ما الذي تعرفونه عن الجوف ؟
ناصر محمد الشريف
ناصر محمد الشريف

اجزم ان معظم من سيقرأون مقالتي هذه لا يعرفون الكثير عن الجوف ، ولم يسبق لهم ربما زيارتها ، وتكاد تنحصر معرفتهم بها من خلال الحديث عن سيارات مسروقة لأقرباء او معروفين لهم ، ذهبوا في غياب الدولة للبحث عنها هناك .

محافظة الجوف لمن لا يعرفونها هي احدى اكبر المحافظات في الجمهورية اليمنية من حيث المساحة ، فهي تقريباً ثالث اكبر محافظة بعد محافظتي حضرموت والمهرة من حيث المساحة وهي محافظة حدودية قريبة من المملكة العربية السعودية .

لا تبعد مدينة الحزم (عاصمة محافظة الجوف ) عن عاصمة اليمن الموحد صنعاء سوى 140 كم تقريباً ، غير ان هذا القرب لم يشفع لهذه المحافظة المنكوبة ان تتحول الى جزء حقيقي من الجمهورية اليمنية رغم مرور خمسين عاماً من الثورة اليمنية سبتمبر 1962 م .

لا وجود للدولة هناك ، لا وجود لدستور الجمهورية اليمنية وقوانينها على تراب هذه المحافظة ، الجوف محافظة تعيش حياة العصور الوسطى ، تعيش زمن ما قبل الدولة ، تعيش خارج العصر تماماً وبفعل فاعل .

تعمد حكام اليمن وحكوماتها على مدى عقودٌ مضت على إبقاء الجوف كذلك ، منذ زمن الائمة مروراً بحكومات ما بعد ثورة سبتمبر وحتى زمن علي عبد الله صالح والجوف يرزح تحت وطأة ثلاثية الرعب المخيفة الجهل ، المرض ، الخوف.

وعلى ذكر الخوف فإن مدرساً مصرياً شاءت الاقدار ان يأتي الى الجوف يوماً مدرساً ، فلما رأى ما تعانيه من الحروب والثأرات والويلات قال (ربما ان هذه الارض كان اسمها يوماً ما الخوف فسقطت النقطة نتيجة الارتعاش لتسمى لاحقاً بالجوف ).

لكم ان تتخيلوا ان محافظة الجوف وبالرغم من المساحة الهائلة لها لا يوجد على ترابها اليوم جندياً واحداً او رجل امن وإن وجد فهو مقيد ولا يستطيع حتى حماية نفسه فضلاً عن حماية هذه المحافظة وأهلها ، تخيلوا ايضاً ان هذه المحافظة لا يوجد فيها مستشفى عام او خاص ، هناك فقط مركز صحي تابع لجمعية الاصلاح به طبيب واحد تقريباً يقدم رعاية اولية لمحافظة بأكملها ، لا توجد في الجوف محكمة ولا نيابة عامة ، لا يوجد في الجوف حتى شارع واحد تمت زفلتته ، ولا يوجد بها فندق ، ولا توجد بهذه المحافظة حديقة او ملعب رياضي او مكتبة عامة سوى مكتبتين مهجورة .

اشعر بحرقة وألم شديد عندما اذهب عبر هذه المحافظة بسيارتي وأنا في طريقي الى المملكة العربية السعودية ، فما إن اخرج من هذه المحافظة و اصل الى منفذ البقع الحدودي حتى ادخل الى مدينة نجران السعودية وأرى الفرق والبون الشاسع بين حال الجوف وحال نجران رغم ان التضاريس والبيئة القبلية والاجتماعية متشابهة الى حد كبير ، فقبيلة دهم التي تسكن الجوف لا تختلف تاريخياً عن قبيلة يام التي تسكن نجران وكانت حياة القبيلتين الى زمن قريب تقوم على نفس النمط ، فقط الفرق هو وجود الدولة هناك وغيابها هنا .

ليس اهل الجوف هم السبب لكل ذلك كما يعتقد البعض ، فهم وإن كان يغلب عليهم بشكل كبير الطابع القبلي والبدوي ، إلا انهم مثل بقية البشر يتمنون ان يعيشون حياة طيبة خالية من المنغصات والمشاكل ، يتوقون الى حياة فيها شيء من الطمأنينة والعيش الكريم ، يحصل فيها ابناؤهم على التعليم والرعاية الصحية الجيدة ووسائل الراحة والترفيه ، غير انهم لم يجدوا من ذلك شيئا .

اعرف كثيراً من اهل الجوف الذين ما إن غادروا بيئتهم المثقلة بالهموم والآلام حتى استطاعوا ان يشقوا طريقهم نحو النجاح والإبداع اطباء ومهندسون ورجال اعمال وغير ذلك ، ويكفي هنا ان اشير الى ان رئيس اكبر جامعة خاصة في اليمن ينتمي الى هذه المحافظة وغيره الكثير .

في الرياض عاصمة المملكة العربية السعودية استطاع اهل قرية من محافظة الجوف تسمى خب السيطرة شبه الكاملة على اثنين من الانشطة التجاريه الفاعلة في المدينة وفي مدن اخرى من المملكة هي مطاعم الاكلات الشعبية السعودية والكماليات واستطاعوا تأسيس شركات وسلاسل ناجحة ومشهورة ، ما كان لهم ان يقدموا او يصنعوا شيئاً في موطنهم الاصلي الذي يفتقر لأبسط مقومات البقاء فضلاً عن النجاح والعمل .

اثناء وجودي في الرياض قبل اشهر التقيت احدهم ، هو الصديق العزيز احمد البحيح ، شاباً مبدعاً مفعماً بالحيوية وحب النجاح ، تحدثت معه عن محافظته التي غادرها وهو صغير لكنه لا يزال مولعاً بها يتمنى ان يراها يوماً وقد نهضت وخرجت عن سباتها المفجع ، اعتقد ان ذلك الشاب وأمثاله لو اتيحت لهم الفرصة للعمل على بناء محافظتهم وانتشالها من ما هي فيه لوجدناها في وضع افضل من ما هي عليه اليوم .

تعيين محافظ للجوف لا يكفي ، وإن كان اختياره موفقاً فهو وكما عرفته رجلاً نشيطاً وهادئاً وصدوقا ، الجوف تحتاج الى وجود كامل للدولة بمعناها الحقيقي ، قد يكون المحافظ لبنة على هذا الطريق ، لكنه يحتاج الى أن تقف خلفه نية صادقة من الحكومة ونوايا حسنة وصادقة من الاحزاب والجماعات والقبائل ذات الحضور والثقل هناك لانتشال هذه المحافظة من الوضع المأساوي الذي تعيشه.

الجوف تحتاج الى تنمية حقيقية وشاملة ، تتكامل فيها جهود الدولة مع ابناء المحافظة الذين هم مطالبون ايضاً بأن تصدق نواياهم لما فيه مصلحتهم هم اولاً ، ولكن وفق رؤية صحيحة تقدم المصلحة العامة على المصالح الخاصة ، يشترك ويشارك فيها ابنا المحافظة المتعلمون والمبدعون والمخلصون وليس المشايخ النفعيين الذين لا هم لهم سوى مصالحهم الخاصة ومصالح اسرهم ، فيما هم احد اسباب تعاسة محافظتهم وفشل أي جهد قد يبذل لإخراجها من ما هي فيه.


في الخميس 20 سبتمبر-أيلول 2012 09:38:24 م

تجد هذا المقال في مأرب برس | موقع الأخبار الأول
https://mirror1.marebpress.net
عنوان الرابط لهذا المقال هو:
https://mirror1.marebpress.net/articles.php?id=17384