فلسطين بين الاحتلال والبيع والتطبيع
توفيق السامعي
توفيق السامعي


لم يكن تسجيل علي الحجوري المرئي في حديثه عن التطبيع مع إسرائيل ليستأهل الرد عليه إعلامياً كونه لا يمثل شيئاً لا دولة ولا كياناً مجتمعياً لولا أنه انحدار في الثقافة العربية الحديثة التي يراد تمريرها للشعوب من خلال أبواق كثيرة شعبوياً، وانعكاسات هذا الأمر على القضية اليمنية من الأساس، كون الأزمة اليمنية إحدى تجليات هذا التوجه المرحلي في التطبيع وعلى حساب الشعوب العربية برمتها.
ما ذكره الحجوري في تسجيله من مداخل هي في الأساس قضايا تثار بين فترة وأخرى من خلال بعض المثقفين والسياسيين والإعلاميين لتمريرها في المجتمعات العربية وحتى لا تجد ممانعة شعبية بدأت منذ اتفاقات كمب ديفيد الأولى والثانية وأوسلو الأولى والثانية ومدريد وغيرها من الاتفاقات.
لا النصوص الدينية ولا التاريخية الآثارية استطاعت أن تثبت حق اليهود في فلسطين، ولم توجد أية آثار حقيقية تتحدث عن هذا الحق والوجود إلا قليلاً في صحراء النقب بعيداً عن القدس التي تعتبر مدينة مقدسة لدى كافة الأديان السماوية.
أما الآثار التي ذكرها الحجوري دون علم من واقع حتى بالرجوع إلى باحثيهم وكُتّابهم، والكتاب الإنجليز وغيرهم، الذين أفادوا بعدم وجود لآثار يهودية في القدس، ومثل هذا الأحمق كثير يسوقون للإسرائيليين بوجود آثار لهم هناك على أنها مستحق لهم بعدها..إذ لا توجد لليهود شواهد آثارية رغم الجهد والعنت الذي يبديه اليهود وعلماء الآثار الإسرائيليين في إيجاد أي شيء يتحدث عن الآثار اليهودية في فلسطين.
عمل الباحثون الآثاريون اليهود وحتى غير اليهود بجهد لا يكل ولا يمل أملاً بالعثور على نقوش عبرانية آثارية قديمة من قبل الميلاد وخاصة في القدس التي يحاول الإسرائيليون تهوديها وتزوير تاريخها بكل ما أوتوا من قوة وإمكانات.
لكن جهودهم تلك باءت بالفشل، يشير الباحث حسن الباش وهو من أبرز الكتاب الفلسطينيين وعلم من أعلام الفكر والثقافة إلى أن "(كاثلين كينون) بدأت حفرياتها الآثارية في القدس في العام 1960 وفي الموقع الذي سبق وأجرى فيه (ملكستر) ومن سبقه من العلماء، توسعت كينون في الحفر نحو الشمال إلى أن وصلت إلى سور يمكن إرجاعه إلى سنة 1800 ق.م، وهو السور اليبوسي الذي وقف في وجه الغزو اليهودي"؛ أي أنها لم تعثر على أي من الآثار العبرانية وخاصة الهيكل المزعوم والذي لم توجد حتى أساساته تحت الأنقاض.
فمن المعلوم أن كل حضارة مهما تعرضت للغزو والدمار تبقى آثارها شواهد حية ولا يتعرض لها، بحيث لا تمحى محواً كلياً، كما هي الأهرامات والآثار الرومانية واليونانية ومعبد الشمس في مارب اليمن وغيرها من الآثار في العالم، إلا الهيكل المزعوم لم يوجد له حتى حجراً واحداً شاهداً يدل على وجوده.
وإذا كان تعرض للتدمير فمن المفترض أن يتم تدمير ما فوق الأرض والإبقاء على أساساته، وحتى في الحفريات اليهودية لم يجد الآثاريون اليهود أساسات للهيكل بل وجدوا أساسات إسلامية للدولتين الأموية والعباسية.
تقول المؤرخة الإنجليزية المشهورة كارين آرمسترونج في كتابها "القدس مدينة واحدة وعقائد ثلاث": "من المفارقة أن من الاكتشافات الأولى للحفريات التي قام بها علماء الآثار الإسرائيليون في المدينة المسورة القدس بعد 1967، وجود قصور أموية عظيمة، ودار للإمارة متاخم للحائط الجنوبي لحرم المسجد الأقصى. ولكن هذا المشروع لتلك الحفريات تخلى عنها الإسرائيليون في وقت لاحق".
