الص/فويون
أحمد الظرافي

مأرب برس – خاص

 

من رحم إحدى الطرق الصوفية القبورية، ولدت الدولة الصفوية. وقد يستغرب البعض أن يلد التصوف دولة بتلك القوة والشوكة، اللتان عُرفت بهما الدولة الصفوية، وبذلك الحجم الكبير، والمسافة الشاسعة التي شغلتها، والتي امتدت من جبال طورا بورا في قندهار ، إلى هجر والقطيف في شرقي شبه جزيرة العرب مرورا بأذربيجان وأرمينيا وشرقي الأناضول والهضبة الإيرانية.

 

بيـد أن ذلك - على كل حال - هو ما حدث في إيران، قبل حوالي خمسمائة عام. ولا عجب في ذلك. فهل جنى المسلمون من التصوف غير الوبال والبوار والخسران ؟

 

من هم الصفويون؟ وكيف قامت دولتهم؟

 

أول ما يخطر في البال عند الحديث عن الصفويين هو اسم الشاه إسماعيل الصفوي لارتباط اسمه بفرض التطرف الشيعي في إيران، وتحويل المجتمع الإيراني ، بقوة السيف والغلبة والقهر من مجتمع ذي أغلبية سنية ، إلى مجتمع ذي أغلبية شيعية.

 

لكن قصة الصفويين، لم تبدأ عند الشاه إسماعيل الصفوي، بل بدأت قبل ذلك بأكثر من قرن من الزمان وبالتحديد في عهد جده الخامس ، الذي ينتسب إليه الصفويون، وهو الشيخ صفي الدين إسحاق الأردبيلي ( ت سنة730هـ/ 1334م ) رأس طريقة صوفية في أردبيل – وأردبيل طبقا لبعض المصادر مدينة في إقليم أذربيجان يغلب على أهلها النزعة الباطنية – كما أنه من المعروف أن أكثر شيوخ الصوفية في أردبيل كانوا من أهل السنة – وكان من ضمنهم صفي الدين المذكور ، وكان المذهب الحنفي والشافعي السنيان تاريخيا يشكلان مذهب الأغلبية في إيران في ذلك، الوقت وهذا في الظاهر على الأقل - في حين أن التشيع كان ظاهرة عربية بامتياز.

 

واشتهر صفي الدين وأبناؤه بالحركة الدائبة والهمة النشاط، والترويج لطريقتهم وخدمتهم لها ولذلك كثر أتباعهم بين قبائل التركمان - وأكثرهم من العامة الجهال ومن البدو الرحل - والذين التحقوا بالطريقة رغبة في البركة التي قد يُحدثونها لهم، نظرا لأن شيوخ الطريقة استخدموا في استقطابهم الكثير من أساليب الدجل والتظليل والشعوذة. وما لبثت طريقتهم أن انتشرت في أنحاء أردبيل كلها، ثم آسيا الصغرى حتى سوريا. وقد ساعدتهم على ذلك ومكنت لهم، علاقتهم الوطيدة بالقائد المغولي الدموي تيمورلنك ( الأعرج )، الذي كان صديقا لهم، ومن أبرز الداعمين لطريقتهم، حيث أوقف عليها الكثير من المزارع في محيط مدينة أردبيل. ثم بعد ذلك الحماية التي وفرها لهم الأمراء المحليون نتيجة لمصاهرتهم لهم، ولعلاقاتهم المتشعبة معهم، ولميول أولئك الأمراء نحو التصوف، ومزايداتهم على دعم الطرق الصوفية، لكسبها إلى صفوفهم، نظرا لما كان بين أولئك الأمراء المحليين من تنازع وتناحر على السلطة. 

 

وفي أيام خواجه علي ( ت 1427م ) – وهو الجد الأكبر للشاه إسماعيل - حصل تغيير باتخاذ التشيع ، ثم حاول الشيخ جنيد ( ت 1460م ) / 860 ) وابنه حيدر ت ( 1488 م ) / ( 893هـ ) التأكيد على الغارات ضد الكفار في القفقاس ، وأعطيا الطريقة طابعا عسكريا ، وقتلا في المعارك فأضافا الشهادة . وهكذا تحول الصفويون من شيوخ طريقة إلى دعاة دولة لها أهدافها السياسية. وكانت الأجواء في إيران بالربع الأخير من القرن العاشر الميلادي حيث التمزق والفوضى والاقتتال على السلطة بين أبناء أسرة آق قويونلو فرصة مهمة استفاد منها الصفويون واستغلوها لكسب المزيد من الأتباع في عهد الشاه إسماعيل الأول الصفوي، مؤسس الدولة الصفوية ، والتي ظهرت إلى الوجود في عام 1502م. واتخذت من تبريز عاصمة لها، وقد اعتمد الشاه اسماعيل، على جندٍ متحمسٍ معظمه من المريدين ومن قبائل القزلباش التركمانية البدوية ذوي العمائم الحمراء. وأستطاع بما عرف عنه من دهاء، أن يرسم لنفسه في عقولهم هالة خيالية جعلتهم على أتم استعداد للتضحية بأرواحهم ودمائهم، من أجله، حيث جعلوه بمنزلة نائب الإمام المعصوم، والحاكم باسمه.

 

وقبل أن يستكمل الشاه إسماعيل الصفوي ضم جميع إيران، ضرب ضربته الكبرى والمتمثلة في احتلال بغداد وضم العراق إلى ممتلكاته عام 1508، وتصفية دولة أكويونلو السنية التركمانية نهائيا. وكان الهدف من ذلك هو السيطرة على الأماكن المقدسة عند الشيعة في كربلاء والنجف الأشرف لضمان الزعامة على الشيعة في العالم، والانطلاق منها للسيطرة على أراضي بلاد الشام.

 

وفي سنة 916هـ/ 1510م، تمكن الشاه إسماعيل الصفوي، من هزيمة وقتل شيباني زعيم قبائل الأوزبك وأول زعيم سني يرفع الراية للقضاء على الصفويين الشيعة. حدث ذلك في معركة كبرى جرت بينهما بالقرب من مَرو. والتي أعقبها مذبحة لأهل السنة في مرو راح ضحيتها حوالي عشرة آلاف، وكان من نتائج هذه المعركة أيضا هو استيلاء الشاه إسماعيل على هراة، وإكراهه أهلها على اعتناق مذهب الشيعة.

