السلطة مغرم...لكنها تستحق التراجع!
دكتور/خالد الدخيل
دكتور/خالد الدخيل

هل كان إعلان الرئيس اليمني، علي عبدالله صالح، بعدم ترشحه في الانتخابات الرئاسية القادمة، ثم تراجعه عن ذلك، مسرحية مبيتة؟ تبرز أمام هذا السؤال فوراً الإنجازات السياسية الكبيرة التي حققها الرئيس صالح لليمن: تحقق في عهده الاستقرار السياسي، وتحققت الوحدة، واتسع هامش الحرية والمشاركة السياسية، فضلاً عن أنه بقي في الحكم ثماني وعشرين سنة. هل هو في حاجة إلى مسرحية للبقاء في الحكم بعد كل ذلك؟ عندما تضع ما حصل في إطار الواقع السياسي العربي، وتحديداً واقع الجمهوريات العربية، يستحيل تفادي مثل هذا السؤال. الأسوأ أن هذا الواقع العربي، مضاف إليه الطريقة التي تم بها الإعلان ثم التراجع، لا يترك مجالاً لتفادي الإجابة: ما حصل كان مسرحية، ليست هي الأولى، ولن تكون الأخيرة عربياً. هي مسرحية تتسق وتتكامل مع طبيعة نظام الجمهورية العربي.

لماذا اللجوء إلى مثل هذا الأسلوب: إعلان التنحي ثم التراجع عن ذلك بطريقة مكررة من رئيس لآخر؟ هل يعكس هذا استهتاراً بالشعوب العربية؟ أم تقليلاً من ذكاء هذه الشعوب؟ أم أنه، وعلى العكس من ذلك، يعكس عدم حكمة القيادات السياسية العربية؟ وقبل هذا وذاك، من؟ أو ما الذي يجبر هؤلاء الرؤساء على محاولة التشبه بديمقراطية لا يؤمنون بها؟ ربما أن إعلان التنحي ثم التراجع عنه هو سلوك سياسي عربي يعكس أمنية دفينة لدى القيادات السياسية في الجمهوريات العربية بأن يكونوا ملوكاً. لكنهم لا يستطيعون إلى ذلك سبيلاً علنياً. هم جاءوا إلى الحكم عن طريق الانقلاب على أنظمة ملكية، وانطلاقاً من أن النظام الملكي هو نظام رجعي ومتخلف.

ليس مفارقة أن انتهت هذه الانقلابات إلى أنظمة سياسية لا هي من الجمهورية في شيء ولا رؤساؤها يملكون من المواصفات والشروط ما يمكنهم أن يكونوا ملوكاً. سماها البعض بـ"الجملوكية" اختصاراً لـ"جمهوريات ملكية"، وهي أنظمة تجمع سلبيات النظامين معاً في نظام واحد يمثل نموذجاً في الاستبداد بالسلطة، وادعاء مواصفات وشعارات لا علاقة لها بهذا النموذج. عبر مسيرتها تبنت هذه الأنظمة شعارات متناقضة. في الماضي القريب كانت شعاراتها الشعبية، والاشتراكية، والقومية، والآن أصبحت تدعي الديمقراطية، ومناصرة الحرية. لا تعبر هذه الشعارات عن طبيعة الجمهوريات العربية، بل تعبِّر عن سطوة الخارج وقوته مقابل هذه الأنظمة، مثلها في ذلك مثل أخواتها الملكيات. أثناء وجود وسطوة الاتحاد السوفييتي كان المطلوب من هذه الأنظمة أن تتبنى شعارات الشعب، والاشتراكية، والعمل، وقوى الشعب العاملة، والثورة... الخ. وفي زمن سطوة الولايات المتحدة وانفرادها بقمة الهرم الدولي، أرغمت "الجملوكيات" العربية على استبدال تلك الشعارات بشعارات أخرى تمشياً مع الهيمنة الأميركية، ومسايرة لشعاراتها الضاغطة مثل "الديمقراطية"، و"الشفافية"، و"الإصلاح" و"التعددية"... وأمام المد الأصولي في الشارع العربي أضافت هذه الأنظمة أيضاً إلى جعبة شعاراتها مفردات مثل "الشريعة"، والهوية الإسلامية...

