اليمن ما بعد صالح
نبيل البكيري
نبيل البكيري

ا

استولت جدلية قوة صالح وضعفه أمام جماعة الحوثي؛ على المشهد السياسي والإعلامي اليمني والإقليمي، منذ ما بعد سقوط العاصمة صنعاء بيد مليشيات الحوثي، في 21 أيلول/ سبتمبر 2014م، وهو ما فصّلت فيه كثيرا من خلال كتاباتي ومقابلاتي، والتي كان أبرزها مقال: "الحوثي وصالح المتن والهامش"، والذي كتبته منذ عام ونصف من الآن.

لكن الذين أسأوا التقدير في ذلك؛ وقعوا في تناقضات كبيرة وكثيرة بخصوص قوة صالح أمام قوة جماعة الحوثي طوال السنوات الثلاث الماضية، وهو ما جعل البعض يدور في حلقة مفرغة من القول والفعل معا، فيما الأمور كانت تمضي نحو نهايتها المتوقعة التي شهدناها بمقتل صالح في 4 كانون الأول/ ديسمبر الحالي، وبتلك الطريقة والرواية المفبركة التي قيلت حول مقتله.
فلم يكن مقتل صالح يمثل حدثا مهما وذا قيمة؛ سوى للذين يجهلون تماما تاريخ اليمن وتعقيداته وتحولاته، ويجهلون تماما جذور وأسباب الصراع الراهن، بكل أبعاده ومفاعليه، مما جعلهم عرضة للتخمينات والتكهنات، وبدوا في غاية السطحية والارتباك في قراءة الأحداث وفهمها فهما دقيقا، مما جعلهم يبدون أكثر انفعالا وفاقدين لرؤية للأحداث وسيرها.
فمن الحقائق التي غفلها الجميع؛ أن صالح وخصومه فقدوا كل شيء بعد سقوط العاصمة صنعاء، في ليلة 21 أيلول/ سبتمبر 2014م، ذلك الحدث التراجيدي والمفصلي في تاريخ اليمن المعاصر، والمتمثل بعودة الإمامة إلى واجهة المشهد السياسي اليمني بعد نصف قرن من القضاء عليها وقيام نظام حكم جمهوري؛ على أنقاض أحط نظام كهنوتي استبدادي في المنطقة العربية كلها.

فالذين أغفلوا مثل هذه الحقيقة التاريخية، أو تجاهلوها، وبنوا رؤيتهم للصراع من عشية ثورة 11 فبراير وما بعدها، فقد بنوا رؤية مبتورة وقاصرة في فهم وتفسير ما جرى ويجري، ربما حتى هذه اللحظة، بالنظر إلى التعاطي السطحي مع تطورات الأحداث وتفسيرها بطريقة تنم عن عدم وجود وعي بمركزية الصراع الإمامي اليمني على مدى قرون، وتشكلات هذا الصراع وتحولاته عبر مختلف المراحل، حتى وصل لهذه النسخة الأقرب إلى نسخة ولاية الفقية الإيرانية المعاصرة، وإن كان نظام الإمامة أقدم منها وأخطر؛ لأسباب عديدة لا مجال لذكرها هنا.

 

بالعودة إلى صالح ومقتله، وتداعيات ذلك، فأعتقد أن مقتله كان تحصيل حاصل، في وضع كان قد وصل فيه إلى أشبه بجثة هامدة، يحتفظ بها الحوثيون حتى يتسنى لهم تصفية نفوذه في مؤسسات الدولة العسكرية والأمنية، وهو ما تم لهم خلال ثلاث سنوات من إعادة تشييع المجتمع سياسيا، وتجنيده مذهبيا وسلاليا لصالح حركتهم الطائفية.

وهذا ما قام به من يفترض أنهم شركاء صالح في الانقلاب، فيما لم يكونوا في حقيقة الأمر سوى مختطفيه وسجانيه الذين خدعوه في لحظة حقد وغضب؛ قرر فيها الارتماء لحضنهم، وهو أدرى بأنهم أشد أعدائه الذين خاض ضدهم حروبا ستا، وينظرون له بازدراء كبير، باعتباره ابن فلاح من سنحان، ولا ينتمي لسلالتهم المقدسة، بحسب أدبياتهم وتصوراتهم.