 

تداعيات قيام الدولة الصفـوية

 

أدى ظهور الصفويين في إيران عام 1499 إلى زعزعة توازن تاريخي سياسي وديني في العالم الإسلامي. أحرزوا انتصارات وسيطروا على مجمل الهضبة الإيرانية، ورفعوا لواء التشيع وعملوا على نشره بكل السبل الممكنة، وفي سبيل ذلك قاموا بمحاربة مذاهب أهل السنة، وتصفية المراكز الإيرانية منها. وفي أثناء حروبها تلك كانت النزعة المذهبية المتعصبة هي من يحرك هذه الأسرة والتي استولت على عقول بعض العوام بالإكراه في كثير من الأحيان. وأدت انتصاراتهم إلى خروج الشيعة الاثنى عشرية من التقية في الأقطار الإسلامية الأخرى . ولذا فقد شهدت بعض المناطق الإسلامية التي يتواجد فيها الشيعة حالات تمرد وفتن وانتفاضات طائفية مزلزلة أعنفها.فتنة شاه قولي في الأناضول عام 1511، وكانت من كبريات الفتن في التاريخ العثماني، لدرجة أنها أوشكت أن تقوض أركان هذه الدولة الفتية من داخلها. 

 

وأدى ظهور الصفويين في تلك البقعة الإستراتيجية من بلاد الإسلام ( إيران وأذربيجان ) إلى فصل المسلمين السنة في وسط آسيا والهند وأفغانستان عن إخوانهم في تركيا والعراق ومصر. وكان لذلك أثر بالغ على طموح العثمانيين في توحيد هذه الأمة الواحدة وتزعمها.

 

كما أن " قيام الدولة الصفوية على أسس المذهب الشيعي على يد الشاه إسماعيل الأول حالت دون تلاحم الأتراك الصفويين والأتراك العثمانيين . كما وأن الدولة الصفوية شكلت سدا منيعا بين التركستان في الشرق وبين الدولة العثمانية في الغرب وإنها بالتالي قضت على الأواصر بين هذين العالمين التركيين "

 

و" في الحقيقة أن تحول الصفويين من المذهب الشافعي إلى المذهب الشيعي لم يفد سوى الفرس الذين استغلوا ويستغلون المذهب الشيعي للحفاظ على هويتهم القومية الفارسية وأهدافهم السياسية في المنطقة.

 

وكان ظهور الدولة الصفوية الشيعية ضربة قاصمة للوحدة الإسلامية المعنوية والروحية والتي قُوضت أركانها على أيديهم لأول مرة في تاريخ الإسلام.

 

كما كان ظهورهم فاتحة سيئة لعهد مضطرب وحافل بالفتن والقلاقل والانتفاضات المذهبية والسياسية، والتي لم يعرف العالم الإسلامي لها مثيلا من قبل والتي نجمت عن تطرف جماعة قزل باشي ، ليس في إيران وحدها فقط ، وإنما في أجزاء واسعة من العالم الإسلامي مثل العراق والأناضول وأذربيجان وأسيا الوسطى والقوقاز والهند وأرمينيا والخليج والجزيرة العربية.

 

وفي عام1503 تعرضت مكة لاجتياح ثم تدمير شبهه معاصرو الأحداث بغزوات القرامطة، وفي عام 1506 أوقف الحج بصورة مؤقتة لأول مرة في عهد المماليك، فاهتز العالم الإسلامي. ولسنا ندري فيما إذا كان لذلك علاقة مباشرة أو غير مباشرة بقيام الدولة الصفوية أم أنه ناجما عن عوامل أخرى.

 

ومنذ عام 1502 وقفت مصر عند شفير الحرب مع الصفويين. وانتشرت الفوضى في القاهرة إثر هزيمة القوات الأوزبكية بقيادة شيباني خان قرب مرو عام 1510، وأصبحت مصر مهددة أن تجتاحها جحافل القزل باشي ، ثم نشبت معارك مسلحة على نهر الفرات عام 1512 ، فحبس سكان سوريا ومصر أنفاسهم لاحتمال نشوب حرب مع إسماعيل الصفوي الذي كشف في حديث سري مع السفير البرتغالي عن مخططاته للاستيلاء على مكة واجتياح الأراضي العربية الخاضعة لسلطة المماليك.

 

ومن غرناطة وفأس ، ومن تونس واليمن ، ومن كاليكوتا وكوتاك وغيرها من مدن ولاية غوجارات الهندية الإسلامية ، ومن بغداد وحتى من جورجيا أخذ الرسل يتوافدون على القاهرة - لطلب الحماية والمساعدة ، وأضحى العالم الإسلامي بأسره في حالة من القلق الشديد بانتظار هجمات جديدة من " الفرنجة " وحركة قزل باشي الشيعية المتطرفة.

 

اضطهـاد أهل السنة

 

كان من أبرز سياسات الصفويين – منذ بداية عهدهم وامتلاكهم للقوة - هي سياسة الاضطهاد والتطهير الطائفي المنظم لأهل السنة، والجماعة في إيران وأذربيجان، وقد دفعهم تطرفهم المذهبي الشيعي وهوسهم السياسي - بتوسيع دائرة النفوذ والمد الشيعي الأثنى عشري، إلى إقامة المجازر الجماعية الشنيعة لأهل السنة، والتي لم يسلم منها النساء والأطفال، بداء من مجزرة تبريز التي قام بها القزلباش والتي ذهب ضحيتها الآلاف من المسلمين السنة، غداة سقوطها بيد الجيش الصفوي وإعلان العقيدة الأمامية الأثنى عشرية مذهب جديد وأحادي للدولة الصفوية عام 1502م. وذلك على الرغم من أن أهالي تبريز لم يبدو أية مقاومة تذكر في مواجهة الجيش الصفوي. " وعلى هذه المنوال واصل إسماعيل الصفوي توسيع دائرة سلطانه ونشر مذهبه الجديد بين الأقاليم الإيرانية التي أخذت تتساقط الوحدة تلو الأخرى تحت شدة بطشه. ويشير صاحب كتاب «أحسن التواريخ» الى مذابح السنة في مدينة«شکی» في غرب إيران ومذبحة الشيروانيين وإحراق جثت شيخهم، فرخ يسار، وبناء منارة من جماجم القتلى في المدينة. ويذكر أيضا هجوم القزلباش على قلعة باكو والقيام بمذبحة فجيعة بين أهالي القلعة وإحراق جثث الموتى و أبادت ثمانية عشر ألفا من جيش الأمير عثمان آق قويونلو بعد استسلامهم"

 

