|
انطلقت عجلة قطار النمو الاقتصادي الصيني خلال الثلاثين سنة الماضية بسرعة مذهلة، مما خلق في كثير من النفوس إعجابا عظيما بهذا العملاق الضخم. وهؤلاء كثير منهم لا يستطيع أن يتخيل أن ذلك العملاق بدأت تنخر فيه فيروساتٌ قاتلة، ومن ثـَـمّ بدأ بالتقزم والضمور .
هناك مثل صيني يقول:"علامة واحدة من الجمال تستطيع أن تخفي مئة بقعة قبيحة". الحقيقة أن النمو الاقتصادي السريع للصين في الفترة الماضية صرف العيون عن كثير من مظاهر الانهيار الكامنة، ولكن بمجرد أن بدأت الأزمة العالمية تلوح في الأفق إذا بذلك الغطاء ينكشف، بل انكشف عن انهيارات هائلة .
ماذا ينتظر الصين؟
الآن، كثير من المؤشرات الاقتصادية تجعل من السهل التنبؤ بانهيار الاقتصاد الصيني القادم، ولكن أن يكون التنبؤ بذلك في ذروة الازدهار الاقتصادي الصيني فذلك ما يستحق النظر إليه بعناية. في عام 2001م ألف خبير استراتيجي يمني كتابا بعنوان (جذور القوة والمنطقة المحظورة)، ونشره عام 2003م، وجاء فيه:"برغم قوة النمو الاقتصادي الصيني، ووحدتها الوطنية ـ فإن اقتصادها مُعَـدّ في مفاهيم الاقتصاد الحديث للانهيار عام 2015م". في ذلك الوقت، بل حتى عام 2005م، نجد أن كثيرا من الأقلام كانت تعلق آمالا عريضة على النمو الصيني، والتبشير بها كقوة عظمى سوف تحد من غول الهيمنة الأمريكية .
ثم جدد صاحب جذور القوة كلامه بشكل موسع في مقال له بعنوان (القيادة غير التقليدية)، ونشره عام 2005م، وجاء فيه:"الصين سوف تتمتع بنمو اقتصادي، وتدفق رأس المال، وستتجاوز اليابان اقتصاديا ـ ثم تنهار"، ثم بين في بحثه التكتيكات التي ستلعبها القوة المفكرة الأخرى مع الصين، فألمح إلى أن أول لعبة سيلعبونها مع الصين لضرب اقتصاده هو الضغط على العملة الصينية لأجل تقويتها .
وتقوية العملة الصينية من شأنه أن يعيق تصدير المنتجات الصينية؛ لارتفاع أسعارها، مما يؤدي إلى قلة الطلب على المنتج الصيني، ومن ثم زيادة البطالة .
ثم عاد صاحب جذور القوة، ونشر بحثا عام 2006م، بعنوان (القيادة غير التقليدية والتفكير خارج الصندوق)، وفيه قـيّم ما كتبه سابقا حول انهيار الاقتصاد الصيني، ثم أردف قائلا:"النمو الاقتصادي الصيني، وتدفق رأس المال إلى الصين ـ مدهش حقا، وقد رافق ذلك تقوية العملة الصينية تدريجيا، حسب التوقع ".
وعندما أدلى رئيس البنك الفيدرالي الأمريكي بشهادته أمام الكونجرس فقال:"يجب ألا تعتمد الصين على الصادرات، ويجب أن يشجعوا الاستهلاك المحلي" علق على ذلك بقوله:"معسولة ومسمومة، فمن المدهش أن يلقي رئيس البنك بهذا الكرت الصالح على الطاولة، وكان على القوة المفكرة الصينية أن تتعامل معه بموضوعية ".
وبينما تحاول القوة المفكرة الصينية أن تعمل جاهدة للخروج من مأزق تقوية العملة الصينية بأقل الخسائر الممكنة ـ تتركهم القوة المفكرة الأخرى يتلهون بهذه المشكلة، وينصرفون لنسج مناورات أخرى .
الصينيون أذكياء جدا، وقد سمى قدامى الصينيين أنفسهم باسم (تسونغو)، ومعناه: البلد الأوسط؛ لاعتقادهم قديما أنهم وسط الكرة الأرضية، وأنهم الشعب الوحيد الذي يملك حضارة .
هم أذكياء، نعم، ولكن السيناريوهات المعدة لهم غير تقليدية، فالأسلوب غير التقليدي لم يستخدم بآفاق واسعة في الماضي؛ لأنه ينشأ من الحاجة إليه. ولهذا السبب يصعب على القوة المفكرة الصينية أن تتعامل مع هذا النوع من أساليب المناورات. مما يحتم عليهم أن يتعاملوا بطريقة غير تقليدية لعلاج السيناريوهات المعدة لهم، والاستفادة منها في المحافظة على ازدهار الاقتصاد لا انهياره .
" الطريقة الوحيدة للتعامل مع التغيير المفروض من الآخر ـ أن تغوص فيه، وتتحرك معه، وتشارك أصحابه بالرقص" [ألان وات: 1915-1973م ].
