بعيدا عن السياسة : كلاب الإنجليز المتحضرة !؟
دكتور/ياسين الشيباني
دكتور/ياسين الشيباني

 يقولُ بعض اللئآم من الإيطاليين أن الرجل الإنجليزي ( البارد في نظرهم ) يهتم بثلاثة أشياء : بكلبه أولا ، وبعمله ثانيا ، وبزوجته ثالثا (!!) ، غير أنه ليس من الإنصاف أن نأخذ بحكم الطليان على الإنجليز ، فواضحٌ أن فيه كثير من التجني على هؤلاء القوم المتحضرين المعروفين بحبهم بل وتقديسهم للعمل ، والصحيح أن يُقال أن الإنجليزي يهتم بعمله أولا ، ثم بكلبه ثم بزوجته !!.

 وحبُ الكلاب شيءٌ يفخر به الإنجليز ولا يخجلون منه ، بل ويحرصون على اظهاره ولا يجدون غضاضة في ذلك ، إذ هو في نظرهم سمة من سمات الإنسان المتحضر، ولهذا فلا يحق لك – كمواطن من العالم غير المتحضر- أن تسخر من أسرافهم هذا في تدليل الكلاب ، وليس لك أن تعجب من مقدار ما يُصرف على تغذيتها ونظافتها والعناية بها ، بل وتسليتها ومراعاة عدم تعكر مزاجها !

دلالٌ في مكانه !

 الكلب الإنجليزي كلبٌ مدللٌ ويعيش في رفاهية زائدة ، نعم ، ولكنه – بكل تجرد – جديرٌ بذلك التدليل ، وأهلٌ لتلك الرفاهية ، فالكلب في انجلترا مثله مثل صديقه الانجليزي ( ولا أقول سيده حتى لا أجرح مشاعر الكلاب ومشاعر الانجليز معا ) أقول الكلب الانجليزي في غاية التهذيب والرقة والهدوء .. وهو على تلك الحال غالبا ما لم يُعكر أحدٌ صفو مزاجه ، كأن يُحرم من نزهته اليومية ، أو ان لا تُراعى المواعيد الدقيقة في تقديم وجباته الغذائية ، او ان يتقاعس من يسهر على رعايته والعناية به عن شراء آخر ما يعلن عنه التليفزيون من أغذية الكلاب التي تضمن الشركات المنتجه لها جودتها العالية وانه قد تم انتاجها تحت إشراف طبي !

صفةٌ حضارية

إنني أتفق تماما مع الانجليز ، فمراعاة مشاعر الكلاب " صفةٌ حضارية " ، وإن بدا للبعض أن يحتج على ذلك بحجة أن الإنجليز أولى بهم أن يحترموا المشاعر الانسانية لغيرهم من الشعوب ، وأن يكفوا – ونحن في مطلع القرن الحادي والعشرين – عن دس أنوفهم في شئون غيرهم ، فحجته مرفوضة ، على الأقل من وجهة نظر الانجليز ، فهم يقولون لك أن الكلاب حيوانات راقية ، فهي لا تأكل بعضها البعض بينما بعض البشر يفعلون ، والكلاب لا تعض اليد التي أطعمتها بينما كثيرٌ من الناس يفعل ، كما ان الكلاب تضل وفية دائما ، في الوقت الذي يتعرض فيه البشر لخيانة زوجاتهم وأصدقائهم .. وعلى كل حال ، اذا عشق الانجليز الكلاب فللناس فيما يعشقون مذاهب.

لقد فرغ الإنجليز الآن من تقديم الطقوس الدالة على احترامهم لحقوق الانسان أينما كان ، ونظرة سريعة الى تأريخهم خلال القرون الثلاثة الماضية ، كفيلة بأن تقنعك بأنهم كانوا دائما أكثر الناس حرصا على حقوق ال" بني آدميين " ، بل انهم استعمروا أكثر من ثلث مساحة الكرة الأرضية ، وقرابة نصف سكانها بدعوى نشر المفاهيم الحضارية ومن بينها ، بل في طليعتها ، احترام حقوق الكلاب والقطط وبقية الحيوانات التي لم تكن تُعامل كما يجب من قبل الشعوب " الهمجية" في آسيا وأفريقيا وأمريكا .. ولهذا لا تعجب إن عاد الاإنجليز – في مطلع القرن الواحد والعشرين- الى الانزواء في جزيرتهم ، وجلسوا مرتاحي الضمير بعد أن أدوا رسالتهم الحضارية نحو البشرية . ولا تعجب إن تفرغ الانجليز بعد ذلك للعناية بالكلاب وحقوقها ، فقد اعتنوا بحقوق الانسان لأكثر من ثلاثة قرون ، وفي النهاية لم يلقوا من الشعوب " المتخلفة " إلا جزاء " سنمار " ، فقد طردتهم شر طردة من كل أرجاء امبراطوريتهم التي لم تكن تغيب عنها الشمس . لقد تنكر لهم البشر فاستحقت الكلاب عطفهم وحبهم وتقديرهم ، وأخشى ما يخشاه المرء على الإنجليز اليوم هو أن تتمرد الكلاب على طبيعتها في الوفاء ( بعد أن عاود الانجليز دس أنوفهم في شئون الآخرين واهمال كلابهم ) فتنكرعليهم احسانهم وتثور عليهم ثورة منظمة تكون نتيجتها أن يتخلى الانجليز عن جزيرتهم وموطئ قدمهم الأخير على الأرض !!

