فنزويلا… عندما غابت الفضائيات!
سليم عزوز
سليم عزوز
 

وكان ما تبدى للناظرين بالنظر للحالة الفنزويلية أن ثلاث أو أربع دول هي التي تستأثر بالاهتمام الفضائي! وكما قال الشاعر، عندما كان شاعراً: «هذا الزحام لا أحد»، فقد شعرت بهذا، وأنا أنظر إلى شاشة عرض القنوات التلفزيونية، ومع أنها تحتوي على عدد لا بأس به من القنوات الإخبارية، بما فيها قناة «النيل للأخبار»، فقد شعرت بأن هذا الزحام لا أحد، والأخبار عن نجاح الانقلاب العسكري في فنزويلا، تتوالى، فلا توجد فضائية واحدة مشغولة بما يجري هناك، بما في ذلك قناة «الحرة»، وإن تفوقت «الجزيرة» و»الجزيرة مباشر»، في نشر «العاجل» من الأخبار!

الشاعر القائل هذا «الزحام لا أحد»، هو أحمد عبد المعطي حجازي، ومن عادة الشعراء في زماننا هذا أن يبحثوا لأنفسهم عن وظيفة اضافية، فالشعر لا يكفي، وهو منسوب كالمياه الجوفية، سيأتي يوم وينتهي، وقلائل هم شعراء هذا الزمن الذين لم يستعينوا على غدر الزمان بهذه الوظيفة الثانية، التي تتحول بمرور الوقت إلى الأولى، وهي كتابة المقالات، إذا شح العطاء الشعري، أو نفد المخزون، فعلها عبد الرحمن الأبنودي، كما فعلها أحمد فؤاد نجم، فحتى «فاطمة ناعوت»، توقفت عن الإنتاج الشعري تماما، وتحولت إلى مفكرة، وانقطاع الوحي هنا معروف لدينا، والمعروف لا يعرف، وهي حالة فريدة من نوعها، فالوحي لا ينقطع بوفاة أحد لكنه في حالتها انقطع!

الوضع الوظيفي لأحمد عبد المعطي حجازي، كصحافي في الأصل، ساعده على أن يجمع بين الأختين، في سهولة، على عكس غيره من شعراء أخرين لم يكونوا صحافيين في الأساس، وقد سعدت بعض الصحف بتحولهم إلى كتاب يدبجون المقالات، لاستثمار شهرتهم في الشعر، وإذا كان «حجازي» ينتمي لفكرة التنوير، فقد متنوراً حقاً وهو يستمع إلى السيسي في حديث «الفلاتر» الشهير، حيث كان المذكور يتحدث عن أسباب تعثره في الكلام، إذ أن الكلام عنده يمر على «فلاتر»، وكان يجلس بجواره الشاعر «عبد المعطي حجازي»، وقد لمعت عيناه، وهو ينظر للقائل بإعجاب من اكتشف للتو أن النعامة تبيض ولا تلد!

لا بأس فهذا حال كثير من مفكرينا، والفيلسوف وأستاذ الفلسفة «مراد وهبة»، الذي ظل عمره كله يحارب الخرافة، عندما يتحدث عن السيسي هذه الأيام، تشعر أن الرجل انعزل بالفلسفة لأنه لم يأخذ فرصته، ألا وقد جاءت له الفرصة في أواخر العمر، فقد أغلق كتاب الفلسفة، وانطلق ينتج الدجل ويتاجر في الشعوذة، ويعلن في برنامج «90 دقيقة» على قناة «المحور» أن السيسي ظاهرة كوكبية. ولا بأس فأستاذة للأدب الانكليزي لها «شنة ورنة» كتبت مقالاً عنوانه «السيسي مفكراً»!

«عواجل الجزيرة»

لقد شعرت بأن «الزحام لا أحد»، في اللحظة التي بدأت فيه «الجزيرة» تنشر «عواجل» عن إعلان زعيم المعارضة، ورئيس البرلمان في فنزويلا نفسه رئيساً، وفي اللحظة ذاتها كان البيت الأبيض يعلن اعترافه بالرئيس الجديد، ولا شيء غير هذه «العواجل»، قبل أن يصبح الموضوع خبراً في مرتبة متأخرة في نشرة الأخبار، وكانت بقية القنوات الإخبارية خارج الملكوت، فهل يمنع النظام الاشتراكي هناك من افتتاح مكاتب للفضائيات؟ وهل هذا يمنع من استدعاء محللين لتحليل المشهد للمشاهد المتعطش، وهل يوجد محللون في المنطقة مشغولين بهذا المكان البعيد عن عالمنا العربي، ولماذا لا تسد مراكز البحوث العربية وفي القلب منها مركز «محمود إبراهيم» هذا العجز؟!

