عندما يتصالح الكبار يضيع الصغار
دكتور/فيصل القاسم
دكتور/فيصل القاسم


كان من المفترض أن يتمتع قادة الفصائل اللبنانية المنضوية تحت لواء "جماعة الرابع عشر من آذار" بحس سياسي واستراتيجي أقوى وأسلم من ذلك الذي أظهروه على مدى الأعوام الثلاثة الماضية. فقد ظن بعضهم أنه سيد العالم وملك زمانه، خاصة بعد أن تبنتهم بعض القوى العظمى لغاية في نفس يعقوب، وبعد أن أفردت لهم الفضائيات العربية والدولية حيزاً كبيراً كي يجأروا، ويصرخوا، ويهددوا، ويشتموا، ويسبوا، ويسيئوا لكل من لم يتفق مع توجهاتهم. لقد كان بعض زعماء الطوائف اللبنانية التي لا يزيد عدد أتباعها على عدد سكان قرية عربية بائسة، يظهرون على شاشات التلفزيون بطريقة يخجل من الظهور بها الاسكندر الأكبر، أو تيمورلنك، أو هانيبعل، لما كانت تتسم به من عنجهية وعنتريات و"مراجل" وخطابات نارية مزلزلة.
ربما سحرتهم عدسات الكاميرات، وجعلتهم ينسون حجمهم الحقيقي، فراحوا يصرخون "كالهر يحكي انتفاخاً صولة الأسد". لكن السياسي النبيه الذي يعرف من أين تؤكل الكتف؟، ولا يرمي تصريحاته وبياناته السياسية خبط عشواء، لم يكن ليتصرف بتلك الطريقة الرعناء والسخيفة، التي بدأت تنكشف عوراتها وهزالها الآن بعد أن تقارب الكبار.
لقد كان بعض أقطاب "الرابع عشر من آذار" يعطون الانطباع عندما يظهرون على شاشات الفضائيات، ويبدؤون بإطلاق الصواريخ البالستية (الكلامية) باتجاه سوريا، بأنهم أقوى عناترة على وجه المعمورة، وبأنهم قادرون على إزالة سوريا، حكومة وشعباً، عن وجه البسيطة بكبسة زر. فقد كانوا يتحدثون بنبرة بطولية لم يتحدث بها رئيس الوزراء البريطاني الراحل وينستون تشيرتشل بعد انتصاره التاريخي في الحرب العالمية الثانية. وبالرغم من أن كل من يفقه ألف باء السياسة كان يعلم أنهم كانوا أقرب إلى التهريج منه إلى السياسة، إلا أن بعض أتباعهم ومريديهم في الشارع العربي، كانوا، أثناء تلك الخطابات الصاروخية، يترحمون في سرهم على سوريا، كونها، حسب التهديدات "الآذارية"، قد أصبحت، قاب قوسين أو أدنى، في ذمة التاريخ. كيف لا وقد بشروهم بأن الأرض قد زلزلزت زلزالها تحت أقدام النظام السوري، وهي على وشك أن تخرج أثقالها لتصبح سوريا في خبر كان؟.
لكن الآن وبعد أن ذاب الثلج وبان المرج، لم يعد أمام الذين صفقوا، وهللوا لخطابات هذا "الآذاري" أو ذاك «النووية» إلا أن يخلدوا للضحك والتنكيت، خاصة بعد أن انقلب السحر على الساحر. وكي نكون أكثر دقة في التعبير، بعد أن تبين أن الأمر لم يكن لا سحراً ولا بطيخاً. لقد كان مجرد مراهقة سياسية تدعو إلى الرثاء - إذا أراد المرء أن يتعاطف معهم - وإلى الاستهزاء إذا أراد المرء أن يكون قاسياً معهم.
لقد ظن بعض مخاتير الجماعة "الآذارية" أن فرنسا وأمريكا في جيبهم الصغير، وأنهم قادرون على تحريك القوى العظمى وتسييرها في الوجهة التي يريدونها، واستغلالها في ضرب سوريا، وإهانتها وتمريغ كرامتها بالتراب. وفعلاً فقد كان البعض يأخذ انطباعاً عندما يستمع إلى خطاباتهم بأنهم "مدعومون" حتى النخاع من "الأم الحنون" فرنسا، وهم يزبدون ويرغون، ويتوعدون السوريين بالويل والثبور، وعظائم الأمور. لقد قادتهم سذاجتهم السياسية وعماهم الاستراتيجي إلى الظن بأن باريس مجرد عصاً غليظة، يستطيعون أن يضربوا بها سوريا حتى تموت من الوجع، وتتمدد أمامهم منهكة متوسلة. وقد كان ذلك شعور أحد الغلمان الذي حاول أن يرتدي ثوباً سياسياً وقتالياً لم يجرؤ على ارتدائه من قبل قيصر روما. غير أن ذلك الغلام أبا إلا أن يطل علينا من على الشاشات قيصراًً غضنفراً لا يُشق له غبار وهو يتعنتر على الشعب السوري.