إذا عُرف السبب ... !

 كمواطن من بلد متخلف كلابيا ، حيث تُوصف الكلاب بأنها نجسة وعدوانية ، كنت أسال نفسي دائما عن سر ولع الانجليز بالكلاب ، وكنت ، في سنوات المراهقة ، قد اقتنعت أن اقتناء الكلاب هو توأم لحياة الرفاهية والبذخ ، أي انه زيادة نعمه لا أقل ولا أكثر، وزاد من يقيني بوجاهة هذا السبب ان كل المشاهير من السياسيين والأثرياء والممثلين يظهرون دائما في الصور ومعهم كلابهم ، غير أنني صدمت عندما أخبرني عجوزٌ انجليزي أن السبب الرئيسي والأول وراء اقتناء الانجليز- والغربيين عموما - للكلاب هو " البحث عن الصحبة والرفقة " ، ففي البلدان التي تحكمها فلسفة المنفعة المجردة تصبح " الأنانية " ظاهرة اجتماعية ويصبح الناس منغلقون على انفسهم ، وتصبح العلاقات الانسانية مطلبا عزيزا . وكثير جدا من أرباب الأسر الذين كبر اولادهم واستقلوا بحياتهم لم يعد لهم من أنيس سوى كلابهم ، كما ان الرجال والنساء الذين زرعت فيهم الثقافة الراسمالية وهم " الحرية " ورغد العيش في حياة العزوبية من أجل ان يضلوا تروسا في الآلة الصناعية ، قد وجدوا انفسهم في نهاية المطاف مقطوعين من شجرة ، لا أولاد ولا أصدقاء فوجدوا عزاءهم في الكلاب يعتنون بها لتؤنسهم وتبعد عنهم هموم الوحدة ومعاناتها في سنوات تقاعدهم . وبالطبع فهناك الأسباب التقليدية الأخرى لاقتناء الكلاب للحراسة أوللصيد أو للتحري والكشف عن الجرائم .. وغير ذلك كثير.

احـــترامٌ وتبجيل !

إذا صرفنا النظر عن الأسباب التأريخية لحب الانجليز واحترامهم للكلاب ، وبحثنا عن مظاهر ذلك الاحترام فسنجده يتجلى في صور عديدة ، ولو قدر لك مثلي أن تعيش في مدينة انجليزية صغيرة وهادئة كأكسفورد في قلب الجزيرة البريطانية ، فسترى وتلمس أشياء كثيرة يعجز تصورك المتخلف ( المتخلف فيما يتعلق بالنظرة الى الكلاب ) عن ادراكها وفهم معناها ومغزاها !

وإذا خرجت في الصباح الباكر ، قبل ان يحين وقت العمل ، فستجد كثيرا من أهل " اكسفورد" يسيرون الهوينى حينا ، ويهرولون راكضين أحيانا ، وقد تعتقد في بادئ الأمر، أن هؤلاء الناس إما مخابيل او مجانين ، خاصة وانهم يضحكون ويتحدثون الى أشياء لا تبدو لك للوهلة الأولى ، ولكن إذا دققت النظر في تلك الأجسام الغريبة التي تظهر وتختفي أمامهم ، فستكتشف أنها كلاب ، وكلاب عزيزة جدا على قلوب أصحابها ، فهم يسيرون خلفها أو يركضون وراءها تبعا لما يقتضيه مزاجها ، فاذا كانت الكلاب تسير الهوينى ( واثق الخطوة يمشي ملكا ) أبطأوا في سيرهم ، واذا عن للكلاب ان تجري – وما أكثر ما تفعل – ركض الانجليز حتى تنقطع أنفاسهم ! وما يفعله البعض في الصباح يفعله الكثيرون في المساء ، فأحسن ساعات النزهة للكلاب هي ساعات ما قبل الغروب في الريف الانجليزي الجميل .

إسهام الكلاب في التقدم العلمي !