لكن الرجل ظل حتى لحظته الأخيرة؛ متوهما بأنه ممسك بخيوط اللعبة جيدا، ولا ينقصه سوى غطاء إقليمي فقط، مما جعله يناور كثيرا في البحث عن ذلك الغطاء الذي كان يعتقد أنه يكمن بفتح نافذة مع المملكة السعودية والإمارات؛ اللتين تشكلان تحالفا عربيا لإسقاط انقلابه مع جماعة الحوثي بصنعاء.

أما على مستوى القوة والإمكانيات، فلم يكن لدى صالح شيء بعد سيطرة جماعة الحوثي على كل شيء بصنعاء، وتمكنها من معسكرات الجيش والأمن وأجهزت الدولة المختلفة. فقد سعت هذه المليشيات بقوة لإعادة تشكيل كل هذه المؤسسات بأفرادها وكوادرها، وتسريح كل ما لا يدين لها بالولاء، فيما صالح ظل بمثابة صورة مرفوعة أمام أنصاره وأتباعه؛ الذين سهلوا لجماعة الحوثي الانتشار والتمدد في مختلف المحافظات والمديريات خارج مناطق نفوذهم المذهبي.

وكرس الحوثيون، بدهاء، فكرة أنهم شركاء لصالح في الانقلاب، وسعوا لتشكيل ما يسسمى "المجلس السياسي الأعلى"؛ الذي من خلاله عززوا من قبضتهم على كل مؤسسات الدولة في المناطق التي تحت سيطرتهم. وبهذا لم تمر ثلاث سنوات إلا وكل شيء صار تابعا لهم، عدا عن الدورات العقائدية التي تقيمها هذه الجماعة في صفوف أفراد الجيش والآمن، والتي تبث فيهم عقيدة قتالية مذهبية طائفية؛ تدين بالولاء المطلق لزعيم جماعة الحوثي عبد الملك الحوثي دون سواه.

لم يكن يرغب الحوثيون أن تنتهي حياة صالح على يديهم بهذه السرعة، وهم في ظرف بالغ التعقيد والصعوبة كهذا، ولكن تحركات صالح المتسارعة لم تدع لهم مجالا للتفكير، وخافوا أن يفلت صالح من أيديهم، كما سبقه الرئيس هادي، وبذلك سارعوا للتخلص منه بتلك الطريقة، وإن كانوا يفضلون أن يظل تحت أعينهم لفترة أطول؛ حتى تستبين أين ستذهب بهم الأمور ورمال السياسة المتحركة في اليمن.

لقد أدى تخلص الحوثيين من صالح إلى نقطتين هامتين، ليستا في صالح الحوثيين في هذه المرحلة، الأولى هي انكشاف الغطاء عنهم، وهو الذي كان يمثله لهم صالح خارج مناطق نفوذهم، مما يعني أنهم اليوم أكثر انكشافا أمام أنصار صالح الذين يرون أن الحوثيين غدروا بزعيمهم وقتلوه.. والثانية؛ أن مقتل صالح على أيديهم زاد من توسيع الشرخ بين طرفي الزيدية الهاشمية والقبلية التي ينتمي إليها صالح، وأن قطاعا كبيرا من القبائل مهما خضع؛ لكنه في أقرب محطة يمكنه الانقلاب على جماعة الحوثي، للثأر لصالح ولقبائله التي أهانها الحوثي وأذلها.