وتقول جريس هالسل في كتابها "النبوءة والسياسة": "أجريتُ في القدس مقابلة مع عالم الآثار الأمريكي غوردون فرانز الذي أمضى عامين في أعمال الحفريات مقيماً في (معهد الأرض المقدسة) في القدس.. عندما زرته كان برفقته مجسم للقدس القديمة في عهد المسيح. أو كما يقول: "الإسرائيليون في عهد الهيكل الثاني، وفيما كنا نتفرج على المجسم الذي يحتل مساحة غرفة كبيرة، سألته: هل هناك أية دلائل على أن الهيكل كان قائماً حيث يضعه المصمم في هذا المجسم؟ أي في الموقع الذي يقع فيه المسجد الأقصى وقبة الصخرة؟
أجابني: "لا توجد دلائل على أن الهيكل كان هناك أو أنه لم يكن هناك. إن بعض الناس يعتقد أنه كان هناك".
وسألته: هل يعني بذلك "إيغي يوناه" اليهودي الإسرائيلي الذي صمم المجسم؟ فرد قائلا: "هناك عدة نظريات حول الهيكل. كثيرون يقولون: إنه يقع حيث تقع قبة الصخرة اليوم. ولذلك يقول الصهيونيون يجب إزالة المسجد. ويقولون: إن إرادة الله، مثل هزة أرضية سوف تدمره، أو أن شخصاً ما سوف يقوم بنسفه بالديناميت. إن كبير الحاخاميين الإشكناز الحاخام غوردن يعتقد أن الهيكل كان يقع إلى الشمال قليلاً من قبة الصخرة. وثمة نظرية ثالثة تقول إن الهيكل كان يقع على الجانب الشمالي من الساحة. وهم يعتقدون أن قدس الأقداس يقع قرب قبة الروح القدس. والرأي الرابع أن الهيكل قد سبق أن تم بناؤه على شكل كنيس ضخم في شارع جورج الخامس في غرب القدس. والذين يتمسكون بهذه النظرية يستشهدون بقول إسحاق عندما سئل أين بيتي؟ ويفسرون هذا النص بأنه يعني أن الهيكل لم يكن فوق الأرض الإسلامية اليوم ولكنه كان في مكان آخر".
وتقول: عدت إلى السؤال: أين كان موقع الهيكل قبل 2000 سنة كما تعتقد؟ فرد قائلا: "إني لا أعرف. لا أحد يعرف. كل ما نعرفه هو أن كل أولئك الذين يقولون إنهم يريدون الهيكل يريدون في الدرجة الأولى تدمير المسجد. ليس لدي أية فكرة كيف سيتم التدمير، ولكنه سيحدث..إنهم سيبنون هيكلاً هنا..كيف ومتى وأين لا تسأليني؟".
ذكر الحجوري أنها في نصوصهم المقدسة وهو يعلم قضية التحريف في العهدين القديم والحديث، بينما يطعن في السيرة النبوية والحديث الشريف والبخاري ومسلم الأحدث تدويناً مما اعتبره نصوصاً مقدسة عندهم، ولا يعلم هذا الجاهل أن حاخاماتهم ألفوا نصوصاً في عام 1917 وأسموها نصوصاً مقدسة ونسبوها للتورة/العهد القديم.
والعهد القديم هو الكتاب المقدس لدى اليهود والمسيحيين على حد سواء. وهو في مجمله يضم الشعر والنثر والحكم والأمثال والقصص والأساطير والغزل والرثاء...الخ.
ولقد لحقه الكثير من التعديلات والإضافات طوال الأجيال، وتعددت فيه النصوص والترجمات والتصحيحات، وهو تراث شعبي لا سند له إلا الذاكرة، فكانت مساهمات البشر فيه كثيرة على مدى تسعة قرون وبلغات مختلفة.
فمثلاً حينما اندلعت انتفاضة الحجارة الفلسطينية عام 1987 ظهر نص قيل إنه من التوراة، يقول عن الجندي الإسرائيلي الذي يصيبه حجر من أحجار الانتفاضة: "وإن العار ليلحق بكل من يصيبه حجر من الحجارة التي يلقيها الفلسطينيون".
