اليمن وإشكاليات عملية الانتقال(4) إشكاليات الفساد والتنمية
د. عيدروس نصر ناصر
د. عيدروس نصر ناصر

ربما لا يأتي الحديث عن الفساد والتنمية معا من باب المصادفة، فللأسف الشديد قطعت اليمن خمسين عاما منذ ثورة  26 سبتمبر في الشمال و45 عاما من استقلال الشطر الجنوبي في الثلاثين من نوفمبر وما تزال التنمية لم تصل بعد إلى نقطة الصفر التي تنتقل منها من السير في الاتجاه السالب والانتقال التصاعدي على الخط الموجب، ولتخلف التنمية أسباب مركبة بعضها يعود إلى السياسات الخاطئة في الشطرين قبل 22 مايو 1990م، وعندما حان الوقت الذي اعتقد اليمنيون أنهم سيدخلون فيه بوابة التنمية من أوسع مداخلها، اتضح أن أحلام اليمنيين قد كانت في غير محلها ذلك أن من تولوا إدارة شئون الحكم بعد مايو 1990 لم يكونوا مؤهلين لخوض تجربة تنموية ناجحة ترتقي بالمواطن اليمني نحو مستويات أعلى من التقدم والازدهار والاستقرار المعيشي والخدمي ، وجاءت كارثة حرب 1994م لتغلق كل الأبواب أمام مجرد الحلم في أي مشروع تنموي حقيقي ينهض بالبلد ويخرجها من دائرة التخلف والتبعية والأمراض والأوبئة والأمية والاقتتال ورداءة الخدمات وغيابها غالبا، ومن بين جميع الأسباب التي تعيق التنمية في اليمن وهي عديدة يأتي الفساد ليمثل قطب الرحى فيها جميعا فضلا عن غياب التخطيط الاستراتيجي المدعوم برؤية سياسية بعيدة المدى لمستقبل البلد وثرواتها ونهوضها.

يتحجج الكثير من كتاب ومنظري النظام بأن الفساد ليس حكرا على اليمن وإنه ينتشر في كل البلدان حتى تلك التي قطعت شوطا في أنظمة الشفافية والمساءلة وحكم القانون، وربما يكون في هذا القول بعض الحقيقة لكن الجزء المخفي من الحقيقة هو ما لم يقله منظرو الفساد في اليمن، وهو أن أنظمة محاربة الفساد في معظم البلدان التي يتحدثون عنها لا تسمح بتنامي وتفشي الفساد ولم تسمح بتحويله إلى سياسة رسمية وفي البلدان التي يتحدثون عنها يكفي نشر خبر عن فساد موظف حكومي صغير أو كبير، حتى يتم إيقافه عن العمل وإحالة القضية إلى أجهزة التحري لإثبات صحة الاتهام أو بطلانه، لكن في اليمن ما إن يدور الحديث عن موظف أو مدير أو وزير فاسد حتى يتم نقله من وظيفته التي مارس فيها الفساد إلى وظيفة أكبر مكانة وأوفر مالا وأكثر مرونة في توفير الفرص لفساد أوسع وأكبر.

تبين مؤشرات منظمات الشفافية ومكافحة الفساد العالمية إلى أن موقع اليمن من ترتيب الدول في مكافحة الفساد هو 154 من بين 183 دولة في العام 2009م وهو رقم مخيف وباعث على اليأس والإحباط لكن الأسوأ ما جاءت به بيانات العام 2011 حيث تقدمت اليمن إلى الخلف بعشرة أرقام فصار ترتيبها هو الــ 164 ولا ندري كم دول سنتفوق عليها في الفساد في العام الحالي وما سيليه إذا ما استمرت سياسة الفساد والإفساد قائمة.

