وحدة تخسر جنوباً 2-2
نجيب قحطان الشعبي
نجيب قحطان الشعبي

((عاش الجنوبيون نحو 130 عاماً في ظل حكم بريطاني حافظ خلالها وبشكل عام على كرامتهم، ويعيشون منذ نحو 20 عاماً في ظل وحدة يمنية أخذت خلالها صنعاء في السنوات الأخيرة تذيقهم صنوفاً من الإذلال))

‏إضافة للسلبيات المذكورة بالحلقة (1-2)، وجدت ـ ­وماتزال ـ لدى صنعاء شهوة أشبه بالسعار لنهب ثروات الجنوب الطبيعية وغير الطبيعية, ويوجد إفقار لأبنائه, وبطالة, وتسريح وتسيب, وعندما بدا الناس يبدون تذمرهم اتجهت السلطة للتعامل معهم بإذلالهم بينما كرامة الناس هي أغلي من الوحدة ومما هو اكبر من الوحدة.

‏بين فتح مكة وسقوط عدن

لم يلمس الجنوبيون ذلك الإذلال وهم تحت الحكم البريطاني وهذا يتفق والمثل المعروف القائل «عدو متحضر خير من صديق جاهل» فما بالنا أن يكون ذلك الصديق جاهلا ونهابا معاً! وفوق ذلك به نفخة كذابة!

الرسول الأكرم صلى الله عليه وسلم دخل مكة فاتحا في نحو عشرة آلاف مقاتل من المهاجرين والانصار مما كسر شوكة المشركين والكفار الذين كانوا يؤذون الرسول والمسلمين ولم يصل الرسول إلى مكة نافشأ ريشه كالطاووس (فالتواضع من شيم الكرام) ولكنه أحني جبينه حتى كاد وجهه الكريم ان يلامس القصواء (ناقته التي كان علي ظهرها) وهو يسبح الله ويحمده. ولم يعتل الرسول مكانا ليزهو بانتصاره الذي غير تاريخ الكون وليس مجرد انتصار متواضع حققته صنعاء في 1994م ‏( فقد كان باياد جنوبية، وهزمت فيه قوات مسلحة كانت خارج الجاهزية!) ولم يحاول الرسول إهانة المشركين والكفار ولم يقل لهم « إسلام ومن قرح يقرح »! ولكنه امر بمن ينادي بأن من دخل المسجد (أي الكعبة) فهو آمن ومن دخل داره فهو آمن ومن دخل دار ابي سفيان فهو آمن، فلم يحاول إخراج أحد من مسكنه ولم يحاول إذلالهم أو حتي إذلال اكابرهم أو ان يحاكمهم ولكنه قال لهم« إذهبوا فأنتم الطلقاء» لقد حفظ لهم حياتهم وكرامتهم وممتلكاتهم مما ترك أثرا حسنا في نفوسهم وحببهم إلى الإسلام فأسلم منهم ألفا شخص. امّا قوات صنعاء من شماليين وجنوبيين فإنها دخلت عدن في 7/7 وهات يانهب فلا خوف من الله ولا احترام للذات أو لشعب الجنوب.

عند فتح مكة كانت الراية مع سعد بن عبادة وكان كارهاً بشدة لاهل مكة من الكفار والمشركين فكان يردد «اليوم يوم الملحمة.. اليوم تسبي الحرمة» فذهب العباس لرسول الله صلى الله عليه وسلم وابلغه بذلك فقال الرسول لعلي بن ابي طالب أن يلحق بسعد ويأخذ الراية منه ويدخل هو بها مكة. اما في الحرب الأهلية اليمنية 1994م ‏فلم نسمع قرارا يمنع قوات صنعاء من القيام بالسلب والنهب، بل على العكس فقيادة الجنوبيين المقيمين بالشمال بعد 13يناير 1986 ‏لم يدخلوا الحرب إلا بعد ان اشترطوا انتزاع البيوت التي كانوا يسكنونها قبل فرارهم من الجنوب في يناير 1986 ‏! رغم انها لم تكن أصلا مملوكة لهم فلا هم بنوها ولا هم اشتروها وإنما هي من املاك الدولة! ثم انهم استولوا على بيوت اخرى فوق القديمة! وأمّا عن أراضي عزبة الخولاني (أي الجنوب) التي تفيدوها فحدث ولا حرج!