لقد ثبت في هذه الليلة، أن فنزويلا بعيدة عن العين، والبعيد عن العين دائماً بعيدا عن القلب، وأن ما يشغل الفضائيات الاخبارية هو خبر ثلاث أو أربع دول، تعيد في أحوالهم وتزيد، كل قناة حسب توجهها ومنطلقاتها!

ربما يرى القائمون على أمر الفضائيات الاخبارية عدم مشترك بيننا وبين فنزويلا، لكن حيثما وقعت الانقلابات العسكرية، كان هذا المشترك، وقد اقتنيت كل ما صادفني من كتب موضوعها هذه الانقلابات تاريخا وحاضراً، حتى لا نلدغ من جحر مرتين، وقد كنا بحسن نية وسلامة طوية نظن أن زمن الانقلابات قد ولى، ولأنه يلدغ المرء من مأمنه فقد كان هذا التصور سبباً في الغفلة، التي تسرب منها الشيطان، وقال القيادي في جماعة الإخوان المسلمين الدكتور عصام العريان، فك الله أسره، أن زمن الانقلابات العسكرية قد انتهى من كل العالم ولا وجود له إلا في ذهن الشيخ حازم أبو اسماعيل، الذي نشف ريقه وهو يحذر من انقلاب قد يقع. في وقت كان هناك من يعتقدون أن واشنطن، لن توافق على انقلاب عسكري في مصر، وكأن الاستعمار القديم سيقبل بسهولة فكرة أن يحكم شعب واحدة من مستعمراته نفسه بنفسه عبر صناديق الانتخاب! وإن كان الأمريكيون تشغلهم مسألة الشكل، وقد تعلم منهم العسكر في مصر، بعد أن انتقلت خبرتهم إلى رجالهم من المدنيين، فالكاتب الكبير محمد حسنين هيكل، عندما جاء ليضع عنواناً لقوانين تأميم الصحافة، واستيلاء السلطة الحاكمة على المؤسسات الصحافية المملوكة للأفراد، كان العنوان هو «تنظيم الصحافة»، لكن هذا كان جانبا يختص به هيكل، باعتباره صحافياً، لكن الجوانب الأخرى ظلت فيها الأشياء تسمى بأسمائها

روح القوانين

في الأسبوع الماضي قمت بجولة في «الجريدة الرسمية» للاطلاع على القوانين في بداية حكم ضباط الجيش، للوصول للجذور التاريخية لقرار السيسي بمنع بعض المسؤولين (منهم وزير الدفاع ومدير المخابرات العامة ووزير الداخلية) من السفر إلا بقرار منه، ووجدت كيف أن قوانين صدرت كانت تسمي الأشياء بأسمائها مثل كلمة «الاستيلاء» على ممتلكات هذا أو ذاك مثلاً، ومع أني أقوم بمثل هذه الجولة كثيراً، إلا أنه في هذه المرة خطرت على ذهني فكرة دراسة أكاديمية قاعدتها دراسة «روح القوانين» لمونتسيكو، وفي بعض الترجمات «روح الشرائع»، ويعتبرونه في دراسات العلوم السياسية ينتمي إلى منهج «النظرية السياسية»، لكنها واحدة من أركان الدراسات الأنثربولوجية، وتعلمون أن الأنثروبولوجية هى تخصصي الدقيق، أنا ومذيعة الجزيرة السابقة، «جمانة نمور»، وكما يسأل القراء القدامى لهذه الزاوية لماذا لم تعد تكتب عن «جمانة نمور»، سيرد القراء الجدد مواليد 2013، ومن «جمانة نمور»؟ عرفتم لماذا لم أعد أكتب عنها؟ ثم أين هي؟ وقد انقطعت أخبارها، ولم تطل من أي شاشة أخرى. إنها «لعنة الجزيرة» التي تلاحق كل من غادرها، وإن كانت لم تحل اللعنة بعد بـ «عمرو عبد الحميد» مراسل الجزيرة في موسكو بعد مرحلة (أغلق أنفك وأنت تنطق اسمه ليصبح النطق صحيحاً): أكرم خزام!

ما علينا، فلم يكن هيكل وحده هو من تأثر بالروح الأمريكية، فالرئيس السادات عندما قام بحركة اعتقال لكل القوى السياسية في أواخر عهده، لم يصفها بالسجن أو الاعتقال، ولكن وصفها بـ «قرارات التحفظ».