المشهد الصيني الراهن:
ها هو عام 2009م يطل على العالم حاملا معه بداية أزمة الاقتصاد الصيني، فوفقا للإحصائية التي أصدرتها الحكومة الصينية لعام 2008م، فإن النمو الاقتصادي هـبط إلى 6.8% في الربع الأخير من عام 2008م، وهذا يعد انخفاضا حادا بالنسبة للربع الثالث من العام نفسه 9%، وبالمقارنة بعام 2007م، حيث كان معدل النمو 13%، وبعبارة أخرى، فإن النمو الاقتصادي هبط خلال عام من 13% إلى 6.8 %.
وضعف النمو الاقتصادي جاء نتيجة لعوامل عديدة، منها قلة الصادرات بشكل كبير، مما أدى إلى خلق بطالة هائلة، حيث فقد أكثر من 20 مليون عامل من المهاجرين من الريف إلى الحضر ـ فقدوا وظائفهم عام 2008م. وتشير التوقعات إلى أنهم سيتجاوزون 30 مليون عام 2009م، وبعضهم يقدر ذلك بـ(50) مليون من العمال ستفقد وظائفهم نهاية هذا العام .
وهذا عدا عن ملايين الطلبة الذين يتخرجون من الجامعات، ولا يجدون لهم وظائف، حيث ذكرت منظمة العمل أن (1.5) مليون طالب من خريجي الجامعات عام 2008م لم يجدوا لهم وظائف، والعدد مرشح للزيادة هذا العام .
وهناك أكثر من (3631) شركة أغلقت أبوابها هذا العام، والعديد من المصانع أعلنت إفلاسها .
مؤشرات الانهيار:
هناك العديد من المشاكل التي تعاني منها الصين، وهذه المشاكل تؤدي حتما إلى انهيار وشيك، ليس للاقتصاد الصيني فحسب، بل لهيبة الصين كقوة صاعدة، ودولة تريد أن تلعب دورا بارزا على الساحة العالمية. ومن هذه المشاكل :
• القروض المعدومة التي تأخذها الدولة من البنوك، في محاولة من الحكومة لأن تحافظ على الشركات المملوكة لها من الوقوع في براثن الإفلاس. وتقدر القروض المعدومة التي أخذتها الدولة من أكبر أربعة بنوك صينية بـ(2 ترليون دولار)، وينمو هذا المبلغ سنويا بمعدل (500 مليار دولار). حتى إن هذه البنوك بدأت تشم رائحة الإفلاس، وأصبحت محتاجة إلى دعم حكومي، لتملك رأس المال الكافي حسب المعايير الدولية. والبنوك الصينية تقدم القروض للحزب الشيوعي الحاكم باعتبارها من أعضاء الحزب، وليس باعتبارات اقتصادية .
• احتكار الدولة للقطاعات الإستراتيجية، كالأعمال المصرفية، والخدمات المالية، وإنتاج الطاقة، والموارد الطبيعية، وخدمات الاتصالات. ويبلغ إنتاج الشركات المملوكة للدولة نحو (35%) من إجمالي الناتج المحلي الإجمالي. ولا شك أن هذا يضعف القدرة الاستثمارية، ويشكل عامل طرد للاستثمارات الأجنبية .
• الظلم الاجتماعي، المتمثل في تفاقم التفاوت في الدخل بين من يملكون ومن لا يملكون، وبين المناطق الحضرية والريفية، بنسبة (63%) إلى (27%). وازدياد الفجوة بين الأغنياء والفقراء بنمو يعد هو الأسرع في العالم .
• ومن الظلم الاجتماعي ما تقوم به الحكومات المحلية، حيث تبتاع الأرض من الفلاحين بثمن بخس، ثم يبيعونها بأسعار كبيرة للقطاع الصناعي. وهذا أدى إلى تذمر كبير بين المزارعين، وغلى احتجاجات واسعة، وتوتر اجتماعي .
• الافتقار إلى الحرية السياسية، واعتماد الحزب الشيوعي الحاكم على سياسة القمع والعنف في مواجهة المعارضة. ولا تخفى عليكم المجازر التي ارتكبها الحزب خلال العقود الماضية، فالحزب يعتمد على العنف للمحافظة على السلطة. وليس ببعيد عنكم ما فعله النظام الشيوعي بالاتفاق مع شركة ياهو، حيث طلب من الشركة حذف جميع الكلمات البحثية التي لا تروق له، كالديمقراطية وحقوق الإنسان، وتم ذلك. ويمارس الحزب الحاكم رقابة كبيرة لوضع حد لانتشار الأخبار التي لا يريدها .
انهيار وشيك:
هذه الاختلالات الاقتصادية والسياسية والاجتماعية ـ كما يقول (منكسن بي):"لم تؤد إلى تقويض بنيان النمو الاقتصادي فحسب، بل أضعفت قدرته على تجاوز الأزمة الاقتصادية الراهنة ".