الفساد في اليمن ليس ظاهرة أخلاقية تعبر عن سلوك فردي ينحرف أصحابه هنا أو هناك بسبب ضعف الضمير وغياب الوازع الأخلاقي والرادع الديني أو سوء التربية العائلية والمدرسية، لكنه سياسة رسمية تكرس وترعى وتنمى، من قبل القائمين على إدارة البلد، وهو بذلك لا يتأتي من خلال الاحتيال على القانون والبحث فيه عن ثغرات قانونية ينفذ من خلالها الفاسدون ليمرروا أعمالهم في العبث بالمال العام وتحقيق المصالح غير المشروعة، لا . . .إن الفساد في اليمن سياسة رسمية ونهج رسمي يتبعه كبار رجال الدولة بل إنه مهنة يمارسها متخصصون مستغلين إما مواقعهم الحكومية والمناصب العليا التي يشغلونها، أو العلاقة التي يقيمونها مع زبائن يحققون معهم مصالح مشتركة على حساب المال العام، أو القوة والنفوذ والهيمنة التي يتمتعون بها في فرض عمليات الفساد، وتحقيق الغايات المراد الوصول إليها، ومن خلال الفساد تخسر الموارد الحكومية الرسمية عشرات وربما مئات المليارات من الريالات اليمنية التي تذهب هدرا دون أن يصد أصحابها صاد أو يردعهم رادع.

يتذكر اليمنيون قضيتين من أشهر القضايا التي وصلت إلى العلن وربما يكون المخفي أعظم، وأقصد بالقضيتين: الأولى قضية القطاع النفطي رقم 53 والذي جرى بيع حصة إحدى الشركات الحكومية النفطية بمبلغ 13 مليون دولار أمريكي، لمدة عشرين سنة، لإحدى الشركات المستثمرة، وقد حققت تلك الشركة أرباحا في سنتين تقارب ربع القيمة الكلية أي أن الشركة المستثمرة ستحقق كلفة البيع وزيادة بثمان سنوات، و12 سنة من عمر الاستثمار أعطيت للشركة مجانا، القضية الثانية هي قضية صفقة الغاز مع أحدى الشركات الكورية الجنوبية، والتي جرى بيع كمية من الغاز اليمني للشركة المستثمرة بمبلغ أربعة مليارات دولار ولمدة عشرين سنة أيضا، وبعملية حسابية وفي ضوء ما حققته الشركة المستثمرة من نتائج اتضح أنها ستجني ستين مليار دولار خلال العشرين السنة فترة الاستثمار أي أن الشركة حصلت على ستة وخمسين مليارا من الدولارات مجانا، هذه الحسابات في الصفقتين احتسبت على افتراض ثبات السعر العالمي للغاز والبترول عند سعر سنة البيع علما بأن الأسعار العالمية في تزايد مستمر وهو ما يعني أن خسائر اليمن ليست فقط تلك التقديرات الواردة في تقارير لجنة النفط والتنمية في مجلس النواب بل إنها قد تزيد وقد تصل إلى الأضعاف فيما لو تضاعفت أسعار النفط والغاز عالميا وهو أمر وارد.

ويشار هنا إلى صفقة بيع فنادق عدن الستة التي تم بيعها بمائتين مليون ريال لشركة وهمية لم يمض على تأسيسها أربعة وعشرين ساعة قبل عملية البيع، وقد قال لي أحد المستثمرين أنا على استعداد بأن أدفع مائتي مليون ريال مقابل أرضية واحدة لأحد الفنادق الستة،. . . إن هذه الصفقات وغيرها مما لا يعرفه اليمنيون لا يقف وراءها من وقعوها بل أن وراءها رؤوس كبيرة هي التي وجهت وأمرت وسهلت حصولها ووفرت الحماية لمنفذيها، وهي التي حصدت الفوائد بينما خسر الشعب اليمني من ثروته ومن حقوق الأجيال القادمة عشرات وربما مئات المليارات من الدولارات، كان يمكن أن تغني اليمن عن مد اليد إلى الآخرين ويمكن أن تقضي على البطالة والفقر وتحول اليمني إلى واحد من أثرى أثرياء العالم إذا ما جرى استثمارها في البنية التحتية وفي فتح مجالات عمل جديدة وتوفير خدمات ضرورية للمواطن لكن الفساد كنار جهنم كلما قيل لها هل امتلأت؟ قالت "هل من مزيد".