أما فيما يتعلق بتركة صالح ومصيرها، فلم تعد تركة صالح بتلك الضخامة والأهمية. وهنا أقصد بالتركة السياسية والعسكرية، وهما المؤتمر الشعبي العام (حزب صالح)، وقوات ما كان يسمى بالحرس الجمهوري، وهما كيانان كان يحسب لهم الناس والحوثيون ألف حساب في المعادلة السياسية اليمنية، لكن الأحداث الأخيرة التي أودت بصالح؛ أعتقد أنها أهالت التراب على كثير من هذه الحسابات، خاصة وأن المؤتمر الحقيقي قد انقسم مبكرا مع ثورة 11 شباط/ فبراير، والانقسام الكبير والأخير كان مع انقلاب 21 أيلول/ سبتمبر 2014م، وما تبقى من المؤتمر لم يعد له أي قيمة، خاصة إذا ما عرفنا أن المؤتمر ليس بحزب إيديولوجي عقائدي، بقدر ما هو تجمع سياسي لأصحاب النفوذ السياسي والمالي والمشيخي في المجتمع والدولة؛ طوال فترة حكم صالح، وهؤلاء كانوا عمود حكمه ونظامه.

وفميا يتعلق بالحرس الجمهوري، والذي كان ينظر له على أنه قوة النخبة العسكرية اليمنية، فقد أظهرت الأحداث الأخيرة أنه لم يعد هناك شيء أسمه الحرس الجمهوري، وأن ما قام به الحوثي في إعادة تشكيل ذهنية وعقيدة هذه القوة؛ قد أسهم كثيرا في تحويلها فعلا إلى قوة مذهبية طائفية، بفعل العقيدة القتالية التي كانت عليها هذه القوى التي تكاد ينحصر المنتمون إليها إلى منطقة جغرافية بعينها، فضلا عن الاختراق المبكر لها من قبل ضباط الهاشمية السياسية الذين يدينون بالولاء لجماعة الحوثي.

أما في هذه اللحظة، فأعتقد أن الأمر غدا أكثر وضوحا بأن صالح وما يقال عن تركته الثقيلة؛ لم يعد سوى شيء من الماضي الذي مضى ولن يعود. فقد حددت نهايته بتلك الطريقة؛ نهاية حتى لتركته السياسية وتحالفاته وعساكرة وقواته، وهو الذي حوصر في آخر أيامه في منزله، وقاتل فيه حتى النهاية، وبطريقة دراماتيكية لم تكن في حسابان كثير من المراقبين؛ الذين كانوا يأملون صمود صالح لفترة أطول.

لقد مثلت نهاية صالح نهاية لحقبته بما لها وما عليها، وبداية لحقبة جديدة من حقب اليمنيين شديدة التعقيد والخطورة؛ بالنظر إلى أن اليمنيين اليوم أمام لحظة فارقة في تاريخهم، حيث عادت الإمامة مجددا هذه المرة، وهم أمامها وجها لوجه بعد رحيل صالح الذي منحها غطاء سياسيا طوال ثلاث سنوات مضت، حتى تخلصت منه، ورفعت عن نفسها الغطاء السياسي؛ لتغدو عارية أمام اليمنيين، كعدو تاريخي ووجودي، وعليهم التوحد صفا واحدا اليوم للخلاص من غول الإمامة وشبحها الجاثم على صدر عاصمتهم التي حولها الانقلابيون إلى سجن كبير.

إن التعويل على تركة صالح السياسية والعسكرية ليس سوى وهم كبير، وقع به التحالف العربي بقصد أو بدون قصد، وكانت نهاية صالح بتلك الطريقة والسرعة؛ دليلا كافيا عن عدم فهم التحالف العربي لطبيعة المجتمع اليمني وتعقيداته وتحولاته التي لا يمكن السيطرة عليه إلا من خلال دعم كيانه الشرعي الوحيد والمعترف به دوليا، كبوابة لاستعادة اليمن مستقرا موحدا بعيدا عن النفوذ الإيراني الذي قارب على تحويل اليمن لمنصة انطلاق لنفوذه نحو دول الخليج وإماراته الغنية والضعيفة؛ في وجه مشروع يحارب بكل الأوراق والوسائل والأدوات، حتى أدوات خصمه وأوراقه.

  
في الإثنين 11 ديسمبر-كانون الأول 2017 03:20:44 م

تجد هذا المقال في مأرب برس | موقع الأخبار الأول
https://mirror1.marebpress.net
عنوان الرابط لهذا المقال هو:
https://mirror1.marebpress.net/articles.php?id=43293