لقد أدت هذه الاختلالات أولا إلى ركود اقتصادي كبير؛ نظرا لانخفاض حركة البيع والشراء والإنتاج، مما أدى إلى رفع مخزون الإنتاج الصيني، وتكديس كميات كبيرة من البضائع في المخازن الصينية، وهذا بدوره يزيد من انتشار البطالة بين الفئة العاملة. وإذا استمر الركود الاقتصادي فإنه سيتحول إلى كساد كبير، وحينئذ يقع الانهيار .
كما أدت هذه الاختلالات إلى زيادة التوتر الاجتماعي، والسخط الشعبي، والاحتجاج المدني، وتقدر أعمال الاحتجاج والشغب التي تجتاح الصين سنويا بـ(60ألف) حالة شغب، بمعدل (164) حالة في اليوم الواحد .
ولا يعني هذا أن كل هذه الاختلالات سببها مشاكل داخلية، فمما لا شك فيه أن لتأثير الأزمة المالية العالمية دورا في الأزمة الاقتصادية الصينية، حيث انخفض الطلب العالمي على المنتجات الصينية مما أدى إلى انخفاض الصادرات الصينية بنسبة (2.2%) في ديسمبر عام 2008م، بالمقارنة مع نوفمبر من العام نفسه .
كما أن الحكومة الأمريكية فرضت (27%) ضريبة على المنتجات الصينية عند دخولها إلى الأراضي الأمريكية، بسبب رفض الصين تقوية عملتها .
إن تقوية العملة الصينية بشكل كاف ـ أسهم في النمو الاقتصادي سابقا، والآن مع الأزمة المالية العالمية أدى إلى ركود النمو الاقتصادي الصيني .
من حفرة إلى حفرة:
حاولت الحكومة الصينية جاهدة أن تنعش الاقتصاد، ولكنها في محاولاتها هذه مثل من يردم حفرة، ليقع في حفر أخرى. فالحكومة حين تأخذ قروضا معدومة من البنوك الصينية لتعويض بطء النمو الاقتصادي، وللحيلولة دون إفلاس الشركات التابعة لها ـ فإن هذا أدى إلى عجز كبير في رأس المال لدى هذه البنوك، وأصبحت بحاجة إلى دعم حكومي، كما ذكرنا سابقا .
ثم إن الحكومة الصينية أعلنت مؤخرا أن حجم استثمارها في سندات الخزينة الأمريكية وصل إلى ترليون دولار .
ترليون دولار!! بمعنى أن معظم احتياطي الصين من العملة الأجنبية في يد الطرف الآخر. وهذا يرينا إلى أي مدى لقن الصينيون المفهوم الخاطئ لكلمة (إستراتيجية ).
إن استثمار ترليون دولار في الخزانة الأمريكية يعني أن الصين معرضة بمفهوم الاقتصاد التقليدي لشيئين :
الأول: ارتفاع نسبة الفوائد بالدولار الأمريكي؛ بسبب عدم وجود السيولة في الأسواق العالمية، وهذا يؤدي إلى انخفاض سعر السندات .
والثاني: انخفاض سعر الدولار، وهذا يؤدي إلى انخفاض القيمة الحقيقية للأصول المالية .
والقوة المفكرة الصينية عملت هذا في اعتبارها، مع تخوفها منه في الوقت نفسه، ولذلك يبحثون عن مخرج من الأزمة .
والصينيون فضلوا أن ينتظروا إلى تاريخ استحقاق السندات كي يستلموا رأس المال كاملا مع الفوائد، ولكن المخاطرة في الانتظار الزمني ليست في صالحهم، لاحتمال انخفاض قيمة الدولار مع تقلبات سعر صرفه .
المخرج من الأزمة:
أمام الصين عدة سيناريوهات للخروج من الأزمة الراهنة :
الأول: تخفيض سعر العملة؛ لكي يتم تقوية الصادرات الصينية .
الثاني: دعم الصادرات (الدعم الحكومي).
الثالث: التلاعب بنوعية جودة الإنتاج .
وكل هذه المخارج تؤدي إلى صراع مع الآخرين. وهذه الرؤى كلها تقليدية، قد عفا عليها الزمن في مواجهة أساليب الآخرين، وقد انتهى عصر الاقتصاد التقليدي الذي يقدم مثل هذه الحلول، وهي حلول لا تغني عن الصينيين شيئا للخروج من المصيدة .
وعودة إلى صاحب جذور القوة، الذي أكد لي جازما بقوله:"إن لدينا رؤية جديدة غير مألوفة، وغير تقليدية ـ للقوة المفكرة العالمية، كمخرج مؤلم من الأزمة الراهنة، ولكنه الأفضل ".
القارئ الكريم، سنوافيك بهذه الرؤية ـ إن شاء الله ـ في الجزء الثاني من المقال .
abdmajidyemen@hotmail.com
في الإثنين 04 مايو 2009 10:35:15 م