ادعاء الديمقراطية يتطلب أن تكون هناك انتخابات بدل استفتاءات، وأن يكون هناك أكثر من مرشح في "الانتخابات الرئاسية". لكن في الوقت نفسه، وتمشياً مع الطبيعة السياسية لـ"الجملوكيات" العربية، لابد أيضاً أن يكون الرئيس، والرئيس وحده، هو خليفة نفسه. لتحقيق ذلك كان هناك أكثر من أسلوب، أو أكثر من بدعة. الرئيس المصري حسني مبارك وجد بدعة فتح باب الترشيح في الانتخابات الرئاسية، لكن شرط أن تكون انتخابات مصممة أمنياً ولوجستياً لانتخابه هو فقط، حتى ولو أدى ذلك إلى أزمة مع القضاء، وحبس اثنين من القضاة. الرئيس الليبي معمر القذافي اخترع بدعة النأي بنفسه عن منصب الرئاسة (شكلياً طبعاً وبما يتفق تماماً مع شكلية أو بدعة الجماهيرية)، واحتفظ لنفسه بالمؤسسة الأمنية، وبخزينة الدولة، وبسلطة القرار الأخير. أما الرئيس اليمني، موضوعنا، فلم يجد إلا أسلوباً عربياً قديماً (نسبياً طبعاً) يعكس قدم اليمن السعيدة، وهو أسلوب إعلان التنحي، ثم تعبئة المؤسسات الإعلامية، وإخراج الجماهير، لمطالبة الرئيس بالتراجع. إذن مسرحية التراجع هنا هي أسلوب خاص بالجمهوريات الملكية العربية، تفتقت عنه ذهنية النخب السياسية لهذه "الجمهوريات". وبذلك يترسَّخ مبدأ أن يخلف الرئيس نفسه بشكل مستمر من دون اللجوء إلى الاعتراف علناً بمبدأ أن رئيس الدولة هو في الواقع "رئيس مدى الحياة".

بغض النظر عن النوايا، وبعد كل ما حصل الأسبوع الماضي في اليمن، يصعب تفادي الاستنتاج بأن إعلان الرئيس صالح بعدم الترشح ثم تراجعه عن ذلك كان مسرحية مبيتة، وذلك لشواهد تخص الإعلان نفسه وملابساته. أولها أن الرئيس في الحقيقة لم يتخذ قراراً بعدم الترشح، وإنما أعلن عن رغبة في هذا الاتجاه. والفرق واضح. القرار ملزم، في حين أن إعلان الرغبة يترك مجالاً للتراجع: مجال ربما لجس النبض، ولكسب الوقت، وتهيئة الظروف للتعبئة الشعبية، ثم استخدام ذلك ذريعة للتراجع. وثاني الشواهد أن تراجع الرئيس حصل بسرعة لافتة، مجرد يومين أو ثلاثة بعد الإعلان. لابد أن يأتي التراجع سريعاً، وإلا وجد الرئيس نفسه ملزماً بعامل الوقت بتحويل الرغبة إلى قرار نهائي. في المقابل، أو الشاهد الثالث، كان إعلان الرئيس بعدم الترشح في الواقع قبل حوالى سنة من الآن. لماذا الإعلان قبل حوالى السنة، ثم التراجع بعد ذلك خلال يومين أو ثلاثة؟ الأرجح أن فترة السنة كانت لإعطاء حزب الرئيس الحاكم، "المؤتمر الشعبي العام"، والأجهزة الأمنية، وقتاً كافياً لتعبئة الناس، وترتيب خروجهم بأعداد كافية لمطالبة الرئيس بالتراجع، ولتهيئة الحملة الإعلامية المصاحبة. حيث يلاحظ هنا التنسيق والتزامن والتكامل الواضح بين فعاليات حزب الرئيس الحاكم، واجتماعاته خصيصاً لفكرة إعادة ترشيح الرئيس، مع الحملة الإعلامية، وتحشيد الجماهير للغرض ذاته.