ومن أبرز ذلك ما فعله الشاه إسماعيل الصفوي غداة احتلاله لبغداد سنة 908هـ ، فقد أرتكب فيها أتبلعه الفظائع ضد أهل السنة، إما بدافع الحقد الموروث أو لإرغامهم على التشيع، فقتلوا العلماء والعوام من أهل السنة، وخربوا دور العلم، وأحرقوا المساجد، وجعلوها لخيولهم، ولم تسلم بعض قبور علماء ورموز أهل السنة من النبش والعبث والتخريب – كضريح عبد القادر الجيلاني وأبي حنيفة النعمان ، وتعاقب حكام بغداد الصفويين على السلطة بعد أن منحهم الشاه لقب ( خليفة الخلفاء )، كلقب للسخرية.وقد انتهج هؤلاء الحكام سياسة التطرف المذهبي، وتجرعت بغداد والعشائر السنية العراقية ، على أيديهم ، ألواناً من الأذى والآلام، وقد شهدت بغداد وغيرها من المدن العراقية خلال تلك الفترة ، موجات من الفرس ، وانتشرت فيها اللغة الفارسية والثقافة الفارسية، وأغدقت الهبات على الأماكن المقدسة الشيعية في النجف وكربلاء وسامراء – بهدف إعادة الروح لها ، وإعطاء زخم جديد إلى منابع التشيع الرئيسية في العالم - وكانت توشك على الجفاف والنضوب في تلك الفترة - وبأمر من الشاه إسماعيل الصفوي ، بدأ بناء ضريح ضخم على قبر الإمام موسى الكاظم – الأمام السابع عند الشيعة - والذي أدعى الصفويون نسبتهم إليه – وأدخلت عن طريقهم بدع وطقوس احتفالية جديدة على العقيدة الشيعية "لم يعرفها أسلافهم؛ حتى أصبحت تلك الأفكار الصفويّة من مسلَّمات مذهب رافضة اليوم " واستولى قبائل القزل باشي على أفضل الأراضي والمراعي في وادي الرافدين، وأصبح خاناتهم ( جمع خان ) حكاما من ذوي السلطة المطلقة في العراق ، ومارس القزلباشيون عمليات ابتزاز واغتصاب مريعة. واضطر أهل السنة للخروج من بغداد، وفر وجهاؤهم إلى العالم الإسلامي مستنجدين الأمّة ومنذرين من هذا الغول الصفوي.

 

وتواصلت المذابح للسنة بعد ذلك على أيدي الصفويين لا سيما في إيران. ويُقال أنه تم سفك دم قرابة المليون مسلم سني من أجل فرض التشيع الاثني عشري على سكان البلاد.

 

البدع التي جاء بها الصفيون

 

لم يكتف الصفيون بما في عقيدة الشيعة الإمامية الإثنى عشرية من طوام وضلالات ، وإنما أضافوا إليها الكثير من البدع ، والأفكار والخرافات وكان من عقائدهم الفاسدة:

 

- تكفير الصحابة وأمهات المؤمنين، وسبهم ولعنهم على المنابر، وأمروا الخطباء والسفهاء بذلك.

 

- قام الصفويون بتعظيم قبر أبي لؤلؤة المجوسي، قاتل الخليفة عمر بن الخطاب رضي الله عنه، وبنوا عليه ضريحاً عظيماً وجعلوه مزارا لهم ، ولا زال كذلك حتى اليوم. مع تعصبهم للعرق الفارسي واحتقارهم للجنس العربي.

 

- وقام الصفويون بنبش وإهانة قبور الأولياء والعلماء والأمراء والخلفاء السنة، مثل نبش قبر القطب الصوفي المشهور، عبد القادر الجيلاني، وقبر الإمام أبي حنيفة النعمان بن ثابت إمام أهل السنة، في بغداد، وكانوا قبل ذلك، وبعد إعلان دولتهم في تبريز قد عمدوا إلى نبش قبر السلطان يعقوب آق قويونلو التركماني وقبور سائر الأمراء في المدينة وحرقوا بقايا جثثهم. ومن ذلك أيضا أنهم أهانوا قبر الخليفة هارون الرشيد والواقع في مدينة الري ، وجعلوه مكاناً لقضاء الحاجة. ولعل السبب في ذلك – كما يرى البعض - هو أن هارون الرشيد هو صاحب القصة المعروفة بـ " نكبة البرامكة" وزراؤه من الفرس، والذين حاولوا السيطرة على مقاليد الخلافة ببغداد دونه.

 

- كما قام الصفويون ببناء الأضرحة والمشاهد على قبور أهل البيت، ولم تكن قد بنيت قبل ذلك، وصرفوا الأموال العظيمة على تزيينها وطلاء قبابها بالذهب والفضة.

 

- وأدخل الصفويون فكرة الطواف على قبور الأئمة ، والسجود لها ، والتبرك بها، والحج إليها.

 

- وأحدث الصفويون السجود على التربة، وهي قطعة صغيرة من الطين يسجد عليها الشيعة، ولم تكن معروفة لشيعة العراق أنفسهم ، وإنما أخذوها عن الصفويين.

 

- وابتدع الصفويون كذلك قضية الدفن في النجف قرب مرقد الإمام علي بن أبي طالب رضي الله عنه ، وكانوا يأتون بموتاهم من إيران ويدفنونهم في النجف في المقبرة التي تعتبر اليوم من كبريات المقابر في العالم، وهي التي أصبحت تُعرف عند الشيعة الروافض باسم( مقبرة وأدي السلام ).

 

- وأحدث الصفويون، ما عرف ( بالحوزة العلمية )، ولم تكن معروفة قبل ذلك ، وقامت هذه الدولة المتعصبة بتكميم الأفواه وتغييب العقول وحصر جل المعرفة في ما يقوله سادة هذه الدولة والويل لمن يخالف ذلك.

 

- كما أحدث الصفويون ما يعرف ( بالمواكب الحسينية ) في عاشوراء ، وفيها يقوم بعض الرجال بضرب أجسادهم بالسلاسل السيوف حزناً على الحسين بدعواهم ، وهذه لم تكن معروفة أيضاً عند شيعة العراق.

 

- ومما ابتدعه الصفويون في مذهبهم – في الأذان - بعد الشهادة بأن محمدا رسول الله الشهادة بأن عليًّا ولي الله، وهذه البدعة وضعتها فرقة من الرافضة في القرن الرابع، لكنها خفت واختفت لاستنكار علماء الرافضة أنفسهم على من أحدثها، ثم أحياها الصفويون، وإلى يومنا هذا أصبحت هذه الشهادة من مسلَّمات الأذان عند جميع الرافضة.

