مصر ... من وسط الأحداث 1
ابراهيم الجهمي
ابراهيم الجهمي

أحببت أن أنقل لكم من قلب الأحداث ما رايته وما شاهدته و عايشته وأعيشه الآن في مصر صور أخرى غير التي تشاهدونها عبر وسائل الاعلام .

وأسجل لكم وقائع منذ يوم إنطلاق المظاهرات العارمة, التي لم أشاهد لها مثيل طوال حياتي عشت في مصر نصف عمري ثمانية عشر عاما ... ومصر اليوم بالتاكيد ليست مصر منذ أسبوع ... تحول سريع ... وتغير كبير ... ما كنت لأصدق أن أشهد ما أشاهده الآن في مصر ..

ومعلوم لمن زار مصر من قبل أنها بلد الأمن والأمان ... القاهرة تلكم المدينة التي لا تنام .. ليلا ونهارا, تتجول في أرجاء مصر من قبل تجد الطرقات لا تخلوا من المارة والسيارات وكثير من المحلات لا سيما القهاوي لا تقلق على مدار الساعة وغيرها من الصيدليات والمراكز التجارية الكبرى ... كثير من المحال التجارية لا توجد لها ابواب لآنها تعمل على مدار الساعة وكثير منها أبوابها وجدرانها زجاجية, حتى البنوك ولا وجود لأي أمن في كل مكان فقط الجيش يحرس المنشآت الحيوية ..

القاهرة التي كانت في زخم الحياة والزحمة هنا وهناك ....

اليوم القاهرة ليست كما كانت ... خلال أسبوع تحول الحال وتبدل الى حالة اخرى ...

المعذرة فقد لا أجيد ترتيب الأفكار, ولكن سأبدأ معكم منذ إنطلاق شرارة الثورة الجديدة الوليدة ..

كانت مصر على موعد يوم 25يناير حيث أعلن الكثير من شباب وشابات مصر المثقفين وذلك من خلال موقع الفيس بوك للتظاهر السلمي والمطالبة بالتغيير على غرار ما حدث في تونس .

كثيرا ما سمعنا عن مظاهرات وشاهدنا مسيرات مهما كانت أعدادها ومهما كان حجمها , يصل بها المطاف الى نهاية في أغلب حالها إلى تدخل من قوات مكافحة الشغب وتفريق المتظاهرين والقبض على قيادات المظاهرات ويعود الناس أدراجهم بعد أن يكونوا قد أفرغوا جزء من شحنات الغضب أو التذمر .. ويكتفوا بانهم قد أوصلوا رسالتهم ... وهذا ما كنا نشاهده ونالفه على مر الاعوام ...

كان يوم الثلاثاء 25 يناير الذي سمي بيوم الغضب ... انتشرت مسيرات سلمية في جميع أنحاء المحافظات المصرية وفي أماكن مختلفة .. خرج فيها الآف الشباب والشابات ... وتصدت لهم قوات مكافحة الشغب بقوة وبشدة وبحزم كالعادة , وصدتهم بالقنابل المسيلة للدموع و العصي والهراوات .. وبخراطيم المياه ... ولقد رأيت أعدادا هائلة من المتظاهرين يرددون شعارات قوية في مجملها تطالب بمزيد من الحريات وبرحيل الرئيس حسني مبارك ..

كانت هذه الهتافات قوية جدا لم يكن أحد يتجرأ في قولها من قبل, أو أن يفكر في هذا القول في ظل نظام  قوي, ولا يمكن بأي حال من الأحوال التحدث بهذه اللهجة التي تمس شخص الرئيس ... وهذا معلوم في مصر ...

واستمرت الأحوال طوال تلك الايام و المتظاهرين متمسكين بمطالبهم وصامدين في موقفهم , والشرطة مصممة على ردعهم ... وتوالت المظاهرات حتى الخميس ما بين كر وفر ... ولكن حتى ذلك الوقت ما زالت الامور منضبطة ومستقرة بشكل تام ...

يوم الجمعة 28يناير( جمعة الغضب ) والبعض سماها جمعة الخلاص ... خرجت من بيتي قبيل صلاة الجمعة واتجهت الى مسجد أسد بن الفرات القريب من شارع التحرير وهو أحد الشوارع الرئيسية المؤدية الى ميدان التحرير ... وانذهلت عند مشاهدتي لجنود مكافحة الشغب منتشرين بكثافة هائلة وبايديهم الدروع الواقية والهراوات ومنتشرين على طول الطريق واعداد كبيرة منهم متواجدين داخل شاحنات كبيرة ... شعرت برهبة من المشهد الذي رأيته ... ترددت بين الإستمرار والذهاب للمسجد أو العودة والرجوع الى مسجد جانبي ... ولكن لا ادري ما الذي دفعني للمضي والذهاب للمسجد الكبير أسد بن الفرات ...

