ليس لدى ملك الملوك من يؤويه
محمد العلائي
محمد العلائي

كان هادئاً ولم يكن. ولقد راح سيف الإسلام القذافي يطأطئ رأسه ويرفعه، يقلِّب عينيه ويرمش بهما علامة الأسى وربما القلق، يرفع سبابته مهدداً بضع مرات ويخفضها، بينما كانت صلعته الملساء تومض بالاخضرار الناجم عن انعكاس الأضواء لجدارية عليها خريطة الجماهيرية العظمى معبأة بلون "ملك الملوك" العزيز على نفسه.

ظل يتحدث قرابة الساعة. تنوع صوته خلالها بين المنخفض والمنخفض جدا لرجل يتحدر من عائلة تتمتع بنزوع مسرحي ذائع الصيت. كان هذا الشاب المتجهم، الذي ولد في 1972، يريد تمرير الرسالة البسيطة جداً والفظيعة جداً في آن: إما نحن إلى الأبد، أو الخراب التام.

وقبل سيف الإسلام القذافي، كان الاستعمار الايطالي في مرحلته الفاشية، قد لجأ إلى هذه القاعدة التي قد تسمى في أدبيات الحرب بـ"السلام الروماني"، السلام الذي يستند إلى هذه المعادلة المفرطة في وحشيتها: الاستلام المطلق أو الإبادة المطلقة. وبين الخيارين المريرين، كان الليبيون قد شقوا طريقهم إلى الاستقلال والتحرر الوطني عبر سلسلة ملاحم أسطورية من الكفاح الخالد والفداء.

لكن من خلف لهجة نجل القذافي المنذرة بالشر، والتي تلائم زعيم مافيا غليظ القلب شعر فجأة بالتهديد، خلف هذه اللهجة كانت تطل غيمة من الوهن المباغت لنظام حكم استسلم كلية لإغراء الأبدية، واستسلم العالم حياله لروح الظرافة النادرة التي تضفيها غرابة أطوار القذافي الأب وعائلته على السياسة الدولية والحكم.

أظن أن سيف الإسلام كان يفكر بصوت عال. كان يقول كل ما يمكن أن يخطر على بال أسرة حاكمة تعرف كيف توظف مخاوف شعبها بشأن المستقبل، وتناقضاته، والعلل التي سهرت على تغذيتها، في سبيل دوام ملكها.

لهذا، عبثا أخذ الرجل يثير كل التناقضات الاجتماعية والجغرافية والديموغرافية لكي يشيع الهلع في نفوس الليبيين ولاستنفار بعضهم تجاه الآخر. لكن هذه ليبيا. "آخر البداية وأول النهاية". كانت ليبيا من أواخر الدول العربية التي خضعت للاستعمار الحديث، وكانت من أوائل الدول العربية التي نالت استقلالها، طبقا للمفكر المصري جمال حمدان.

صحيح ليبيا، على غرار اليمن، تمتلك تاريخ سياسي مضطرب ومجزأ. ولا بد أن الغموض الكامل يكتنف مستقبل الليبيين بعد سقوط الطاغية، إن سقط، أكثر مما هو الحال في اليمن. ومع ذلك فالليبيون تعلموا كيف ينسجون عشهم من جديد على أنقاض القوة التدميرية لطليان الخارج الفاشيين، أو مجانين الداخل الأكثر فاشية.

إن الغاضبين في كل ربوع ليبيا يكتبون الآن بلا كلل نهاية لواحدة من أعتى الديكتاتوريات العربية وأشدها دموية وفساداً. ليس مهماً كم يحتاجون من الوقت لتطهير بلادهم من حكم المغفل المتذاكي وعائلته، وليس مهماً أن كفاحهم اتخذ طابعاً عنيفاً، ما هو مهم في نهاية النهايات هو أن يحصل هذا البلد المترامي الأطراف، الغني بالنفط، على خلاصه مع الاحتفاظ بقدر من التلاحم الوطني والتماسك.

لقد ولدت ليبيا الحديثة على مراحل. وكانت العلاقة التاريخية بين طرابلس (غرب ليبيا) وبرقه (شرق ليبيا) وأحيانا فزان (جنوب غرب ليبيا) تتأرجح في تناوب مستمر بين الافتراق والتلاقي. وكتب جمال حمدان عن الاقتسام الثنائي بين طرابلس وبرقة، وكيف أن هذا الانقسام هو أحد أبرز ملامح التاريخ الجيوبوليتيكي لليبيا. وأشار حمدان إلى ثمان حالات خضعت فيها برقة لقوة أجنبية في حين خضعت طرابلس لقوة أجنبية أخرى.