 

- كما أن " أكثر الأدبيات الشيعية المتطرفة، والتي «ثقفنت» التشيع ومنحته موسوعاته الكبرى، مثل «بحار الأنوار» للمجلسي ذات المجلدات التي ناهزت المائة، تنتمي لتلك الحقبة، وهو أمر لو منح المجلسي كل عمره لما أطاق كتابته، خصوصا أن كتاب «بحار الأنوار» ليس إلا كتابا واحدا من كتب المجلسي، الأمر الذي يدل على وجود جهد (دولتي مؤسسي) كما يلمح إلى ذلك علي الوردي"

 

خطر الصفويين على العثمانيين

 

أرسل الصفويون المئات من دعاتهم المدربين لنشر المذهب الشيعي في الأقاليم التابعة للدولة العثمانية ولاسيما بين القبائل التركية البدوية في الأناضول، قريبا من معقل العثمانيين ، ونشطوا في ذلك نشاطا كبيرا ووجدوا لهم أعواناً كثيرين في تلك المنطقة سواء من المغرر بهم أو من الحاقدين على العثمانيين، مهدوا لهم الطريق لنشر مذهبهم الفاسد وهدم الدولة العثمانية من الداخل، وقد أطمعهم في ذلك كبر سن السلطان بايزيد الثاني – ابن السلطان محمد الفاتح - والذي أطلق عليه بعض المؤرخين العثمانيين لقب "الصوفي" لنزوعه نحو التأمل والدعة والسكون، ولميله إلى السلام ودعم العلاقات العثمانية الصفوية، وحرصة على حقن دماء المسلمين وتركه شؤون الحكم لأبنائه ووزرائه، حيث كان الأبناء في تنافس على السلطة مما أدّى لاختلال الأمن في البلاد. وعندما علم السلطان بايزيد الثاني ، أن الشاه إسماعيل الصفوي يتمادى في إلحاق الأذى والضرر بالسنة، بصورة جعلتهم يهربون إلى الأراضي العثمانية ، اكتفى ببعث كتاب إليه ينصحه بالتزام العقل والحكمة في معاملتهم.، " وهذا الموقف المتراخي من السلطان بايزيد لم يعجب قادة الإنكشارية فتوجهت أنظارهم لولده الأمير سليم الذي كان يشبه جده السلطان محمد الفاتح لحد كبير في حبه للجهاد والفتوحات والتوسع في أوروبا لا سيما وأن سياسة بايزيد السلمية تلك ، لم يكن لها أي صدى أو اعتبار لدى الشاه إسماعيل الصفوي الذي عرف بقسوته وطيشه وتحديه للمسلمين السنة، فاستمر في غيه وفي ممارساته الطائفية البغيضة وفي توسيع دائرة سلطانه على حساب القوى الإسلامية السنية المجاورة، فأخذت دولته تتضخم وتظهر على مسرح الأحداث كقوة مناوئة للعثمانيين السنة، وعنصر مقلق لها وشكلت خطرًا داهمًا على وحدتها وأمنها واستقرارها ، وقام الشاه باغتصاب بعضا من أقاليم العثمانيين بينما كانوا منشغلين بفتوحاتهم في أوروبا.

 

وأدت أعمال الإرهاب الجماعي والفضائح التي أقترفها أتباع حركة القزل باشيين الشيعة إبان انتفاضتهم العنيفة على السلطنة العثمانية في الأناضول عام 1511، بزعامة شاه قولو ( أي عبد الملوك ) – الذي أطلق عليه السنة اسم شيطان قولو ( أي عبد الشيطان ) – إلى زرع البغضاء في الوسط السني . فقد قام أنصار الشاه إسماعيل الصفوي بتدمير المساجد والمدارس وإحراق القرى وهدم مقرات ومساكن الدراويش وأضرحة الأولياء . كما حرقوا جميع نسخ القرآن (الناقصة وفق معتقدهم البغيض) والكتب الدينية (المزورة بزعمهم )، ومارسوا أعمال السلب والنهب كما قام الشاه إسماعيل بمساعدة الأمير أحمد المتمرد ضد والده السلطان بايزيد الثاني ، ثم ضد أخيه السلطان سليم .

 

كل هذا وغيره قد أثار حفيظة الدولة العثمانية من الصفويين، وأدى إلى تسميم الأجواء وتوتير العلاقات أكثر فأكثر بين الطرفين، وبدأت المناوشات العسكرية بينهما في السنوات الأخيرة من عهد السلطان بايزيد الثاني ، بيد أن ذلك لم يكن سوى ردود أفعال، ولم تكن هناك – في عهد السلطان بايزيد الثاني أية خطة حقيقية منظمة ، مطروحة للبحث لمجابهة الخطر الصفوي الشيعي الداهم.

 

تخاذل المماليك واستكانتهم

 

ولم يكن خطر الصفووين الشيعة، على العثمانيين وحدهم في الأناضول وآسيا الصغرى ، وإنما كان خطرهم –لاسيما بعد أن أحكموا قبضتهم على العراق - يمتد ليشمل الجزيرة العربية والشام ومصر . وتذكر بعض المصادر الغربية أن الشاه إسماعيل الصفوي كشف في حديث سري مع السفير البرتغالي عن مخططاته للاستيلاء على مكة واجتياح الأراضي العربية الخاضعة لسلطة المماليك .ومع ذلك ، ومع تفاقم خطر المد الصفوي ، ورغم الاستغاثات المستمرة من أهل السنة بالقاهرة – مقر خليفة المسلمين آن ذاك ٍ- فقد رفض المماليك بعناد بدءا من عام 1502 أي تعاون مع العثمانيين لمقاتلة الصفويين - حكام إيران – رغم عداوتهم لهم . - وبعدها تهربوا – أي المماليك – من إعلان الحرب على الصفويين عام 1509.

 

وفي أواخر سنة 916هـ أوائل عام 1511م، اكتشف السلطان قنصوة الغوري زعيم المماليك، أن هناك مؤامرة ضده طرفاها الشاه إسماعيل الصفوي، وجمهورية البندقية حليفته بالأمس. " وكانت هذه الجمهورية قد رأت بعين مصلحتها التجارية الخاصة أن تتعاون مع الشاه إسماعيل الصفوي لإحياء الطريق التجاري عبر إيران والعراق إلى منافذ الشام على البحر المتوسط ، ولذلك كانت خطة المتآمرين التي وقعت في أيدي السلطان الغوري تقضي بأن يتعاون الصفويون والبنادقة في القضاء على الدولة المملوكية ، فيقوم الصفيون بمهاجمة هذه الدولة برا من ناحية العراق، على أن يقوم البنادقة بمهاجمتها من ناحية البحر"

 

ومع ذلك فلم يقم السلطان الغوري، بأية ردود فعل معادية تجاه الصفويين واستمر في سياسته المستكينة والمهادنة لهم. بل إنه في عام 1512 استقبل المماليك رسلا بعث بهم إسماعيل الصفوي وسط دهشة المسلمين السنة – " وكان هذا الأمر بمثابة إعلان الحرب على العثمانيين ".