ولعل الولايات المتحدة الأمريكية وجدت أن صيغة الانقلابات العسكرية، صارت مسكونة بجينات الفشل، فاستدعت التجربة المصرية لتطبقها في فنزويلا، التي كان لانقلاباتها أن تكون درساً حاضرا عندنا في مصر و»العريان» فك الله أسره، يقول بأن زمن الانقلابات العسكرية قد ولى، وقد درست هذه التجربة، منذ اهتمامي بالزعيم السابق «شافيز»، وهو اهتمام جاء بعد تواتر القائلين أنني أشبه له، وقد كتبت مقالاً قلت فيه إنه هو من يشبهني، وفوجئت بأن كلانا من مواليد شهر يوليو/ تموز. تقريبا كل الزعماء ولدوا في هذا الشهر الطيب المبارك، الذي لم ينال من طيب سمعته سوى وقوع انقلابين فيه بمصر الأول في 23 منه في سنة 1952، والثاني في 3 منه سنة 2013!

 

الرعاية الأمريكية

 

لقد رعت الولايات المتحدة الأمريكية انقلاباً على «الرفيق هوجو شافير»، وقام العسكر الخونة بإدخاله السجن، لكن الشعب الفنزويلي تحرك، وأخرجه منه، وأدخل العسكريين المتأمرين فيه!

ولو طالعنا ما قامت به الولايات المتحدة الأمريكية من انقلابات عسكرية في أمريكا اللاتينية، لما تسرب في أذهاننا أنها يمكن أن تقف ضد الانقلاب العسكري في مصر، امتداداً لنظرة قديمة لها، عندما خطب الزعيم الطلابي لحركة الإخوان المسلمين «مصطفى مؤمن»: إلى أمريكا زعيمة العالم الحر». ولما اعتقدنا أن الحداية يمكن أن تلقي كتاكيت!

ما جرى في فنزويلا أكد لواشنطن نفسها أن الإنقلابات العسكرية بشكلها القديم، محكوم عليها بالفشل، فقبل ثلاثة أيام من واقعة زعيم المعارضة ورئيس البرلمان، كان مجموعة من الضباط أعلنوا الاستيلاء على الحكم، لكن تم إلقاء القبض عليهم، فكان التطور الجديد هو في الشكل، شبيهاً بالتجرية المصرية، والتي لم تكن بتخطيط أمريكي بالمناسبة، لكنها تنتمي للفهلوة المصرية المعروفة، فالشعب يخرج في مظاهرات ضد الرئيس المنتخب، ووزير الدفاع يعلن انحياز الجيش إلى الشعب. وفي فنزويلا نصب رئيس البرلمان نفسه رئيساً للبلاد، وبدون حتى موافقة البرلمان نفسه على هذا الأمر، لنكتشف أن البيت الأبيض على الخط، فيعلن اعترافه بالرئيس، وبعد ساعة كانت «الجزيرة مباشر» تنقل خطاباً للرئيس «نيكولاس مادورو» يعلن فيه أنه باق في الحكم، وقد أحاطت الجماهير بالقصر الجمهوري، وكان خطاباً غير مترجم للعربية، لكن الصورة كان واضحة للمشاهد!

وقد غابت الفضائيات الأخرى عن المشهد، ومن «الحرة» إلى «روسيا اليوم» إلى «بي بي سي»، بالتأكيد فإن «النيل للأخبار» غائبة دائماً، فقد كانت مهتمة في هذا اليوم بخطاب للسيسي، لم أستمع اليه.. فإن القلوب تمل!

اكتشفت في هذه اللحظة أن «الجزيرة» ليس لها مكتب هناك، والذي يبدو أنه كان مرتبطاً بوجود «ديمة الخطيب» مراسلة فنزويلا، وجوداً وعدماً، وقد انتقلت إلى الدوحة، فانتظرتها تطل ولو ببث مباشر تحلل المشهد، لكن لا حس ولا خبر، فلم أجد لها تعليقا على صفحتها على «تويتر».

والمنطقة تعاني من الانقلابات العسكرية، بين واقع ومحتمل، فما كان ينبغي أن يتم التعامل مع فنزويلا على أنها بعيدة عن العين وعن القلب، لا سيما مع هذا الحضور الأمريكي في هذا الانقلاب لدرجة أن وزير الخارجية الأمريكي يعلن في اليوم التالي أن الرئيس «نيكولاس» غير شرعي. فمن هو ليقرر من هو الشرعي؟!

اللعب صار على المكشوف، وقديما قال شاعر الربابة من يزمر لا يغطي لحيته (هو قال ذقنه)، وقد رُفع «برقع الحياء»، فأمريكا تحمي قاتلا في السعودية، وأمريكا تحتضن مستبداً في مصر، وأمريكا ترعى انقلابا في تركيا وفنزويلا، والفضائيات غائبة!

إنه الزحام، حيث لا أحد!

#صحافي من مصر

 
في السبت 26 يناير-كانون الثاني 2019 08:05:33 م

تجد هذا المقال في مأرب برس | موقع الأخبار الأول
https://mirror1.marebpress.net
عنوان الرابط لهذا المقال هو:
https://mirror1.marebpress.net/articles.php?id=44109