دخلت المسجد وعلى ابوابه كراسي عديدة يجلس عليها ضباط كبار وبايديهم الاجهزة اللاسلكية , والجو متوتر ... وكان المسجد الكبير مكتض بالمصلين وجلست بين الصفوف في الساحة الكبيرة الملحقة بمبنى المسجد ... وشاهدت في موقع متقدم على الصفوف بساحة المسجد حصيرة كبيرة خصصت لبعض ضباط الشرطة كانوا يجلسون عليها وهم غير الجالسين على الكراسي بخارج المسجد ..

بدأت خطبة الجمعة ... وكان الخطيب متيقنا بالجو المتوتر .. لمست ذلك من حديثه اثناء الخطبة ... ركز على الصبر في الشدائد والابتلاء وتحدث عن المعاصي التي تجلب البلاء ..

 وبين الخطبتين فوجئت بشيخ كبير في السن لحيته بيضاء في الصفوف الاولى امامنا يصرخ ويقول حسبنا الله ونعم الوكيل ويكرر العبارات وسرت قشعريرة بجسدي لما توالت أصوات المرددين من أرجاء المسجد وبصوت عال جميعهم يرددون حسبنا الله ونعم الوكيل .. حسبنا الله ونعم الوكيل ... وعلى الفور خرج الضباط الكبار الذين كانوا يجلسون أمامنا في الصفوف الامامية ورأيتهم يتكلمون عبر أجهزة الاتصال اللاسلكي وسرعان ما رايت الجنود وقد احاطوا بالمسجد من الخارج رأيت ذلك من خلال الاسوار الحديدية التي تتيح الرؤية من خلالها ..

وقام الخطيب للخطبة الثانية وأنقطع الناس عن الهتاف .. وانتهت الخطبة وتخوفت من أن يتصادم المصلين مع الشرطة المحيطة بالمسجد ولكن بحمد الله خرج الناس ومن حولهم الشرطة .. وابتعد الناس الى ميدان الدقي القريب من المسجد , وهناك تجمع الكثير من الشباب وفي دقائق رأيت الشباب يخرجون من جيوبهم وطيات ملابسهم الاعلام والشعارات وتجمعوا بأعداد كبيرة وبدأت الهتافات والمسيرات وازدادت ...

 واتجهت اعداد غفيرة جدا في شارع التحرير متجهة الى ميدان التحرير ... وقابلتها قوات مكافحة الشغب وتصدت لها من الامام ومن الخلف بحواجز واعداد كبيرة .. وانعطفت المسيرة الى شارع جانبي وهو سليمان جوهر وتكاثر الناس ورائها ومن هناك اتجهوا من خلال الشوارع الجانبية والفرعية وكلما دخلوا حارة انظم اليها اعداد اخرى وطبعا يصعب على الشرطة الدخول في الشوارع الفرعية خشية المصادمات مع الجماهير ...

وهكذا تجمعت حشود هائلة ومسيرات متعددة في انحاء القاهرة وفي كل ميادينها الرئيسية وكانت اكبر تلك الحشود التي اتجهت الى ميدان التحرير ...

رجعت الى البيت بعد اتصالات من الاهل يطلبون مني الرجوع خوفا علي ... تناولت طعام الغداء ... ولم استطع تحمل البقاء بالبيت ونزلت مهرولا لمشاهدة مالم اشاهده في حياتي من قبل ولم اكن اتوقع ان اشاهده ..

ذهبت الى ميدان الجلاء بداية الكوبري المؤدي الى ميدان التحرير ... ورأيت المعارض أيمن نور يتزعم هناك المظاهرة ومن حوله جماهير غفيرة جدا ويهتفون بصوت واحد عال( الشعب يريد إسقاط النظام ) ( ياجمال قول لابوك الشعب المصري بيكرهوك ) ( يامبارك شد حيلك السعودية في انتظارك ) ( جمعة الخلاص) (ارحل ارحل ارحل )  (عاش الهلال مع الصليب ) (شدي حيلك يابلد مصر جديدة بتتولد) ( نعيش بحرية كرامة انسانية ) (ارحل ياحسني ارحل ياحسني ) (باطل باطل باطل ) (ولسة ولسة ولسة ) ( بنقولها لك ثاني مرة حسني يابارد اطلع بره ) ( يامبارك ياخسيس الشعب المصري مش ذليل ) (بص بص الشعب المصري اهوه ) ( سلمية سلمية سلمية) (احنا مش جايين نخرب احنا جايين نوصل صوتنا ) ( الله اكبر الله اكبر ) ( ثورة ثورة حتى النصر إحنا بكل شوارع مصر ) .