وحتى لو سلمنا جدلاً ببعض صحة النصوص الواردة في هذا العهد، فعمره يزيد عن 2000 عام ومن المؤكد أن شابه التحريف، كما بين ذلك القرآن الكريم في عدة مواضع، منها قوله تعالى: {أَفَتَطْمَعُونَ أَن يُؤْمِنُواْ لَكُمْ وَقَدْ كَانَ فَرِيقٌ مِّنْهُمْ يَسْمَعُونَ كَلاَمَ اللّهِ ثُمَّ يُحَرِّفُونَهُ مِن بَعْدِ مَا عَقَلُوهُ وَهُمْ يَعْلَمُونَ}البقرة75، وقوله: {مِّنَ الَّذِينَ هَادُواْ يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ عَن مَّوَاضِعِهِ وَيَقُولُونَ سَمِعْنَا وَعَصَيْنَا وَاسْمَعْ غَيْرَ مُسْمَعٍ وَرَاعِنَا لَيّاً بِأَلْسِنَتِهِمْ وَطَعْناً فِي الدِّينِ} النساء46، وقوله: {فَبِمَا نَقْضِهِم مِّيثَاقَهُمْ لَعنَّاهُمْ وَجَعَلْنَا قُلُوبَهُمْ قَاسِيَةً يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ عَن مَّوَاضِعِهِ وَنَسُواْ حَظّاً مِّمَّا ذُكِّرُواْ بِهِ وَلاَ تَزَالُ تَطَّلِعُ عَلَىَ خَآئِنَةٍ مِّنْهُمْ إِلاَّ قَلِيلاً مِّنْهُمُ فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاصْفَحْ إِنَّ اللّهَ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ}المائدة13، وغيرها كثير، ولم يدخله الحجوري ضمن التحريف، بينما اتهم البخاري والسيرة النبوية الأحدث عهداً بالتحريف بحسب الهوى، وهذا قول عظيم!!
لم يكن اليهود الموجودون اليوم على أرض فلسطين جزءاً من هذه الأرض، فـ99،9% من اليهود الساكنين في فلسطين اليوم هم يهود مهاجرون وليسوا أصليين من سكان فلسطين التاريخية، معظمهم من دول الاتحاد السوفييتي سابقاً الذين أتوا كمحتلين على أساس العرق والدين، وكذلك من المغرب العربي واليمن ومصر وأمريكا وغيرها، وهم يعاملون حتى اليهود العرب والأفارقة بعنصرية ودونية بالكاد يتعايشون معهم فكيف سيتعايشون مع الفلسطينيين والعرب الآخرين، ولذلك يصرون أن تكون دولتهم على أساس ديني، وهذا يعني تهجير بقية الفلسطينيين من أرضهم.
ترتب على هذا الاحتلال مجازر تاريخية مروعة نكلت بالإنسان قتلاً وتشريداً واجتثاثاً من الأرض، وأكثر من 4 ملايين لاجئ فلسطيني مشرد في الشتات لم تقبل بعودتهم إسرائيل مطلقاً ويستثنون في كل المفاوضات التي تجري منذ كمب ديفيد 1979م وحتى اليوم، ثم يأتي بعض الجهلة يقول لك اقبلوا بالسلام والتعايش والمقاومة إرهاب!!
فكلمة "تطبيع" لا تعني معاهدة السلام بين طرفين بل تعني أن يعود كل شيء إلى طبيعته وتطبيع كافة مظاهر الحياة والسياسة والثقافة وكل شيء وكأنك تعيش مع شعبك وفي أرضك ولا يوجد شيء اسمه احتلال، وتجريم المقاومة وتجريم الدفاع عن النفس، في الوقت الذي لا يعترف بالوجود الفلسطيني ولا عودة الشعب المشرد، ويواصل الاحتلال الإسرائيلي عربدته في فلسطين من تهويد المدينة المقدسة وهدم منازل الفلسطينيين المتشبثين بأرضهم ومساكنهم هناك، فضلاً عن عمليات الدمار الشاملة التي يقوم بها الاحتلال الإسرائيلي في غزة والضفة الغربية، وقد قام نظامهم الحاكم باغتيال الزعيم الفلسطيني ياسر عرفات عبر تسميمه واتهام محمد دحلان بالضلوع في ذلك.
كما ذكر الحجوري أن الرسول صلى الله عليه وسلم هو أول من طبع مع اليهود في المدينة، وهو لا يفرق بين المعاهدات والتطبيع، المعاهدات تكون بين كيانين، دولتين، جهتين متناقضتين، على أساس من الندية والتوازن والاتفاق الذي يفرط في حق الآخر، والرسول صلى الله عليه وسلم جاء إلى المدينة واليهود يعيشون في وطنهم ولم يكونوا محتلين أرض قومه، ولم يقتلوا ويهجروا شعبهم، ولم يطبع معهم بل اتفق سياسياً معهم، وكانت يده العليا لا الدنيا الذليلة، كما هو الحال اليوم، ولما نقضوا الاتفاق بالتحالف مع قريش ضده استحقوا التشريد كونه لا يؤمن جانبهم، وهم غدارون، كما يفعل اليهود اليوم مع كل اتفاقات العرب، وبالتالي لا مقارنة بين الأمرين.
