مصر.. جمعة الغضب والحرية..أم جمعة القيامة؟
بقلم/ توهيب الدبعي
نشر منذ: 13 سنة و 9 أشهر و 25 يوماً
الإثنين 31 يناير-كانون الثاني 2011 06:35 م

شاهدت كما شاهد غيري الفضيحة الكبرى التي مني بها الزعماء والمسئولون في الحكومات الظالمة، وعلى مسمع العالم كله تهتف شعوبهم: انتم لصوص وخونة ارحلوا عنا ..كذلك وهم يطالبون بمحاكمتهم على ما ارتكبوا من الجرائم ونهبوا من الأموال، والأنظمة الغربية تحجز على أرصدتهم في البنوك، وهم يفرون ولا يدرون إلى أين \" يقول الإنسان يومئذ أين المفر\" انه أشبه بمشهد يوم القيامة حين يفضح الله الظالمين واللصوص على رؤوس الأشهاد، وعلمت حينها أن تلك الدعوات التي كنا نرفعها إلى الله في المنابر وأبواب المحاكم وداخل السجون قائلين \" اللهم افضح الظالمين على رؤوس الأشهاد \" قد أجيبت وان الله كان يقول ونحن نرددها في يأس \" وعزتي وجلالي لأنصرنك ولو بعد حين\" وان الله يملي للظالم حتى إذا أخذه لم يفلته. \" وقد تحقق وعد الله \" ولا تحسبن الله غافلا عما يعمل الظالمون\" \"وسيعلم الذين ظلموا أي منقلب ينقلبون\".

وأحببت هنا أن أقول لبقية الشعوب العربية ولشعب اليمن خاصة أن الحرية ليست منحة تمنح، أو علما يكتسب، إنها إحساس عميق كامن في ثنايا الروح، وقابع في دهاليز النفس.الحرية إحساس سحري وشعور فطري .. لا يعدلها أي شعور آخر .. شعور يولد مع الإنسان ويكبر معه، ومهما حاول الآخرون نزعه من داخلك فلن يستطيعوا.

وقد تعيش في بلد يعج بالقمع والظلم والقهر والكبت والحرمان ومصادرة الحريات، لكنك تعيش حريتك بداخلك، فهي كنزك الدفين الذي لا يستطيعون سلبه منك. قد تكون سجينا في غياهب السجون والمعتقلات في سابع أرض .. لكنك تحلق عاليا بحريتك، وتشعر بانفرادك عن الآخرين .. وقد تكون أكثر حرية بداخلك من سجانك.

وقد صور الأديب الراحل مصطفى المنفلوطي الحرية بأنها الشمس التي يجب أن تشرق على كل نفس، فمن عاش محروما منها عاش في ظلمة حالكة يتصل أولها بظلمة الرحم وآخرها بظلمة القبر. ولولاها لكانت حياة الإنسان أشبه شيء بحياة اللعب المتحركة في أيدي الأطفال حركة صناعية.

وقد صنع الإنسان القوي للإنسان الضعيف سلاسل وأغلالا , وسماها تارة نظاما وأخرى قانونا , ليظلمه باسم العدل , ويسلب منه جوهرة حريته باسم القانون والنظام. صنع المستبد للإنسان الضعيف هذه الآلة المخيفة , وتركه قلقا حذرا ، مروع القلب ، مرتعد الفرائص ، يقيم من نفسه على نفسه حراسا تراقب حركات يديه وخطوات رجليه وحركات لسانه وخطرات وهمه وخياله , لينجو من عقاب المستبد ويتخلص من تعذيبه , فويل له ما أكثر جهله ! وويح له ما أشد حمقه ؟

وهل يوجد في الدنيا عذاب أكبر من العذاب الذي يعالجه؟ أو سجن أضيق من السجن الذي هو فيه؟.

ليست جناية المستبد على أسيره أنه سلب حريته , بل جنايته الكبرى عليه أنه أفسد عليه وجدانه , فأصبح لا يحزن لفقد الحرية , ولا يذرف دمعة واحدة عليها. فترى الطير يحلق في الجو , والسمك يسبح في البحر , والوحش يهيم في الأودية والجبال , والإنسان يعيش رهين المحبسين: محبس نفسه ومحبس حكومته المستبدة من المهد إلى اللحد.