 

وكان قنصوة الغوري ، كزعيم للمسلمين السنة في ذلك الوقت - لتوليه خدمة الحرمين الشريفين - ملزما أن ينتصر لهم، وأن يشن حملة عسكرية لكبح جماح القزلباشيين، الغلاة أتباع الشاه إسماعيل الصفوي ، كون العثمانيين – عند قيام الدولة الصفوية - كانوا في وضع أكثر حرجا من المماليك ، فقد كان العثمانيون – فضلا عن حروبهم المتقدمة في البلقان ومشاكلهم الداخلية - مشتبكين في حرب طاحنة مع دولة البندقية ( 1499- 1502 ) ، وفي الوقت نفسه كانوا في حالة حرب بحرية متواصلة ضد القوات الأوروبية المسيحية – بقيادة اسبانيا الإمبراطورية الصليبية الأولى في ذلك الوقت – منذ أن تدخل الأسطول العثماني لإنقاذ مسلمي الأندلس عام 1486 واجتياحه شواطئ اسبانيا ومالطة ، وكان بإمكان المماليك هؤلاء أن يقدموا للعثمانيين مساعدة أكثر فاعلية ، غير أنهم فضلوا ترك الدولة العثمانية وحيدة في مواجهة خطر الصفويين المستفحل، وفضلوا السكون ومراقبة الأحداث من بعيد – دون تبصر بالعواقب الوخيمة التي ينذر بها تفاقم شأن هذه الدولة ، ودون أن يستفزهم ما يقوم به إسماعيل الصفوي من أعمال عدوانية متزايدة ضد السنة ومن علاقات وطيدة مع البرتغاليين - الذين كان المماليك في حالة حرب بحرية شرسة مع أساطيلهم الغازية، في المحيط الهندي واليمن وبحر العرب- متناسين بذلك – أي المماليك - ماضيهم المجيد في الجهاد دفاعا عن الإسلام والمنافحة عن أراضيه ضد التتار والصليبيين.

 

وتشير بعض المصادر إلى أن المماليك كانوا يغارون أساسا من تنامي قوة وانتصارات الدولة العثمانية، ومن شعبيتها المتزايدة في أوساط المسلمين السنة في مصر والشام، فأرادوا تدبير استفزاز لإثارة صدام عسكري بين الجانبين : العثماني والصفوي ، لكي يحطم أحدهما الآخر، ثم يتقدم المماليك فينقضوا على الطرف المنتصر ، ويتظاهرون – من ثم - بدور المنقذ للإسلام السني .

 

وفي مايو 1514 ومع بدأ السلطان سليم الأول حملته ضد الصفويين أوفد إلى القاهرة بعثة عثمانية كررت اقتراحها بعقد تحالف بين العثمانيين والمماليك لمحاربة إسماعيل الصفوي ، لكن المماليك رفضوا الاقتراح وتمسكوا بسياستهم مع اتخاذ موقف الانتظار ، وتحولت مسألة النزاع مع المتطرفين الشيعة إلى حجرة عثرة بين الدولتين السنيتين. وتبين أن هذه المسألة هي القشة التي قصمت ظهر البعير في النزاعات العثمانية المملوكية.

 

سليم الأول رجل المرحلة

 

في ابريل 1512 فرضت الانكشارية على السلطان بايزيد الثاني التنحي عن السلطنة لكونه – بجانب عوامل أخرى - كان حينئذٍ قد أقترب من السبعين ، ولم يعد قادرا على تحمل ضغوط ومشقات المشاكل والحروب التي كانت تتزاحم على الدولة العثمانية في تلك المرحلة - في وقت توقفت فيه الفتوحات في الغرب، وتراجعت هيبة الدولة ، وتفاقمت فيه أخطار الشاه إسماعيل الصفوي من جانب ، وأخطار أنصاره الشيعة التركمان في الأناضول ، والذين رفعوا راية التمرد والطائفية وباتوا يهددون بتقويض الدولة من الداخل من جانب آخر ، فاضطر السلطان بايزيد الثاني – إيثارا للسلام، ونتيجة لتزايد ضغوط الانكشارية - إلى التنازل طواعية عن مقاليد الأمور لأبنه سليم الأول الملقب بالشجاع – لدى الأتراك – والرهيب لدى الغرب.

 

وكان سليم الأول - الذي كان يبلغ الثانية والأربعين من عمره عشية توليه السلطنة العثمانية- يتصف بعلو الهمة والجسارة، والبنية القوية والذهن الوقاد- فضلا عن كونه كان يحظى بتأييد ودعم الانكشارية والجيش ، كما " كان السلطان سليم شجاعا ذكيا طموحا عظيم الهيبة ذو عزيمة تفل الحديد، ونفسٍ تحب الغزو والجهاد ، وكان يميل إلى القوة العسكرية ، بل يعده المؤرخون أحد العبقريات العسكرية في التاريخ لدهائه ، وإنجازاته العسكرية ". ولا غرابة في ذلك فهو حفيد" السلطان محمد الفاتح ، السلطان العثماني الكبير ، صاحب الشرف العظيم - بتحقيق بشارة الرسول صلى الله عليه وسلم - بفتح القسطنطينية " عام 1453م .

 

وكان يُنظر لسليم الأول على أنه رجل تلك المرحلة الحرجة ، والأمل المرتجى في إعادة الهيبة للدولة العثمانية ، وفي دفع حركة الفتوحات إلى الأمام، وجمع كلمة المسلمين، وكان من حسن حظ أهل السنة أن يتولى زعامة الدولة العثمانية - حامية حمى الإسلام ومحط آمال المسلمين في ظل تداعي الدولة المملوكية في مصر ، والند الشيعي العنيد المتمثل بالدولة الصفوية - هذا القائد الحازم ، صاحب العبقرية العسكرية الفذة ، والطامح لتوحيد شمل الأمة الإسلامية ، وإعادة الزخم إلى الخلافة الإسلامية من جديد ، وأيضا غير المتساهل مع الخارجين والمهرطقين ومثيري الفتن والقلاقل ولو كانوا من أقرب المقربين إليه، والمؤهل – بالتالي – لكبح جماح الدولة الصفوية المارقة والتي فرقت كلمة المسلمين وأوهنت أمرهم ، وتمادت في غيها وظلالها فتحالفت مع الغرب الصليبي ضدهم.

 

ولكن وعلى الرغم من شخصيته العسكرية وما أتصف به من بطش وجبروت، فقد كان السلطان سليم الأول يجل العلماء والأدباء ويقدمهم في مجلسه، ويحسن إليهم، وكذلك شجع رعاياه على العلم وطلبه, كما أنه أي السلطان كان عارفا بالفقه والشعر والتاريخ.