وما يمارسه الصغار من فساد لا يمثل إلا محاكاة مصغرة لما يفعله كبار العتاولة، ممن يحتمون بالوظيفة الحكومية العالية، أو بالسلطات التي يتحكمون عليها أو بالحصانة التي يتمتعون بها والتي تجعل مجرد ذكر أسمائهم بسوء جريمة يعاقب مرتكبوها.

منذ إن تشكلت الهيئة الوطنية لمكافحة الفساد، والتي جاء تشكيلها بناء على توصيات دولية حصلت مقابلها الحكومات اليمنية المتعاقبة على مئات الملايين من الدولارات، منذ ذاك لم تنجح الهيئة التي بلغت موازنتها مليارات، في تقديم قضية فساد واحدة إلى أجهزة البحث والتحري، وهناك من قال معلقا أن الهيئة قد شرعت تمارس الفساد منذ يوم توليها لعملها بمجرد قيام قياداتها بتوظيف أقاربهم في مكاتبهم بغض النظر عن أحقيتهم بهذه الوظائف أم لا.

تقارير جهاز الرقابة والمحاسبة تتحدث عن مخالفات طفيفة تبلغ مئات الملايين في بعض المؤسسات، غير الإيرادية، أما المخالفات غير الطفيفة، التي لا تعرض على مجلس النواب المشلول، إلا بعد غربلتها عبر مكتب رئاسة الجمهورية، هذه المخالفات تصل إلى مليارات، لا يمكن لأي جهاز كشفها لأنها تتم تحت عباءة القانون وهي مخفية عن كل من له أو ليس له الصلاحية في متابعتها وكشفها.

ستظل التنمية في اليمن متعثرة وستبقى مشروعا مؤجلا إلى ما لا نعلم، طالما بقي الفساد ضاربا أطنابه في كل مفصل من مفاصل السلطة وأجهزتها لأنه (أي الفساد) يمتص كل الموارد ويطيح بكل الجهود ويتسرب كالزئبق من بين يدي كل من يحاول الإمساك به.

الحرب على الفساد هي الحرب من أجل التنمية، والحرب على الفساد ليست حربا على مجموعة من المنحرفين وسيئي الخلق أو الخارجين عن القانون، بل معركة شرسة ومضنية مع جزء من النظام، جزء لديه من النفوذ والسطوة والهيمنة ما ليس لدى رئيس الجمهورية وجميع أعضاء الحكومة، وجميع أعضاء البرلمان، هذا إذا لم يكن بعض هؤلاء محاربين في الجبهة المضادة لمحاربة الفساد.

برقيات:

*حصل الباحث الشاب خلدون سالم صالح محمد على درجة الدكتوراه عن أطروحته المعنونة بــ (محددات تدفقات الاستثمار الأجنبي المباشر إلى اليمن: دراسة استكشافية)، من جامعة فينيكس، الأطروحة تمثل بحث قيم لواحدة من قضايا اليمن الاقتصادية الهامة، ويتوقع نشرها قريبا في إحدى المجلات المتخصصة بنشر الأطروحات الجامعية، ألف مبروك لخلدون هذه الدرجة العلمية الرفيعة، وعقبى للنجاحات المستقبلية في العمل التطبيقي.

* قال أبو الأحرار الشاعر الشهيد محمد محمود الزبيري:

أيها الآمنون أخــــــــطر أمنٍ......... أيها النائـــــمون في شرِّ مرقد

أيها الضاحكون والشعب يبكي ..... أيها الرافــــهون والشعب يجلد

كلكم قد نســيتمُ الأمس والأمــ ــــــــــــــــ ـــسُ قريبٌ منكم يراكم ويشهد

لم تكادوا تصحون حتى رجعتم.. حيث كنتم والمرء حــيث تعوّد

وربطـــــــــتم مصيركم بطغاةٍ ............. يستنزلوكم لهولٍ مـــــــــــؤكد

وجلبتم للشعب غُولاً يعيد الشــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــعب للقهقرى عصوراً ويرتد


في الثلاثاء 27 نوفمبر-تشرين الثاني 2012 10:17:44 ص

تجد هذا المقال في مأرب برس | موقع الأخبار الأول
https://mirror1.marebpress.net
عنوان الرابط لهذا المقال هو:
https://mirror1.marebpress.net/articles.php?id=18197