والذين سرقوا حرياتنا هم الحكام وسدنة الحكام من أهل الفكر والثقافة أو أهل الدين إلا من رحم ربك الذين جعلوا الشعوب هم الكرة التي يلعب بها الطرفان حتى قالوا لنا:

صوموا ولا تتكلموا

إن الكلام محرم

ناموا ولا تستيقظوا

ما فاز إلا النوم

إن قيل إن نهاركم ليل

فقولوا مظلم

أو قيل هذا شهدكم مر

فقولوا علقم

لكننا رضعنا الحرية صغارا حين كان المعلم يلقننا نشيد البلبل:

قد كان عندي بلبل

في قفص من ذهب

وكان يشدو دائما

بلحن صوت مطرب

ولم أكن امنعه

من مأكل أو مشرب

فطار مني ونأى

من دون أدنى سبب

وقال لي حريتي

لا تشترى بالذهب

كلمات كنت اسمعها وأنا طفل صغير ولم أع معناها وكنت أتساءل: هذا الذهب نعرف قيمته ولكن ما قيمة هذه الحرية التي تغنى بها البلبل وفضلها عن الذهب؟ ولما كبرت أدركت قيمتها في كلمات أم كلثوم

اعطني حريتي أطلق يديا... إنني أعطيت ما استبقيت شيئا

إن من يصادر حرية الشعوب ولو أطعمهم وسقاهم واسكنهم في قفص من ذهب لا يهبهم الحياة الكريمة فما بالك بمن يصادر حريتك وطعامك وشرابك ولا تجد مأوى تسكن فيه؟

لو عرف الإنسان قيمة حريته المسلوبة منه وأدرك حقيقة ما يحيط بجسمه وعقله من القيود , لانتحر كما ينتحر البلبل إذا حبسه الصياد في القفص , وكان ذلك خيرا له من حياة لا يرى فيها شعاعا من أشعة الحرية , ولا تخلص إليه نسمه من نسماتها.

ليست الحرية في تاريخ الإنسان حادثا جديدا , أو طارئا غريبا, وإنما هي فطرته التي فطر عليها منذ كان وحشا يتسلق الصخور , و يتعلق بأغصان الأشجار. إن الإنسان الذي يمد يديه لطلب الحرية ليس بمتسول ولا مستجد وإنما هو يطلب حقا من حقوقه التي سلبته إياها المطامع البشرية , والحكومات المستبدة، فإن ظفر بها منه فلا منة لمخلوق عليه , ولا يد لأحد عنده.

والحرية لا تنال إلا بالتضحية كما قال أمير الشعراء:

وللحرية الحمراء باب

بكل يد مضرجة تدق

والحرية فعل جماعي يجب أن تكون متاحة للجميع، ويتمتع بها كافة الناس دون تحديد، وأجمل مشاعر الحرية هو أن تدافع عمن سلبت حريتهم وتكافح من اجل أن تعاد إليهم وفي سبيل الكفاح من اجل الحرية يقول الزعيم الأفريقي نيلسون مانديلا: \" الحرية لا يمكن أن تعطى على جرعات، فالمرء إما يكون حرا أو لا يكون حرا\" ، نعم لا توجد منطقة وسطى فالمرء إما أن يكون حرا أو عبدا ، وقد عبر عن هذا احد شباب مصر على البي بي سي قائلا \" سأخرج من اجل الحرية فإما أعود بحريتي أو أموت بكرامتي\".

وعن الأنظمة المستبدة التي صادرت حرياتنا يقول المفكر المصري عباس محمود العقاد: \" إن المذهب السياسي أو الاجتماعي الذي يسلبنا الحرية، يسلبنا أعز نعمة في الحياة الإنسانية، بل يسلبنا كرامة الإنسان ويستحق منا المقت والازدراء \".