 

أولوية الحرب على الصفويين

 

عندما اعتلى السلطان سليم الأول عرش السلطنة العثمانية في أبريل 1512 ، كان أمر الدولة الصفوية في ذلك الوقت قد استفحل ، وبلغت الغاية في الصلف والمشاكسة والعدوانية ، ولهذا أضطر السلطان سليم الأول إلى إحداث تغيير جذري في سياسة الدولة العثمانية الجهادية ، فقد أضطر إلى تجميد الفتوحات في غرب أوروبا- حتى إشعار آخر - والتوجه بكل ما أوتي من قوة نحو الشرق - ولكن ليس فقط لمحاولة القضاء على الدولة الصفوية الشيعية والانتصار للسنة ، وإنما أيضا من أجل إنقاذ المقدسات الإسلامية التي كانت عرضة لتهديد الفرنجة البرتغاليين الذين التفوا حول أفريقيا ووصلوا إلى الهند، وأضحت أساطيلهم المعادية تمخر عباب المحيط الهندي وبحر العرب ومداخل البحر الأحمر وتهاجم سواحل المسلمين في اليمن والخليج ، ويتحفز قراصنتها لمهاجمة مكة والمدينة تحديا واستفزازا لمشاعر المسلمين.

 

 بيد أن التصدي لمؤامرة الدولة الصفوية المجاورة لهم – بعد الفراغ من الإصلاح العسكري وتوطيد الأمور الداخلية - كانت على رأس أولويات السلطان سليم الأول.

 

في بداية الأمر نشط السلطان سليم الأول ورجاله الأمنيين - ولكي يحمي ظهره في الداخل – بتتبع وحصر الشيعة الذين شقوا عصى الطاعة وفارقوا الجماعة وخرجوا على الدولة العثمانية وأيدوا الشاه إسماعيل الصفوي في الأناضول ، ثم قام بفرض الرقابة عليهم قبل أن يقوم بالتنكيل بهم وإعدام أو سجن الكثيرين منهم – واستعمل معهم سياسة صارمة لا هوادة فيها ولا رحمة- وقد أثبتت نجاعتها فيما بعد -

 

وحظيت تحركات السلطان سليم الأول في هذا المضمار ، بدعم وتأييد مختلف القطاعات في الدولة العثمانية ، بما في ذلك شيخ الإسلام ، وعلماء السنة ، والذين أفتوا بجواز قتال الصفويين ، واعتبروا ذلك جهادا مقدسا لغلوهم في البدع وشطحاتهم وشركهم ونواياهم الخبيثة تجاه الإسلام وأهله ولغير ذلك من الأعمال التي تجعلهم خارجين عن الملة وعن الدين . وعلى أي حال فإن هذه كانت عادة من عادات سلاطين بني عثمان بحيث " أن السلطان كان لا يقدم على الدخول في حرب من الحروب دون أن يستصدر فتوى من شيخ الإسلام ، أن هذه الحرب لا تتعارض مع الدين، وأن لها أسبابا قوية توجب الدخول فيها" لكن الصفويين - في صراعهم مع العثمانين - كان لهم – في المقابل - فتاواهم ودعاياتهم المغرضة ضد العثمانيين والتي تقول بكفرهم وبانتسابهم إلى الروم.

 

على أن السلطان سليم الأول – والحق يقال – في أثناء الزحف تجاه الأراضي الإيرانية - بعث برسالة أخيرة للشاه إسماعيل الصفوي محاولا من خلالها استتابته وإرجاعه إلى طريق الهدى والحق ، ولكنها لم تجد آذانا صاغية لدى الشاه، والذي كان من عادته المراوغة والتلكؤ والتهرب من إعطاء جواب حاسم.

 

معركة جالديران الحاسمة

 

وهكذا وخلال فترة قصيرة تمكن السلطان سليم الأول من إنجاز الإصلاح العسكري ، والتخلص من المنافسة الأسرية، وقمع تحركات الشيعة الموالين للصفويين داخل البلاد ، جمع جيشا ضخما قوامه حسب التقديرات المعتدلة [100 ألف مقاتل] ، وكان الجيش العثماني جيد التسليح والتجهيز، وكان العثمانيون يمتلكون أفضل مدفعية في العالم آنذاك فقد استخدمت جيوش سليم الأول أحدث المدافع النحاسية المركبة على عجلات يجر الواحد منها زوج من الثيران وكان هذا هو الفارق الرئيسي بين الجيشين المتعادلين تقريبا من حيث أعداد الجنود . وانضمت بعض القبائل الكوردية السنية إلى العثمانيين كما أنضم بعد عرب الشيعة العراقيين بدورهم إلى الشاه إسماعيل الصفوي وعلى رأسهم " كمونة" والي بغداد للصفووين.- وهذا يدل على أن الشيعة ملة واحدة وأنه لا فرق من حيث نصب العداوة لأهل السنة بين الشيعة العرب والشيعة العجم.

 

وكان الانكشارية – كما هو شأنهم - في طليعة ذلك الجيش . والانكشارية فرقة عسكرية من المشاة مدربة تدريبا عاليا، وعلى قدر كبير من الانضباط والتماسك المعنوي، وتعتبر هذه الفرقة قوام الجيش العثماني وعماده ، وامتاز جنودها بالشجاعة الفائقة، والصبر والضراوة في ميدان القتال، والولاء التام للسلطان العثماني باعتباره إمام المسلمين، لكونهم تربوا تربية إسلامية أساسها حب والجهاد الاستشهاد في سبيل الله والطاعة ونشئوا نشأة عسكرية خالصة ، منذ نعومة أظفارهم.وكانوا العمود الفقري لقوة الدولة العثمانية وهم سر عظمتها وانتصاراتها في فتوحاتها وتوسيع رقعتها في القارات الثلاث وكانوا أكثر أهمية من سلاح الفرسان.

 

ولما علم الشاه إسماعيل الصفوي بزحف العثمانيين - وكان ذلك في المحرم سنة920هـ، الموافق مارس 1514م – لم يبد حماسا للمعركة في بداية الأمر، ومع تقدم الجيوش العثمانية أراد الصفويين خديعتها بالتراجع المخطط حتى إذا أنهك الجيش العثماني انقضوا عليه، وأمر الشاه بحرق المحاصيل وبتخريب الطرق والقرى الواقعة في طريقهم ، وكان الهدف من ذلك تعطيل تقدم الجيش العثماني ، وإنهاك قواه ، وحتى لا يجد جيش العثمانيين من المؤن ما يساعده على التوغل في بلاد فارس ، من جهة ، وكسبا للوقت وتأخير موعد النزال ، إلى أن يحل الشتاء ، حتى يهلك العثمانيون برداً وجوعاً من جهة أخرى ، بيد أن ذلك لم يحل دون تقدم الجيش العثماني ، كما أن جميع خدع الشاه إسماعيل الصفوي قد منيت بالفشل الذريع ولم تنطل أي منها على السلطان سليم الأول الداهية – كما انطلت خديعته السابقة على شيباني زعيم قبائل الأوبك السنية والتي أوقعت به وبجيشه خسارة فادحة في مرو على أيدي الصفويين في سنة 916هـ - 1510م - فكان أن واصل السلطان سليم الأول استفزازهم والضغط عليهم - مستغلا نقاط ضعفهم - حتى أجبرهم على الخروج للقائه ، إلى ميدان المعركة والذي كان قد اختاره في صحراء "جالديران" في شرقي "تبريز". وكان جيش الإيرانيين مؤلفاً جميعه من الخيالة ومنهم فرق تلبس الزرد وفرق من طوائف الفداوية المشهورين وكان بمعية الشاه كثير من الأمراء والأعيان والمشايخ وغيرهم ولم يكن بجيشهم أسلحة نارية

