه وأخذت الجزء الأكبر والمهم من فترة حكم الرئيس ألحمدي.

- وضمن هذا السياق أيضا يجب أن نلفت انتباه جموع الرأي العام ومثقفيه وقياداته إلى أننا هنا لا نتكلم عن شخصية وطنية عادية، بصورة لا تؤثر أقوالها وأفعالها إلا بالشخص نفسه وأحيانا تنتقل إلى نطاق حدود محيطه الضيق جدا، بل أن الحديث برمته يدور حول شخصية وطنية فريدة من نوعها ممثلة برئيس الدولة، كانت تعد نفسها لقيادة مشروع حركة التغيير الوطني في البلاد، التي تعد الحركة الناصرية مكون واحد فيها، فالرئيس ألحمدي بشخصه وشخصيته وعقليته ومن ثم بأفعاله وممارساته وطموحاته، إن كان قد مثل مسيرة رجل بحجم مسيرة أمة أو مسيرة أمة بحجم مسيرة رجل بكل ما تعنيه هذه العبارة من دلالات ومعاني لها شأنها.

- فإنه بالمقابل يصبح من غير الممكن إلى حد كبير أن تسعه أطر تنظيمية وحزبية ضيقه جدا كالأحزاب بصيغتها القائمة على سبيل المثال لا الحصر؛ تقوم على تأطير علاقاته وتحديد طموحاته وقدراته إلى حد كبير في قوالب ضيقه جدا، حيث أنه كان يعد نفسه كي يتولى مهمة التأسيس ومن ثم القيادة لمشروع حركة التغيير الوطني، وعليه تصبح مقولة الانتساب والانتماء للحركة الناصرية هي حالة من حالات الانتقاص وعدم الموضوعية ومن ثم الإجحاف المقصود بحق الرئيس ألحمدي من قبل قطاعات الرأي العام والأجنحة المتطرفة في الحركة الناصرية منها- بوجه خاص- على أساس أن وضعه في قوالب حزبية تنتقص منه ومن دوره وحجمه الحقيقي القائم والمنشود، فانتمائه كان لليمن دولة وشعبا وتاريخا وطموحا وولائه- أيضا- كان لليمن ولمشروع حركة التغيير الوطني التي أعطاها عمره كله وروحه وعرقه ودمه.

- أما إذا افترضنا على الرغم من كل ذلك أنه انتسب لصفوف الحركة الناصرية وسلمنا سلفا بصحة تلك الرواية تثار أمامنا تساؤلات عديدة بهذا الشأن مفادها أين هو نص البيان التاريخي الرسمي الذي يؤكد حقيقة ذلك ولماذا لم ينشر في الصحيفة الرسمية لحد الآن ؟ ولماذا اكتفى الناصريون باستقطاب الرئيس فقط دون باقي عناصر إدارته وصولا إلى عناصر نظامه السياسي وما دوافعهم وأهدافهم وأسبابهم الحقيقية وراء ذلك ؟

- وهل كان موقف القيادة التاريخية للحركة الناصرية بجناحها المعتدل الذي يقف على رأسها الشهيد عيسى محمد سيف مع انتساب الرئيس لصفوفهم أم لا، أو ما الذي كان سوف يتغير في مسار علاقاتها معه بمجرد انتسابه لصفوفها بالمقارنة بحقيقة ما أصبحت عليه وهو خارج صفوفها، سيما في ضوء ما يمثله بقاء الرئيس بعيدا عنها من أهمية لا بل وضرورة في إمكانية تحقيق مشروعها المنشود بمراعاة عامل الوقت والسرعة والكلفة ؟ أو بمعنى أخر أين كان موقع باقي فريق إدارته ومن ثم نظامه من هذه الخطوة ؟ أو لماذا لم يتم الإعلان بصورة رسمية عن قيام النظام الناصري في اليمن في الأساس ؟ وما الذي منع ولوج مثل هكذا تجربة في البيئتين الداخلية والخارجية ؟ بمعنى أخر هل كانت اليمن دولة وشعبا مؤهلة لخوض تجربة بهذا الحجم بتيني المنهج الناصري أو البعثي وبالتالي بامتداد للتجربة القومية فكرا ومشروعا وأفرادا إلى قلب شبه الجزيرة العربية التي تعج بالأنظمة التقليدية الرجعية الآيلة للسقوط في أية لحظة ؟....الخ.

- وفي المقابل فإن هذه التساؤلات سوف تنقلنا بقوة إلى تساؤلات أخرى أكثر جراءة وواقعية وعمقا تنخر في حقيقة أن الحركة الناصرية في اليمن التي كانت مازالت في طور التأسيس فكرا ومشروعا وأفرادا، كانت مصدر الخطر الحقيقي للأنظمة الرجعية والتيار التقليدي الإقليمي والمحلي على حد سواء، وبالتالي محور الارتكاز الحقيقي الذي يطال المضمون (الجوهر) أكثر منه الشكل في مسار الأحداث الرئيسة في البيئتين الداخلية والخارجية القائمة آنذاك، وفي موضوع مقالنا هذا وتحت هذا العنوان بالتحديد.