وقبيل غروب الشمس كانت أقوى المشاهد التي ابكتني وأنا بينهم والله عندما هتفوا جميعهم وأكرر جميعهم صغيرهم وكبيرهم رجالهم ونسائهم ملتحين وغيرهم محجبات ومنفتحات كلهم ينشدون النشيد الوطني :

بلادى بلادى بلادى ***** لكى حبى و فؤادى

مصر يا أم البلاد **** أنت غايتى و المراد

و على كل العباد **** كم لنيلك من أيادى

مصر يا أم النعيم **** فزت بالمجد القديم

مقصدى دفع الغري **** و على الله اعتمادى

مصر أنت أغلى درة **** فوق جبين الدهر غرة

يا بلادى عيشى حرة **** و اسلمى رغم الأعادى

مصر أولادك الكرام **** أوفياء يرعوا الزمام

سوف نحظى بالمرام **** باتحادهم و اتحادى

جميع ها الهتافات بصوت واحد وصرخة واحدة تهز الابدان وترج المكان وتشعر كأنك في الحج الاكبر بل وأكثر ..

ورأيت مسيرات كبيرة بأعداد هائلة وطوفان بشري جارف متجهين نحو ميدان التحرير وكلما وصلت مسيرة من هنا وهناك لاقت ترحيبا من المسيرات الاخرى ... وكلهم يناشدون بعضهم بالتوجه لميدان التحرير لفك الحصار المطبق على المتظاهرين المحاصرين بميدان التحرير ... من قبل الأعداد الكثيفة لقوات الامن المركزي والوحدات الخاصة لفض المظاهرات ...

وشاهدت من بين المتظاهرين رجالاً ونساءاً ... شباب وشابات ... وكبار في السن وقليل جدا من الاطفال ...

والمتظاهرين بينهم مسلمين ومسيحيين وملتحين وغير ملتحين ونساء محجبات ولابسات الخمار ومتبرجات بل وبنات منفتحات كأنهن أوربيات ... والجميع بجوار بعض في مشهد مارأيت مثله في حياتي ... وجميعهم متعاونون وممسكون بأيدي بعض ...

وطبعا لا انسى أن أصف لكم التعاون الكبير والمنظم دون سابق ترتيب بين المتظاهرين ولكن واقع الحال دفعهم لتنظيم صفوفهم ولقد رأيت البعض يوزعون الماء بعد وصول امدادات منه ومساعدات من الأهالي والسكان ..

والبعض يوزع بسكويت .. والبعض يوزع مناديل للمتظاهرين الذين تنهمر دموعهم جراء الغازات المسيلة للدموع والخانقة .. ورأيت بعض الشابات يقمن برش بيبسي وخل على وجه الشباب الذين يختنقون بسبب الغازات المؤذية جدا التي أطلقتها الشرطة ... وهناك فرق إنقاذ وسيارات الإسعاف الكثيرة وأصواتها المجلجلة تنقل المصابين من الرصاص المطاطي أو المتكسرة عظامهم ... والمختنقين وفاقدين الوعي ...

ورأيت شاحنات كبيرة لنقل الجنود وقد تحطمت وأحرقت ودمرت ... وشاهدت بأم عيناي شاباً شكله غريب ولبسه يدل على انه بلطجي خلاف شكل وملابس المتظاهرين الدالة على انهم طبقة مثقفة وراقية جدا .. وكان ذلك الشاب يقوم بتكسير كشك للمرور سرعان ما نهره المتظاهرين ومنعوه بشدة وهتفوا بقوة سلمية سلمية سلمية ..

كل تلك المشاهد رأيتها وعايشتها وأنقلها لكم دون مبالغة أو إضافة وقد تكون هناك مشاهد كثيرة لم يكن بإمكاني مشاهدتها وسمعتها من غيري واكتفيت لكم بما شاهدته ورأيته بأم عيناي وسمعته بأذناي وشممته بأنفي ...

إن شاء الله على مدار الساعات القادمة سأجل لكم بقية المشاهد المتلاحقة والمثيرة والمتسارعة التي إنقلب الحال رأساً على عقب ... فجأة انعدم الامن واختفت الشرطة .. واغلقت البنوك وشحت النقود .. وقلت المواد الغذائية في الاسواق .. وفرض حظر التجول .. ورأيت حرائق هائلة ودمار كبير في عدة أماكن ..

على موعد معكم في الساعات القادمة حول :

  • تطور الأحداث منذ يوم السبت 29 يناير حتى اليوم الخميس 3فبراير (أحداث مؤسفة ومؤلمة)
  • حال الجالية اليمنية في مصر .
  • حقيقة المشادات مع السفارة بالقاهرة والخطوط اليمنية.
  • مواقف صعبة للكثير من اليمنيين في مصر .
  • شكر خاص لموقع مأرب برس .
  • الشكوى لغير الله مذلة ... (وأفوض أمري إالى الله إن الله بصير بالعباد )
  • احذر عن كارثة حقيقية لا قدر الله للجالية اليمنية في مصر حال إستمرار الوضع ..

*أرجو من اخواني الدعاء بأن يفرج الله عنا ما نحن فيه ...

 * رئيس الجالية اليمنية في مصر


في الجمعة 04 فبراير-شباط 2011 04:01:03 م

تجد هذا المقال في مأرب برس | موقع الأخبار الأول
https://mirror1.marebpress.net
عنوان الرابط لهذا المقال هو:
https://mirror1.marebpress.net/articles.php?id=8990