إن القيود التي يكبل بها السجان أقدام الأحرار تستحيل إلى سهام تفتك به كما قال أبو الأحرار:

إن القيود التي كانت على قدمي

صارت سهاما من السجان تنتقم

وما ثورة الشعب التونسي والمصري والتأييد من الشعوب الأخرى في اليمن والأردن وغيرها والتي سيأتي دورها إلا دليلا صارخا على أن هذه الشعوب العربية كانت مكبلة في وطن كبير أحاله المستبد إلى سجن مظلم رهيب. وانه من دون شك لن تصل الأمة إلي برد اليقين ونعيم الحرية، بل ستظل ترسف في أغلال الوهم وجحيم العبودية، وليس أمامها للخروج من هذا التيه سوى الثورة من اجل الحرية أو الطوفان.

وأخيرا اهدي للقارئ الكريم بعد أن تعب في قراءة مقالتي الطويلة المملة هذه القصيدة للشاعر الكبير نزار قباني رحمه الله والذي تنبأ فيها بما يجري اليوم في قصيدته \"يا تونس الخضراء\" والتي ألقاها في مقر الجامعة العربية في تونس 1982م أمام الزعماء العرب مخاطبا تونس ثم مصر ثم بقية العرب كأنه كان يقرأ الثورة القادمة وأنها ستنطلق من تونس مرورا بمصر حاملة شعلتها إلى البلاد العربية الأخرى:

يا تونس الخضراء جئتك عاشقاً

وعلى جبيني وردةٌ وكتابُ

ماذا أقول؟ فمي يفتش عن فمي

والمفردات حجارة وتراب

من أين يأتي الشعر؟ حين نهارنا

قمع وحين مساؤنا إرهاب

سرقوا أصابعنا وعطر حروفنا

فبأي شيء يكتب الكتاب؟

والحكم شرطي يسير وراءنا

سراً فنكهة خبزنا استجواب

يا تونس الخضراء هذا عالم

يثري به الأمي والنصاب

فمن الخليج إلى المحيط قبائل

بطرت فلا فكر ولا آداب

هل في العيون التونسية شاطئ

ترتاح فوق رماله الأعصاب

أنا يا صديقة متعب بعروبتي

فهل العروبة لعنة وعقاب؟

أمشي على ورق الخريطة خائفاً

فعلى الخريطة كلنا أغراب

أتكلم الفصحى أمام عشيرتي

وأعيد لكن ما هناك جواب

لولا العباءات التي التفوا بها

ما كنت أحسب أنهم أعراب

وخريطة الوطن الكبير فضيحة

فحواجز… ومخافر… وكلاب

والعالم العربي إما نعجة

مذبوحة…. أو حاكم قصاب

والعالم العربي يرهن سيفه

فحكاية الشرف الرفيع سراب

والعالم العربي يخزن نفطه

في خصيتيه وربك الوهاب

والناس قبل النفط أو من بعده

مستنزفون فسادة ودواب

يا تونس الخضراء كيف خلاصنا؟

لم يبق من كتب السماء كتاب

ماتت خيول بني أمية كلها

خجلاً وظل الصرف والإعراب

فكأنما كتب التراث خرافة

كبرى…. فلا عمر ولا خطاب

وبيارق ابن العاص تمسح دمعها

وعزيز مصر بالفصام مصاب

من ذا يصدق أن مصر تهودت

فمقام سيدنا الحسين يباب

ما هذه مصر فإن صلاتها

عبرية… وإمامها.... كذاب

بحرية العينين يا قرطاجة

شاخ الزمان وأنت بعد شباب

أنا متعب ودفاتري تعبت معي

هل للدفاتر ياترى أعصاب

إن الجنون وراء نصف قصائدي

أوليس في بعض الجنون صواب؟

فإذا صرخت بوجه من أحببتهم

فلكي يعيش الحب والأحباب

وإذا قسوة على العروبة مرة

فلقد تضيق بكحلها الأهداب

فلربما تجد العروبة نفسها

ويضئ في قلب الظلام شهاب

لا تغضبي مني إذا غلب الهوى

إن الهوى في طبعه غلاب

فذنوب شعري كلها مغفورة

والله جل جلاله التواب