هذا التطبيع والاعتراف بالاحتلال يعني أن سلطة الحوثيين الاحتلالية للبلاد شيء طبيعي تقبل به كما قبلت الاحتلال الصهيوني في فلسطين، وأنت تؤسس لكل احتلالات العالم قديماً وما سيترتب عن ذلك مستقبلاً.
هل يعلم الحجوري ومباركو التطبيع شمالاً وجنوباً أن الحرب في اليمن وتدميره هي إحدى أثمان هذا التطبيع وهدية لإسرائيل مقابل ما تعتقده الإمارات من الحصول على النفوذ في المنطقة من طريق إسرائيل، ولذلك لا تسمح بتحقيق أي انتصار للشرعية على الحوثيين وتسعى في إنشاء المليشيات الجانبية لتفتيت المشروع الوطني، وأنهم سيعيشون مشردين في البلاد كما شرد الفلسطينيون؟ فإذا سلمت بالتطبيع هناك عليك أن تسلم بالتطبيع في اليمن والدخول تحت حكم الحوثي، وأن يرضى بالتشرد طيلة عمره وأبنائه وأحفاده خارج وطنه.
أما حديثه عن بيع بعض الفلسطينيين لقطع أرض هنا أو هناك لا يعني جواز احتلال البلاد وإبادة وتهجير شعب بأكمله.
حينما تحدث عن ديمقراطية إسرائيل وتقدمها، فنعم.. قدمتها لشعبها فقط لكنها لا تقبل بالفلسطينيين كمواطنين متساوين مع مواطنيها لكي يعيش الجميع بسلام ووئام، وإسرائيل هي من ترفض حل دولة واحدة لشعبين متعايشين خشية الطغيان الديموغرافي الفلسطيني الذي سيزيد عن عدد اليهود في الدولة ولذلك تسعى لإقامة دولتها على أساس يهودي ديني بحت وهو ما يرفضه العالم جميعا، على الأقل في الوقت الراهن.
على المطبلين اليمنيين للتطبيع مقابل الفتات الذي يتسلمونه من وراء هذه الحملة المنظمة التي تجري من تحت الطاولة مدفوعة بالمال لا بالمآل أن يدركوا أن بلادهم ورقابهم قُدِّمت كأحد الأثمان لهذا التطبيع ودخلت في المعمعة التي أرادتها إسرائيل لإشغال العرب بعضهم ببعض بالحروب لتعيش هي بأمان واستقرار وسط هذه الأمواج المتلاطمة من الحروب في الشرقين الأوسط والأدنى، وهي تتفرج عليهم من وراء زجاج.
فالتطبيع يكون على أساس حفظ مصالح الطرفين وقائم على أساس من الندية والتوازن وليس التابع الذليل والسيد المطاع؛ حيث إن المطبعين اليوم كلهم يسيرون خلف الشروط الإسرائيلية التي لا يمكنها بحال من الأحوال أن تقبل بمحيط قوي، حت إنها صرحت أن التطبيع مع الإمارات لا يعني منحها صكاً في التفوق في الطيران الحربي، وماذا استفاد المطبعون طيلة ثلاثين عاماً من الهرولة نحو التطبيع؟!
لقد عقدت إسرائيل اتفاقات سلام مع الفلسطينيين وبعض العرب في مبدأ أسموه "الأرض مقابل السلام" منذ كمب ديفيد الأولى عام 1979 وما قبلها من اتفاقات منذ عام 1936، و1948، و1967 وكم صدرت من قرارات أممية ومن مجلس الأمن في هذا الشأن دون أن يتم تنفيذ أياً من هذه الاتفاقات حتى دفع الزعيم الفلسطيني ياسر عرفات حياته ثمناً لذلك، فما الجديد الذي سيحدثه التطبيع الحالي؟!
لقد كانت إسرائيل طيلة نشأتها تعمل جاهدة على تفتيت القوى من حولها ولا تقبل بمحيط قوي، وما الأحداث الدائرة اليوم في الشرقين الأقصى والأدنى إلا في إطار هذا السعي المتواصل من تجزئة وتفتيت الدول القوية والقوى التي تحكمها ابتداءً من القوميات بشقيها الناصرية والبعثية ومروراً بالقوى الإسلامية اليوم ولن تقف عند هذا الحد من التفتيت ففي الزمن القادم لن تعدم الذريعة في ذلك، وكل قوة في المنطقة اليوم هي مستهدفة بالتقسيم والفوضى الداخلية من خلال القوى الحاكمة في العالم.


في الجمعة 21 أغسطس-آب 2020 11:55:00 م

تجد هذا المقال في مأرب برس | موقع الأخبار الأول
https://mirror1.marebpress.net
عنوان الرابط لهذا المقال هو:
https://mirror1.marebpress.net/articles.php?id=45100