- ومفادها ما الذي لفت انتباه الرئيس ألحمدي وفريق إدارته الذي كان يعيش إرهاصات مرحلة استثنائية مع أعدائه وخصومه من عناصر التيار التقليدي البقاء فيها لمن لديه القدرة على مراعاة عامل الوقت والسرعة والتكلفة وليس أقل ذلك، إلى حركة سياسية ناشئة ما زالت أمامها وقت طويل جدا لبناء منظومتها النظرية والعملية كحركة سياسية قبل أن تكون مشروع للتغيير الوطني- أولا ؟

- أو إلى مرتكزات مشروع حركة التغيير لبناء دولة مدنية حديثة تدعي أنها تمتلكه من واقع التجربة الناصرية في مصر الذي هو في الحقيقة كان قيد الدراسة الأولية والمراجعة والتدقيق بخطوطه الأولية لوجود ثغرات هائلة فيه، جراء تعثرات شابته شكلا ومضمونا فرضتها المعطيات الظرفية للبيئتين الداخلية والخارجية التي عاشتها مصر قبل وبعد نظامها القومي- ثانيا ؟ ثم ما الذي يمكن أن تقدمه مصر ما بعد عبد الناصر للنظام اليمني وقيادته الثورية في الجانبين المادي والمعنوي (السياسي، المالي،...) الذي تحيط به أنظمة وتيارات رجعية من كل حدب وصوب وهو أمس الحاجة إليها قبل وبعد كل شيء، في حال سلمنا أن انتساب ألحمدي للحركة الناصرية ما هو سوى خطوة أولية لاعتناق نظامه الأيدلوجية الناصرية ؟

- بالمقارنة بما كان عليه الأمر مع العراق، فهنالك شتان بينهما، فالحركة البعثية في اليمن ينسب إليها الفضل الأول في إدخال وتأسيس قواعد العمل السياسي في اليمن منذ نهاية عقد الأربعينيات من القرن الماضي، وكان لها حضور في الأوساط السياسية والعسكرية والشعبية...الخ، والتجارب التي خاضها حزب البعث في مجال بناء مرتكزات الدولة المدنية الحديثة في العراق (وسوريا بصورة أو أخرى) كانت من التجارب الرائدة التي يحتذي بها لاعتبارات رئيسة عديدة، لدرجة دقت ناقوس الخطر بقوة لدي القوى الدولية والإقليمية المناهضة لها، بصورة تجعل من الحركة البعثية مرجعية مهمة للرئيس ألحمدي وفريق إدارته وهم يضعون أول لمساتهم الرئيسة في خارطة الطريق الجديدة ليس هذا فحسب، لا بل وتعبيدها، سيما في حال أدركنا ما أبداه العراق من استعداد منقطع النظير لدعمها على كافة المستويات وفي البيئتين الداخلية والخارجية!! وهنا يكمن بيت القصيد.

- وهذا ما يفسر الكثير من خفايا وأسرار اندفاع عناصر الجناح المتطرف في الحركة الناصرية بالتعاون والتنسيق ومن الشراكة مع عناصر التيار التقليدي المحلي والإقليمي إلى محاولة قطع الطريق بصورة نهائية أمام العراق ومشروع حركة التغيير الوطني الذي تتبناه الحركة البعثية فكرا ومشروعا وأفرادا للحيلولة دون استحواذها على مكانة مرموقة في النظام الوطني الثوري للرئيس ألحمدي الذي كان مازال طور التكوين (وهذا ما سوف نتطرق إليه في مقال آخر)، من خلال وضع العقبات والعراقيل الجمة أمامها والتي كان منها تبني هذه العناصر لمحاولات عديدة لاستقطاب الرئيس إلى صفوفها وعندما عجزت بدأت تبث الشائعات عن انضمامه لصفوفها...الخ، للحيلولة دون وجود احتمالية لإمكانية تحقيق موطئ قدم لها على أرض الواقع على صعيد الأفكار والمشروع والأفراد، يمكنها من الوصول إلى أحد أهم أهدافها الأساسية المتمثل بوضع اليمن دولة وشعبا في الطريق الصحيح المنشود بمراعاة عامل الوقت والسرعة والكلفة، والقادر على نقل اليمن دولة وشعبا بشكل آمن إلى مصاف الدولة المدنية الحديثة المنشودة.

والله ولي التوفيق

d.tat2010@gmail.com


في الأحد 29 يوليو-تموز 2012 12:56:43 ص

تجد هذا المقال في مأرب برس | موقع الأخبار الأول
https://mirror1.marebpress.net
عنوان الرابط لهذا المقال هو:
https://mirror1.marebpress.net/articles.php?id=16691