لكن الحلم "الآذاري" لم يعمر طويلاً، فهو، كبقية الأحلام يتبخر بسرعة، هذا إذا لم يكن أصلاً مجرد أضغاث أحلام. فها هي فرنسا التي كانوا "يتمرجلون" بها على سوريا وقد بدأت ترسل المبعوث تلو الآخر إلى دمشق، ناهيك عن أن الرئيس الفرنسي الذي كانوا يستظلون بظله، قد دعا الرئيس السوري إلى الاحتفال بعيد الاستقلال الفرنسي في باريس، وهو أبو الأعياد وأعلاها مقاماً في بلاد الغال. طبعاً لقد شعر كبيرهم الذي علمهم الردح بخيبة أمل كبرى، فأطلق العنان للسانه "البطل" كي يؤنب فرنسا على فعلتها الشنعاء، وكي يردها إلى جادة الصواب، مع العلم أنه كان أجدر به أن يعيد نفسه إلى تلك الجادة. فقد كان من المفترض من سياسي تربى في بيت علامة كبير أن يكون أكثر حنكة ودهاء وبعد نظر، وأن يعلم أنه عندما يتصالح الكبار فإن الصغار يضيعون بين الأرجل، هذا إذا لم تدهسهم.
لا أدري لماذا كان يعتقد بعض قادة الرابع عشر من آذار أنهم أهم لفرنسا من سوريا؟ أليس من السخف والسذاجة أن يعتقدوا أن باريس ستضحي بعلاقاتها مع أحد أهم الأقطاب العربية من أجل عيون ثلة من المغامرين؟
عندما يكبر زغاليل السياسة في السودان ولبنان والعراق وأفغانستان وفلسطين وأي مكان آخر من هذا العالم، سيكتشفون أنه من الصعب جداً اللعب مع الكبار ومقارعتهم ومنازلتهم وهزيمتهم. وكان أجدر بهم أن يلعبوا وحدهم، أو مع أقرانهم، لأن الكبار يلعبون عادة بعضهم مع البعض، وإذا لعبوا مع الصغار أحياناً فيكون لمجرد مآرب مرحلية، أو يستخدمونهم كأدوات. فلا ننس أن الكبار تاجروا من قبل بشاه إيران وبـ"ماركوس" الفيلبين، وهما أكبر من ملوك الطوائف في لبنان وأهم بمئات المرات. وبرغم ذلك كله، يصيح كاتب ساخر، "هناك بعض الأولاد الصغار في السياسة والهواة الاغرار من الطائشين، والحمقى، في طول العالم العربي وعرضه، يحاولون ملاعبة الكبار هنا وهناك، والتحرش بهم، وإثارتهم، والدعوة الى منازلتهم، بناء على حسابات ساذجة، وتخيلات مريضة، وأوهام افتراضية، وغير واقعية، وهم في أحسن الاحوال، لا يجيدون أي نوع من الألعاب حتى لعبة «الباسرة» السياسية، فما بالك بالبوكر وحساباته الدقيقة والمعقدة، ويصرون أن يبقوا في الحلبة جنباً الى جنب مع الأقوياء الذين لن يترددوا في أن يوسعوهم ضرباً في مرحلة ما".
لا أريد من الكلام أعلاه الشماتة بالصغار والانتصار للكبار أبداً، بل أريد أن أذكــّر الأفراد الذين انتفخوا أكثر من اللازم، والطوائف السياسية المتكبرة، والمعارضين غير الراشدين، بأن يعرفوا قدر أنفسهم كي لا يندهسوا تحت أقدام الكبار عندما يتصالحون، وكي لا يُضطروا إلى ترك حلبة النزال صاغرين ومنهزمين ومكسورين.

* مدزنه القاسم

 


في الإثنين 23 يونيو-حزيران 2008 05:12:18 م

تجد هذا المقال في مأرب برس | موقع الأخبار الأول
https://mirror1.marebpress.net
عنوان الرابط لهذا المقال هو:
https://mirror1.marebpress.net/articles.php?id=3871