‏ولماذا نذهب بعيدا إلي ايام فتح مكة؟ فلدينا في تاريخنا القريب جدا نموذج نستدل بة, ففي المرحلة الاخيرة من حرب تحرير الجنوب ( ثورة 14 ‏أكتوبر) وهي مرحلة استيلاء الجبهة القومية علي السلطة في الولايات (سلطنات، إمارات، مشيخات) كانت تشكل لجانا شعبية لإدارة المنطقة وحفظ الأمن فيها ومنع اعمال النهب. وبعد أن وضع الاقتتال الأهلي بين الجبهتين القومية والتحرير في عدن (6-3 نوفمبر1967) أوزاره بانتصار ‏ساحق للجبهة القومية فصارت تسيطر علي عدن بجانب سيطرتها علي الأرياف لم تحدث عمليات نهب للممتلكات العامة أو الخاصة فقد منعت الجبهة ذلك ومنعت الاعتقالات وأصدرت بيانات تطمئن فيها سكان عدن من جنوبيين وجاليات أجنبية على حياتهم وكرامتهم وممتلكاتهم فلم يمارس مقاتلوها النهب ولم تعط الفرصة للغير لممارسة ذلك, ولم تعتقل احدا بعد انتهاء الاقتتال وجاء الاستقلال في نهاية الشهر ولم تمض عشرة ايام إلا وبدأت السلطة بإطلاق سراح من اعتقلوا أثناء الاقتتال الأهلي ( اطلق سراح أول دفعة منهم وعددهم 300 معتقل بالمرسوم الجمهوري رقم10 ‏ الصادر في ا ا ديسمبر1967).

ملاحظة: فور انتهاء الاقتتال الاهلي بعدن قامت الجبهة القومية بتشكيل لجان للحرس الشعبي من شبابها المثاليين مهمتها حماية الامن وصيانته ومحاربة السرقة والجريمة ومتابعة اللصوص واصحاب السوابق الذين انتهزوا الظروف التي مرت بها المنطقة للقيام ببعض عمليات السطو والسرقات، وتعهدت الجبهة بالمحافظة عى سلامة وأمن أفراد الجاليات الاجنبية العاملة في القطاع المدني وفي المؤسسات التجارية والمالية سواء العربية او الأجنبية وكذا حماية ممتلكاتهم الخاصة وممتلكات الشركات والمؤسسات التجارية والمالية التي يمثلونها. واعتبرت الجبهة أية محاولة للتخريب او الإضرار بهذه الممتلكات إجراماً بحق الثورة.

فالجبهة - وهي تنظيم سياسي لا دولة - حرصت علي المحافظة علي الممتلكات الخاصة والعامة للافراد وللشركات وللمؤسسات، للمواطنين وللأجانب.. فيما لم تفعل صنعاء ذلك في حرب 1994‏وتركت النهب يسير علي قدم وساق! وأنا اجزم بأنه لو كان الحزب الاشتراكي اليمني يحارب حينئذ ليبسط سيطرته علي كل اليمن وتمكن من ذلك فعلا فوالله إنه لن يسمح لأعضائه او مناصريه أن يمارسوا أعمال النهب في صنعاء او في أية مدينة شمالية.

وسوف اتناول موضوع «النهب» في مقال قادم بعنوان «عزبة الخولاني» فالنهب الذي جرى في الجنوب هو من أهم السلبيات وبالأصح «الجرائم» التي ارتكبت بحق الجنوب والجنوبيين وجعلتهم ينفرون من الوحدة.

إحتلال يحترمك ووحدة تهينك!

رغم انتصار الكوماندور ستافورد هينز وانتزاعه عدن بالقوة العسكرية في 19 يناير 1839 ‏(وكانت عدن حينئذ مجرد قرية صغيرة فقيرة تنحصر فيما يعرف بكريتر ويسكنها نحو 600‏نسمة معظمهم صيادو اسماك من قبيلة العبدلي اللحجية ولم يكن هناك شيئ اسمه "عدانية" فقد كانت عدن من قرى سلطنة لحج، وكانت بيوتها قليلة ومعظمها من القش. وبين سكانها نحو 200 ‏يهودي وقليل من الأوروبيين يعملون كوكلاء للشركات الملاحية والبنوك الأجنبية) إلا انه - اي هينز- كتب في اليوم الرابع لاحتلال عدن ( 23 ‏يناير 1839 ) ‏خطابا إلي سلطان لحج محسن بن فضل العبدلي وجاء فيه : « إن كل من ياتي من.قبيلتكم إلى عدن سيحظى بكل مظاهر الاحترام, و انا اعرض عليكم تعاملا حرا مع اهالي لحج لتصدير بضائعهم او لبيع منتوج اراضيهم». لم يقل هينز للسلطان المهزوم وقبيلته بانه عليكم ان تأتوني صاغرين، او أنه يمنع عليكم تصدير بضائعكم عبر عدن الا اذا بعتم محاصيلكم في اسواقها، ولم يقل لهم بأن كافة ثروات اراضيكم يجب ان يكون لها وكلاء مننا نحن البريطانيين المنتصرين! ولو يقل لهم أنا المنتصر وانتم المهزومون الخونة! ولم يقل لهم « احتلال عدن او الموت »!