وللكلاب الإنجليزية إسهامها الذي لا يُنكر في التقدم العلمي الذي تحقق لبريطانيا في بعض المجالات ، فولع الانجليز بالكلاب قد دفع بعلمائهم ( علماء الانجليز وليس علماء الكلاب) في مجال الهندسة الوراثية الى " تخليق" سلالات جديدة وغريبة من الكلاب التي لم تكن معروفة من قبل سواء من حيث حجمها أو نوعها ، فأنت في البلاد المتخلفة كلابيا لا تجد سوى نوعا او نوعين من الكلاب ، أما في بلد " متحضر" مثل انجلترا فسوف تعجز بالتأكيد عن حصر أنواع الكلاب ، وستعجب حينا ، وتُرعب أحيانا من أشكالها وألوانها ، أما أحجامها فهي بالمقاس وحسب الطلب ، وأنت تختار النوع والحجم واللون حسب ذوقك ومقاسك وجنسك .

حشرات و وحوش !!

.. فبعض الكلاب تصغر في حجمها لدرجة تعتقد معها انك ترى فيرانا لا كلابا ، لولا انها تنبُح وتقفز وتتمسح بأقدام أصدقائها ، وبعضها يكبر ويتضخم حتى يصيبك الرعب لمجرد النظر اليها ، فهي أقرب الى الوحوش الكاسرة منها الى الكلاب الأليفة !! أريد أن أقول ، أن علماء الهندسة الوراثية في انجلترا قد نجحوا ( عن طريق التلاعب بالجينات الوراثية ) في ان يقدموا لكل انجليزي وانجليزية الكلب الذي يناسبه ويرتاح إليه أو معه !!

منتزهات ومطاعم .. ومكتبات وفنادق !

إن مظاهر رفاهية الكلاب والعناية بها لاتُعد في بريطانيا ، فللكلاب الإنجليزية منتزهاتها ومطاعمها ومدارسها ، ومسابقاتها الموسمية لأجملها وأذكاها وأكبرها وأصغرها .. وهناك معارض متخصصة في بيع وتوفير كل ما تحتاجه الكلاب ، بدءا بالطعام والشراب ، مرورا بأدوات الزينة والاكسسوار وأجهزة الانذار والتنبيه ، وانتهاءا بالعطور وأشرطة الموسيقى !

واذا دخلت أي مكتبة بريطانية ، فستجد قسما كبيرا ( يوازي في حجمه قسم كتب الأطفال ) موقوفا على كتب الكلاب ، كل ما يهمك – ولا يهمك – أن تعرفه عن الكلاب تجده مدونا في كتب ذات طبعات أنيقة تتصدر أغلفتها صورٌ ملونة لكلبات فاتنات ، وهناك اسطوانات سي دي تحتوي على أدلة وأفلام فيديو عن كيفية العناية بكل نوع من أنواع الكلاب وكيفية التعامل معها وأهم صفات وخصاص ومتطلبات كل منها .

وإذا فكر الإنجليزي في السفر ، بغرض قضاء الاجازة ، فانه غالبا ما يصطحب كلبه معه ، اما اذا خشي عليه من مشقة السفر ، او من تبعات اختلاف درجات الحرارة ، أو كانت وجهته بلدا متخلف كلابيا ، فإن بامكانه أن يودع كلبه في فندق كلابي من الدرجة الأولى ، وهناك يجد الكلب العزيز الرعاية والعناية المتناسبة مع مستواه ، حيث تقوم مضيفات متخصصات ومدربات بتقديم كل ما من شأنه إبقاء الكلب صحيحا وسعيدا إلى أن يعود أصدقاؤه من السفر !

 ولو حكيت ، سأحكي لكم العَجَب عن الانجليز وكلابهم ، غير أنني أكتفي للتدليل على مكانة الكلاب في حياة الانجليز بما قاله صديقي المصري عندما رأى كلبا إنجليزيا يكسوه فرو أبيض كالثلج ، يربض في دلال في حضن شقراء كالقمر داخل سيارة " جاكوار" بالقرب من محلات " هارودز" في شارع اكسفورد الشهير في لندن ، يومها نظر صديقي الى الكلب المدلل في حسرة وقال في أسى : " لو لم أكن مواطنا عربيا لوددت أن أكون كلبا انجليزيا " وعندما وجدني أنظر اليه باستنكار وتعجب أضاف بنبرة مصرية حلوة : يا أخي .. مش يساوونا حتى بالكلاب ، جتنا نيلة في حظنا الهباب !!.

yshaibany@gmail.com


في الأربعاء 14 يوليو-تموز 2010 04:56:28 م

تجد هذا المقال في مأرب برس | موقع الأخبار الأول
https://mirror1.marebpress.net
عنوان الرابط لهذا المقال هو:
https://mirror1.marebpress.net/articles.php?id=7527