الشاهد الرابع والمهم هنا أن خطابات الرئيس في الأسبوع الماضي، والتي أعلن فيها رغبته بعدم الترشح، لم تتضمن أي التزام أو قرار بالتنحي، أو تبرير لفكرة التنحي، كما أنها لم تتضمن موقفاً نهائياً من موضوع التنحي. على العكس كانت خطابات تحدث فيها الرئيس أولاً عن نفسه، وعن زهده في السلطة. ومن ذلك قوله "أتت إلينا السلطة ولم نسعَ إليها" وقال أيضاً "السلطة مَغرم وليست كما يعتقد البعض مغنماً". وإذا كانت السلطة كذلك، فلماذا يريد الرئيس تحمل هذا المغرم لخمس وثلاثين سنة؟ لم يفت الرئيس في هذه الخطابات التأكيد على ضرورة الاحتكام إلى "إرادة الشعب... باعتباره مصدر السلطات"، وذلك كجزء من التعبئة، ولتبرير تراجعه على هذا الأساس. ثم تحدث عن إنجازاته، خاصة في موضوع الديمقراطية. بعبارة أخرى كانت خطابات انتخابية لتسويق الرئيس، وتسويق فكرة إعادة انتخابه. الشاهد الخامس أن الرئيس استخدم كلمة مسرحية في خطابين له قبل تراجعه أربع مرات. لم يقل أحد قبل ذلك إن إعلان تنحيه قبل سنة هو مسرحية. كانت هناك تساؤلات إن كان الرئيس سيلتزم بما أعلنه آنذاك. لكن الرئيس بحكم معرفته بـ"بدعة الجمهورية الملكية العربية"، وموقف الرأي العام من هذه الجمهورية، وبحكم معرفته بسوابق إعلانات رؤساء قبله بالتنحي ثم تراجعهم عن ذلك، وانكشاف أن ذلك كان مجرد مسرحية، لكل ذلك أراد الرئيس صالح أن يستبق الأمور ويعلن أن قراره بالتنحي ليس مسرحية. لكنه باستباقه هذا أكد المسرحية من حيث أراد أن ينفيها. ثم جاء تراجعه السريع ليقفل أي باب للشك في أن الأمر برمته كان مسرحية أُعد لها قبل أكثر من عام.

والشاهد الأهم في كل ذلك أن إعادة انتخاب الرئيس علي عبدالله صالح أصبحت الآن أمراً مضموناً ومفروغاً منه حتى قبل أن تبدأ الانتخابات. وعند نهاية فترة رئاسته القادمة سيكون الرئيس صالح قد حكم اليمن لمدة خمس وثلاثين سنة، مثله في ذلك مثل الرئيس العراقي السابق صدام حسين، وأكثر قليلاً من حكم الرئيس المصري حسني مبارك، وأقل من حكم الرئيس الليبي معمر القذافي. وهذه أطول فترة حكم عرفها اليمن في تاريخه الحديث منذ حكم الإمامة. ترى هل سيكرر هذا السيناريو بعد انتهاء رئاسته القادمة؟ كان للرئيس صالح إنجازات كبيرة: أنهى مرحلة الانقلابات وحقق بذلك الاستقرار السياسي لليمن، ووسع هامش الحرية والمشاركة، والأهم أنه نجح في توحيد اليمن. لو أنه تمكن من تجاوز مسرحية "الجمهوريات الملكية العربية"، وتنحى في أوج نجاحاته، لأضاف لسجله التاريخي بأنه أول من رسّخ الوحدة، وأسس للديمقراطية في اليمن. لكن تراجعه سيجعله أول من رسخ مبدأ خلافة الرئيس لنفسه، وأطول من حكم اليمن بعد حكم الإمامة مباشرة.


في الأربعاء 28 يونيو-حزيران 2006 08:53:29 ص

تجد هذا المقال في مأرب برس | موقع الأخبار الأول
https://mirror1.marebpress.net
عنوان الرابط لهذا المقال هو:
https://mirror1.marebpress.net/articles.php?id=291