ومثلما هو الحال في اليمن، لا يخلو التاريخ السياسي لليبيا من حالات توحد إقليمي وإن كان تحت وصاية قوة أجنبية تركية أو رومانية أو ايطالية فيما بعد. في 1949، أعلنت "السنوسية" قيام "دولة برقه المستقلة"، بمعزل عن طرابلس وفزان، بالاتفاق مع البريطانيين. والسنوسية حركة دينية سياسية صحراوية "خلقت نمطا محددا في الجغرافيا السياسية للعالم الإسلامي، هو نمط دول شيوخ الطرق وملوك الصحراء، وكانت ابرز أمثلته هي الوهابية والمهدية إلى جانب السنوسية"، بحسب جمال حمدان.

في 1952، تم الاتفاق على الوحدة بين أجزاء ليبيا الثلاثة لكنهم اختلفوا على شكل الدولة. كانت طرابلس، وقد قبلت حكم السنوسية، تطرح الوحدة الاندماجية الكاملة، بينما كانت برقه وفزان تطرحان الدولة الاتحادية، بالنظر إلى أن برقة كانت قد أصبحت دولة مستقلة.

وبالفعل انتهى التفاوض إلى أن شكل الدولة فيدرالي يتكون من ثلاث ولايات هي: برقة وفزان وطرابلس، على أن تحظى برقة بوضع خاص. وصار الحاكم يدعى "ملك المملكة الليبية وأمير برقة".

اكتشف البترول في حوض "سرت" مطلع الستينيات، وهي منطقة تمثل حلقة وصل بين جناحي ليبيا الأساسيين. بعد سنتين من ظهور النفط، تم إعلان ليبيا دولة موحدة عام 1963، وجرى تقسيمها إداريا لتغدو الولايات الثلاث 10 محافظات. وهذه من الدلائل المهمة التي تؤكد دور النفط في وحدة ليبيا على النحو التي هي عليه الآن.

وإذا كان للبترول دورا جوهريا في وحدة ليبيا، كما يعتقد جمال حمدان، فإن البترول أيضا هو الذي زرع بذور التغيير الاجتماعي والطبقي أواخر الستينيات، التغيير الذي أطاح بالمملكة السنوسية ودفع بمعمر القذافي إلى الواجهة.

الانقلاب الذي نفذه القذافي، عام 1969، وقع في سياق تأثير المد الثوري الناصري. ومن سخرية القدر أن الملكية "التقليدية" التي أنهاها القذافي، استبدلت بملكية مجنونة لا مثيل لها في التاريخ ربما. ولسوف تغدو ليبيا بكاملها معملاً لأكثر الأفكار السياسية غرابة وانحرافاً، أفكار هجينة ومستهجنة أعادت تشكيل ليبيا على نحو سيجعل من الصعوبة بمكان محو آثارها الاجتماعية والثقافية في المستقبل.

تكمن المفارقة الصارخة في أن القذافي كان ينتهك ليبيا ثمناً، يعتبره مستحقا، لتخليصهم من الملكية، وفي نهاية المطاف يعلن نفسه بوقاحة لا تنم عن سوية إنسانية: ملك ملوك إفريقيا، وإمام المسلمين وعميد الحكام العرب. وهو قبل ذلك وبعده قائد ثورة الفاتح من سبتمبر العظيم.

في الأخير، ما أريد قوله هنا هو أن الليبيين، أكثر من التونسيين والمصريين، يكتبون خلاصنا الآن. إنهم اختبار حقيقي لما يمكن أن يحدث في بلد منقسم جهوياً وعشائرياً وطوبوغرافياً، اختبار حاسم للكيانات السياسية حديثة النشأة الأقل تجانساً، والتي خضعت عبر التاريخ الطويل لتدخلات خارجية متعاقبة واستعمار مزدوج أو متعدد، ثم لأنظمة حكم بغيضة متخلفة جشعة طائشة، اختبار لكل البلدان التي تبحث حاليا عن التحرر والانتقال الديمقراطي وسط ركام من المشاكل والتحديات والعقد.

الليبيون يدكون حصون "ملك الملوك". ملك الملوك لن يهرب، ليس لفائض شجاعته بل لأنه لم يوفر صديقا في العالم كي يؤويه!


في السبت 26 فبراير-شباط 2011 10:54:15 ص

تجد هذا المقال في مأرب برس | موقع الأخبار الأول
https://mirror1.marebpress.net
عنوان الرابط لهذا المقال هو:
https://mirror1.marebpress.net/articles.php?id=9254