 

والتقى الجمعان في يوم 2 رجب 920هـ/ 23 من أغسطس 1514 م ، فانقض سليم الأول بجيوشه كالصاعقة على جيوش الصفويين فمزقها شر ممزق، وقتل منها مقتلة عظيمة ، وجرح الشاه إسماعيل فسقط عن جواده وكاد يقع في قبضة العثمانيين لولا مبادرة غلمانه لإنقاذه ، ثم فر ناجيا بجلده إلى أذربيجان، ووقعت خيمته وحرمه وخزائن أمواله في قبضة العثمانيين، ووقع عدد كبير من قواده في الأسر، ودخل السلطان سليم(تبريز) متوجا بالنصروالظفر وانتصر العثمانيون نصرا باهرا– وذلك بفضل مدفعيتهم المتفوقة ودقة تنظيم جيشهم، وبسالة جنودهم

 

نتائج معركة جالديران

 

نجح العثمانيون في تكسير أنياب الغول الصفوي لأجل مسمى، ورد محاولة الصفويين للتوسع والتمدد على حساب الدولة العثمانية، والبلاد الإسلامية السنية، وفي محاصرة التمدد الصفوي في حدوده الحالية، وأزاحوا الصفويين عن المنافسة في الشرق الأوسط والعالم الإسلامي، وإن لم يتمكنوا من القضاء عليها حيث ظل كالورم الخبيث في المنطقة بسبب عدم استثمار الانكشارية للنصر في جالديران ونكوصهم عن إكمال المهمة. ويُشار إلى أن هذه المعركة غيرت وجه التاريخ في منطقة الشرق الأوسط، وكانت بداية مرحلة جديدة ، وقد استقبلت أخبار انتصار سليم الأول في مرج تشالديران في عام 1514 بمظاهر الابتهاج في أوساط جميع الطوائف باستثناء الشيعة، والذين اغتموا لذلك أيما غم، وكان الأكراد أول من انتفض عام 1514 وأعلنوا انضمامهم إلى السلطان العثماني.

 

وقد استطاع السلطان "سليم الأول" بقضائه على جيش الصفويين في تلك المعركة أن يحقق لدولته الأمان من عدو ظل يشكل خطرًا حقيقيًّا عليها لفترة طويلة من الزمان لكن جبهة الصـراعات المفتوحة ظلت في العراق.

 

ولقد أسفرت هذه المعركة عن ضم شمالي العراق وديـار بكر إلى الدولة العثمانية، وشيوع وسيطرة المذهب السني في آسيا الصغرى وانحصار المذهب الشيعي في إيران وحدها. وقد كشفت هذه المعركة عن وجود علاقة وثيقة وتنسيق كامل بين الصفويين والبرتغاليين ألد أعداء الإسلام الذين تحركوا مستغلين انشغال العثمانيين بقتال الصفويين وأحكموا سيطرتهم على كافة الطرق القديمة بين المشرق والمغرب.

 

وأما بالنسبة للشاه إسماعيل الصفوي فهو رغم هزيمته الساحقة، وإبادة معظم جيشه، فهو لم يرتدع، ولم يتراجع عن غيه ، ومن هنا فقد استمر الصراع بين السنة في الدولة العثمانية، والشيعة في إيران بعد معركة جالديران، بل إن العداء قد أزداد حدة، وازداد الصراع ضراوة. وشغل الشاه إسماعيل الصفوي نفسه بالتفكير في طريقة الانتقام من غريمه سليم الأول، واتشح بالسواد وكتب على أعلامه السوداء كلمة "القصاص" وزاد حقده على أهل السنة ، وتنكيله بهم لتعاون بعضهم مع العثمانيين، وعند ما استعاد تبريز عاصمته ، قام أتباعه بارتكاب مجزرة جماعية اقتلعت أهل السنة منها تماما. ودفعت الشاه هزيمته القاسية وتصميمه على الانتقام إلى الحرص الشديد على توثيق عرى تحالفه مع البرتغاليين - أشد القوى الصليبية خطراً على العالم الإسلامي حينذاك. وبموجب اتفاقية 1515م بين الشاه إسماعيل الصفوي والبرتغاليين، تمكن ديالبوكركي مقابل تحالف عسكري ضد العثمانيين، من الحصول على اعتراف الصفويين بحق السيطرة البرتغالية على هرمز . وتنازل الصفويون للبرتغاليين عن حق تقاضي الرسوم الجمركية في مرافئ شرق شبه الجزيرة العربية وأعطوا موافقتهم على نشاط البرتغاليين في الخليج الفارسي . وقد أدى ذلك إلى تقوية التسلط البرتغالي على الخليج ، وزيادة خطرهم على مقدرات الأمة ومقدساتها.

 

بيد أن الشاة إسماعيل الصفوي ما لبث أن مات بحسرته في رجب 930هـ- مايو 1524م، دون أن يحقق أيا من مشاريعه وحل محله ابنه طهماسب، وكان سليم الأول قد مات قبله بسنوات دون أن يحقق أمنيته في القضاء على الدولة الصفوية.

 

القانوني ومحاولة القضاء على الصفويين

 

تولى دولة الخلافة العثمانية بعد سليم الأول ابنه السلطان سليمان القانوني وفي عهده وصلت الدولة العثمانية إلى قمة قوتها، وكان لزاما على هذا السلطان أن يتكفل بهمة القضاء على الصفويين.