‏ولكن ذلك المنتصر البريطاني يقول للسلطان وقبيلته و بكل تهذيب - حتي وإن كان مصطنعا إلا أن الحاكم هينز كان يحرص علي إظهاره كشخص حضاري ولكي يكسب ود أبناء المناطق المحيطة بعدن والقريبة منها لا أن يتغطرس عليهم لينفروا من نظام حكمه - انه يقول لهم وبكل تهذيب بان من سيحضر منكم إلى عدن فسيحظى بكل مظاهر الاحترام، وهو لا يرغمهم على التعامل عبر عدن ولكنه « يعـرض » ‏عليهم «تعاملا حرا» وتاركا لهم القبول أو الرفض رغم حاجته الشديدة لتموين القوات البريطانية بعدن بالمحصولات الزراعية والمياه العذبة والتي تستطيع لحج ان تقدمها لهم، فتربة عدن ومناخها سيئان ولا يشجعان على زراعة المحاصيل الغذائية, وابار عدن شحيحة المياة.

الكابتن هينز يعرض على سلطان لحج واهالي لحج تعاملا حرا وذلك بمنتهي الأدب, فاين ذلك مما يحدث الآن في ظل الوحدة اليمنية حيث يقف الجنوبيون اذلاء على بوابة هذا المديرأو ذاك في الجنوب وكانهم شحاتون ينتظرون صدقته ! مع ان أكثرهم هم أفضل منه تعليما وثقافة ( وساتناول هذا الموضوع عندما نصل بإذن الله إلى مقال «عزبة الخولاني»).

ليس كل الجنوبين صعاليكاً

قلت بأن كرامة الناس هي أغلى من الوحدة ومما هو أكبر من الوحدة فليس مقبول من صنعاء ان تتعامل مع الجنوبيين باسلوب الإذلال فهم ليسوا صعاليكا او خدما عندها فحتى الخدم المنزليين ليس من مكارم الاخلاق اهانتهم.

هناك كثير ممن لا تعنيهم مسائل الكرامة والشرف والكبرياء ولكن هؤلاء هم رعاع وسوقه ويمكن للمرء ان يشاهدهم بكثرة في حواري عدن مثلا، لكن ليس كل الجنوبيين رعاع وسوقة حتي تتبع صنعاء معهم اسلوب الإذلال فهناك أيضا كثير من الجنوبيين أبناء ناس وكرامتهم وشرفهم أغلى عندهم من حياتهم نفسها وليس من مجرد الوحدة بل من حياتهم بكلها التي هي اغلى من الوحدة بكثير.

لن تخسر الوحدة شيئا إذا خسرت صعلوكا من الرعاع والسوقة ولكنها تخسر كثيراً عندما تخسر اشراف وكرام ووجهاء الجنوب، وقد رأت صنعاء كيف ان مضايقتها للجنوبيين ( الذين يعتزون بانفسهم ) في وظائفهم ورواتبهم قد أخرجتهم للشوارع وللساحات في عام 2007 ‏ليطالبوا بحقوقهم الوظيفية, ولان صنعاء راوغتهم فإنها جعلتهم يتحولون سريعا إلى مطالب سياسية بالمواطنة المتساوية، وركبت صنعاء رأسها من منطلق «ما عيفعلوا » فكانت النتيجة السريعة جدأ هي بروز مطلب الانفصال والعودة للدولة الشطرية والذي صار مطلبا شبه عام بالنسبة للجنوبيين (( ومع ان الجزء الأول من هذا المقال ترك اثرا طيبا لدى الاخوة الجنوبيين كلهم تقريبا بل ولدى كثير من الأخوة الشماليين الذين قالوا بانني محق فيما كتبته وان ما شكوت منه من تصرفات وغطرسة لدى صنعاء - وما اشرت اليه من مظالم يعانيها الجنوبيون هي اشياء ملحوظة فعلا لأبناء الشمال وهم يقدرون معاناة الجنوبيين وانهم - ­اي الشماليين - يعانون ايضا الكثير من المشاكل والمظالم ولذلك يتعاطفون مع الجنوبيين. ولكن انتقدني بعض الجنوبيين لانهم لا يرون اي جدوى من كتابتي عن الواقع المرير لهم فاذا كنت اهدف لإصلاح الوضع فإنهم كما قالوا قد تجاوزوا هذا فلم يعد الاصلاح يعنيهم في شئ فقد قرروا المضي في طريق الانفصال، و انا لا أعترض علي وجهة نظرهم ولا ألومهم في انهم قد قطعوا الحبل مع صنعاء لإصلاح الاوضاع في ظل الوحدة بل انني أقدر تماما دوافعهم ‏ولا أعيب عليهم مطلقا ان يكونوا انفصاليين وقد أعلنت وجهة نظري في صحيفة « الثوري » قبل ان يظهر شيء اسمه حراك جنوبي، وما يزال الكثيرون يتذكرون عبارة شهيرة كتبتها حينئذ في « الثوري » وهي ان الانفصالية ليست رذيلة كما ان الوحدة ليست فضيلة وإنما هما موقفان سياسيان ويحق لأي شخص ان يتخذ أحدهما)) وأقولها بصراحة بانني أفضل الوحدة على الانفصال إلا ان هذا التفضيل ستنهيه صنعاء اذا اصرت على عدم اصلاح الامور، وبلا شك ان مئآت الألوف من الجنوبيين الذين صاروا يبدون رغبتهم في الانفصال كانوا كلهم يومأ ما مثلي قد فرحوا بتحقيق الوحدة وصفقوا لها ولكنهم تحولوا لانفصاليين بسبب ممارسات السلطة بصنعاء تجاههم، فمن هو الكريم ابن الكرام من الجنوبيين الذي يمكن ان يقبل بأن يعيش في الجمهورية اليمنية بلا حقوق طبيعية أو سياسية وكأنه ليس مواطنا بل مجرد « مقيم » في هذه الدولة؟! إن من اهم العوامل التي هدمت كثيرا من الدول هو عامل « عدم المساواة » بين من يحملون جنسية نفس الدولة. إن عدم المساواة فيه اهانة واضحة للناس.