 

بيد أن السلطان سليمان القانوني ظل لأكثر من بضع عشرة عاما منشغلا بالحرب في أوروبا أي في المجر وألمانيا حيث كانت تتقرر حدود دار الإسلام في نظر الباب العالي . ولم يستطيع التحرك بحرية في الشرق إلا بعد عقد اتفاق سلام مع آل هابسبورج حكام النمسا عام 1533

 

وقام السلطان سليمان القانوني بعد ذلك ، بتوجيه ثقل قواته لسحق الدولة الصفـوية وتدميرها، ولوضع حد نهائي للاضطراب في أقاليم فارس ( إيران )، وتولى هذا السلطان قيادة الجيوش العثمانية بنفسه في ثلاث حملات كبرى، وجهها ضد الدولة الصفوية في إيران، بدءا من سنة (941 هـ= 1534م)، وهي الحملة الأولى التي احتفل المسلمون فيها بتحرير بغداد من سيطرة الصفويين، وعودة السنة لمركزهم القيادي فيها ، وبالتالي ضم العراق إلى كنف الدولة العثمانية، وطرد الصفويين منها بعد أن جثموا فيها لأكثر من عشرين عاما، ودون أن يصاحب ذلك أي اضطهاد للشيعة، فقد ظلوا محتفظين بحريتهم الكاملة في العبادة والشئون الذاتية لطائفتهم وزار السلطان سليمان القانوني قبر موسى الكاظم، وأمر بانجاز بناء الضريح الذي بوشر في عهد الشاه إسماعيل، ثم قام بعد ذلك بزيارة كربلاء والنجف، وأوقفت للأماكن المقدسة الشيعية، على غرار السنية، أملاك كثيرة .

 

وفي الحملة الثانية سنة (955هـ= 1548م) تعرض الصفويون لهزائم جديدة، وأُضيف إلى أملاك الدولة العثمانية "تبريز" عاصمة الصفويين، وقلعتا: وان وأريوان.وأما الحملة الثالثة فقد كانت سنة (962هـ = 1555م)، وأجبرت الشاه "طهماسب" على الرضوخ للصلح، وأحقية العثمانيين في كل من أريوان وتبريز وشرق الأناضول. فقد تخلى طهماسب عن الأرض على أمل الاحتفاظ بالجيش والدولة. وقد شكلت تلك الحملات العسكرية الضخمة، والحروب المتواصلة، ضد الدولة الصفوية، استنزافا خطيرا وكبيرا لجهود الدولة العثمانية ومواردها، وقد جاءت على حساب فتوحاتها وحروبها على الساحة الأوروبية. كما أنها حالت دون التدخل لإنقاذ مسلمي الأندلس الذين تعرضوا لحملات الإبادة والتنصير القسري، وتغيير الهوية ، على يد الأسبان الكاثوليك ، في أعقاب سقوط غرناطة عام 1492. وكان السبب الأساسي لتلك الحملات هو رفض ( طهماسب ) الخضوع لحكم السلطان العثماني – سليمان – معلنا النعرة الطائفية ( الشيعية ) على نحو ما جرت عليه العادة كلما أنس الفرس من أنفسهم القوة للتذرع بستار التشيع من أجل الخروج عن الطاعة والجماعة. ولم تكن هذه الذريعة معزولة عن التحريض الخارجي. فكان لزاما على السلطان سليمان تجريد السيف في وجه هؤلاء ( الخوراج ) ومحاربتهم بدون هوادة.

 

ومع ذلك إلا أن تلك الحملات العسكرية والاجتياحات المتكررة لإيران وأذربيجان وأرمينيا ولتبريز عاصمة الدولة الصفوية، لم تفلح في القضاء على الصفويين، نظرا لاسترتيجية: التقهقر والهروب من المواجهة الحاسمة، ولسياسة الأرض المحروقة اللتان انتهجهما الصفويون بعد هزيمتهم القاسية في " جالديران"، فقد كانوا يهربون من أمام الجيش العثماني في كل مرة ، ويدمرون كل شيء في طريقه، ويلجئون إلى مناطق وعرة وغزيرة الأمطار وشديدة البرودة، لا تستطيع المدافع العثمانية الضخمة وعربات النقل المرور إليها هذا من ناحية.

 

ومن ناحية ثانية لعدم مواكبة تلك الحملات العسكرية اهتمام من قبل العثمانيين بالجانب الدعوي الفكري لمكافحة الفكر الاثنى عشري الذي عمل الصفويون على ترسيخه في العقول بطرق منهجية منظمة- فاستقدموا مئات الدعاة الشيعة من لبنان والعراق والبحرين لنشر المذهب الشيعي وفرضه على السكان بل وإخلاء المراكز الإيرانية من السنة.

 

 والحقيقة أن هذا المسئولية تلقى على عاتق علماء الأمة، والذين كان يتوجب عليهم تذكير بني عثمان بذلك، لغلبة الطابع العسكري عليهم وعلى دولتهم عموما. 

 

ومن جهة ثالثة لتعدد ميادين الجهاد في عهد سليمان القانوني، فهو لم يكن متفرغا تماما لمحاربة الدولة الصفوية – إذ في عهده تم إحياء الفتوحات من جديد في أوروبا فاستولى على بلجراد سنة (927 هـ= 1521م)، وحاصر فيينا سنة (935 هـ= 1529م) لكنه لم يفلح في فتحها، وأعاد الكَرّة مرة أخرى، ولم يكن نصيبها أفضل من الأولى، وضم إلى دولته أجزاء من المجر بما فيها عاصمتها "بودا"، وجعلها ولاية عثمانية.

 

كما كان يتعين على العثمانيين مواجهة نفوذ البرتغاليين في المحيط الهندي والخليج العربي، وحملاتهم الصليبية على المسلمين وتحرشهم بالأراضي المقدسة " وقد نظم العثمانيون ثلاث حملات ضد البرتغاليين في القرن 16 في المحيط الهندي " وأدت هذه السياسية إلى الحد من نفوذ البرتغاليين في المياه الإسلامية.

 

وإلى جانب ذلك كانت السفن العثمانية تخوض حروبا ضارية في شمال إفريقيا، ضد الحملات الصليبية على موانئ تونس والجزائر وليبيا ممثلة بالأساطيل الأسبانية والإيطالية وإنقاذ آلاف من المسلمين الهاربين من إسبانيا، ودخلت ليبيا والقسم الأعظم من تونس، تحت نفوذ الدولة العثمانية.

 

وقد ظلت الدولة الصفوية بجميع تلويناتها- على مدى أربعمائة عام باستثناء فترات قليلة من الهدوء– تحارب دولة الخلافة العثمانية السنية – العدو اللدود للغرب الصليبي وحامية حمى الحرمين الشريفين.وأظهرت عنادا وحرصا كبيرا وحماسة شديدة ، في مناوئتها، والحرب عليها ووقفت ضدها باستماتة منقطعة النظير. والعجيب الغريب أن ذلك العناد والإصرار وتلك الحماسة والاستماتة قد اختفت لدى شيعة بلاد فارس عند تعرض إيران للغزو الروسي، والغزو الانجليزي، في القرن التاسع عشر، وكأن حماستهم فقط هي ضد أهل السنة. 


في الجمعة 06 يونيو-حزيران 2008 08:44:34 م

تجد هذا المقال في مأرب برس | موقع الأخبار الأول
https://mirror1.marebpress.net
عنوان الرابط لهذا المقال هو:
https://mirror1.marebpress.net/articles.php?id=3820