‏وهم الانفصال بدون قائد ولا تنظيم !

وما يخدم السلطة في استمرار الوحدة اليمنية رغم التذمر الجنوبي العام ليس هو استخدامها للعنف لاخماد اي تحرك انفصالي يبرز هنا او هناك فهذا الأسلوب وإن اثبت جدواه في بعض المناطق فإنه قطعا سيفشل اذا ما برز بين الجنوبيين ( الانفصاليين ) « القائد الزعيم الفذ » ومن حسن حظ صنعاء انه لن يظهر وقد كتبت في « الثوري » ايضا قبل ظهور الحراك بسنين منتقدا سلبيات عديدة اقترنت بالوحدة اليمنية وتضر بالجنوبيين واشرت إلى أنه من حسن حظ صنعاء انه لا يوجد في المعارضة الجنوبية ذلك « القائد الزعيم الفذ » وانه علي الأرجح ستمر مئات السنين قبل ان يظهر مثل ذلك الشخص النادر فالقدر لا يجود بمثله علي البلد الواحد إلا كل بضع مئآت من الأعوام. وأضيف الآن بانه ليس معني ذلك أن تطمئن صنعاء تماما إلى غياب ذلك الجنوبي القائد الزعيم الفذ، إذ ان ظهور قائد بمواصفات اقل أي « قائد ذا شأن » هو أمر أكثر احتمالا فاذا ظهر فإنه سيرهق صنعاء وسيكلفها ما لا طاقة لها به فالوضع في الجنوب يمثل تربة خصبة لنشاط ذلك القائد.

واذا كانت المشكلة الثانية أمام التحرك الانفصالي الجنوبي هي انه لم يستطع بناء تنظيم سياسي حقيقي او منظمة سياسية فعالة فإن هذه المشكلة هي نتاج للمشكلة الأولى وهي غياب « القائد الزعيم الفذ» او حتي « القائد ذو الشأن» ففي واقع الحال فإنه طالما لا وجود لذلك القائد الفذ أوالأقل منه درجة فإن الانفصال سيظل مجرد حلم يراود من يطلبون الانفصال فما نيل المطالب بالتمني !

تستطيع صنعاء عبر ما استخدمته حتى الآن من وسائل عنف ان تحد من ارتفاع الأصوات المطالبة بالانفصال لكنها لن تقضي عليها فمهما استخدمت من وسائل القمع فإنها لن تفعل أكثر من أن تضع رمادا ‏على الجمـر . وقد يبرز يوما « قائد ذا شأن » أو ربما يجييء وضع داخلي او اقليمي أو عالمي فيزيح الرماد و ينفخ في الجمر لتستعر النار.

ومن المؤسف أن السلطة لا ترغب في اتخاذ معالجات حقيقية لمشاكل أليمن عامة والجنوب خاصة، وقد أضاعت تقريبا كل الفرص الممكنة على الأقل لجعل الجنوبيين يتمسكون بالوحدة , لقد خسرت الوحدة الجنوب وما بقاؤه في الجمهورية اليمنية إلا بفعل القوة العسكرية فقط لا غيـر.


في الأحد 18 يوليو-تموز 2010 10:31:57 ص

تجد هذا المقال في مأرب برس | موقع الأخبار الأول
https://mirror1.marebpress.net
عنوان الرابط لهذا المقال هو:
https://mirror1.marebpress.net/articles.php?id=7551