الترف القاتل
بقلم/ د. محمد معافى المهدلي
نشر منذ: 16 سنة و 10 أشهر و 7 أيام
الثلاثاء 15 يناير-كانون الثاني 2008 09:30 م

مأرب برس - خاص

إنه الترف العربي، الأعجب والأغرب في عالمنا، لأنه ترف قائم على حساب الكرامة والحرية والإنسانية العربية، ولعلّ من جميل القدر أنه قبيل كتابة هذا المقال طالعت خبراً عن يومية صحيفة "المصريون" المتألقة بتاريخ: 9 - 1 – 2008م عن إقالة مسئول صيني بسبب إقامته جنازة فخمة لوالدته، وحين طالعت الخبر كنت أتوقع أن يكون هذا الصيني أقام وليمة لألف شخص مثلاً، وذبح عجولا وثيرانا كثيرة، ولمدة أيام متوالية، ففوجئت بأنه أقام وليمة ضمت أكثر من 100 مائدة فقط وتلقى مع ذلك هدايا من بعض الزوار!!. وكانت هذه جريمة كافية لإقالة سعادة المسئول من منصبه في الحزب الشيوعي، بسبب البذخ الكبير والإسراف المنقطع النظير، (كما يراه الصينيون) وحسبك بهذا جريمة عند العقلاء، مع أنها الصين ذلك التنين العظيم، والدولة الصناعية والاقتصادية الكبرى!! .

 وفي نفس الصحيفة ومن عناوينها البارزة كتب صلاح الدين أحمد (المصريون): بتاريخ 12 - 1 – 2008،: "قيمة فستانها الواحد 30 ألف جنيه.. اتحاد الإذاعة والتلفزيون أنفق 20 مليون جنيه على المطربة أمال ماهر خلال ست سنوات"، وأسهبت الصحيفة في الحديث عن ألوان الفساد المالي والفني، بما لا حاجة لإعادة تكراره هنا .

إلى غير ذلك من العناوين الكثيرة والمانشيتات المثيرة التي نقرأها كل يوم في صحافتنا العربية، عن أساتذة البذخ العالمي، في عالمنا العربي، العالة في كل شيء على غيرهم، وهذا هو الأعجب والأغرب، كما أسلفنا .

ترى ماذا سيفعل بنا الصينيون لو علموا هذا الأرقام الخيالية العربية من الترف والبذخ التفسخ، ولو علموا ما نحن فيه من شره وإسراف، في مجتمعاتنا، ورأوا حفلات أعراسنا، وموائدنا الفخمة والعظيمة التي ترمى في القمامات، في الوقت الذي نمنع فيه بعض لقيمات عن إخواننا المحاويج، في فلسطين، غزة، ورأوا كيف نفرض حصاراً على شعوبنا الحرة والمستميتة لأجل كرامتها وحريتها واستقلالها، شعوب تصارع الموت جوعاً وكمداً وقهراً، كالشعب الفلسطيني والعراقي والأفغاني والصومالي، وغيرها من شعوبنا المظلومة، التي ظلمت أولاً من جيرانها وإخوانها في الدين والعقيدة؟!! .

ترى هل سيقول الصينيون عنّا والحال هذه، إخوان الشياطين أم نحن الشياطين أنفسهم؟!! .

إنّ ثقافة البذخ الكاذب تغزو كل مكان من شؤون حياتنا، تحدثك عن هذه الثقافة السيارات الفارهة، والمساكن التي بعضها عبارة عن متاحف مليئة بكل ما غلا وندر، والأعراس التي تقام في الصالات الكبرى، والموائد الفخمة، وألوان الذهب وحلي النساء، وأدوات الزينة، وأنواع العطور وأدوات التجميل .

 وتحدثك الاحتفالات الهائلة في أي مناسبة أو بدون مناسبة، باسم الأعياد الوطنية، فيما المحتفلون بها، هم من اغتالها، ومن انقلب عليها، بلا منازع!!.

 وكذا بذخ السفريات والتنزه، إلى بلاد الكفار، إلى ألوان مما يسمى برعاية الحيوان.. هذا على مستوى عوام الناس .

 أما البذخ الحكومي فالقلم يعجز عن وصفه أو الاقتراب من الحديث عنه، أو ربما عجز عن تخيله، فالخيال العلمي يقف حائراً عاجزاً عن وصف أو حصر بيوت المسئولين وحدائقهم وتجاراتهم، وفنادقهم وسفرياتهم ورحلاتهم، وخدمهم وحشمهم، وموظفيهم...الخ، مما لا يعلمه إلا الله، والملائكة، فيما يزعم أحد الرؤساء العرب ضمن مسلسله التمثيلي التراجيدي المحزن والمخزي أن راتبه لا يتعدى ألف دولار!!. فواحسرتاه!!.

ألا ليت شعري، لو أنه أزيلت عن الأمة هذه المظاهر الزائفة والكاذبة، والخادعة، هل سيبقى في الأمة فقير أو جائع أو محتاج، أو أعزب، أو مدين، أو مشرد، وكما قال بعض الحكماء، "ما رميت لقمة طعام إلا وهي حق لفقير أو جائع أو محتاج" .

إن شراء سيارة مثلاً بمبلغ ثلاثمائة ألف دولار، ترى لو أنشأ بهذا المبلغ مصنع أو مزرعة كم من الأيدي العاملة ستعمل في هذا المصنع أو المزرعة؟، وكم سنكفي من الأسر والبيوت ذل الحاجة والفاقة، ومما يزيد من حجم الكارثة والبلوى أن يكون في غالب الأحيان صاحب هذه السيارة الفخمة هو الأكثر حاجة لهذا المال من غيره، لكنه حب الظهور، والتظاهر بالترف الكاذب .

ثمة عواقب ينبغي بل يجب أن نقف إزاءها ونحن نتحدث عن البذخ والسرف القاتل، إنها فواتير الذل العربي وكمبيالات الاستعباد والخنوع العربي، ولعلك تدرك أيها البصير جيداً أسباب العجز العربي عن أي قرار أو رأي عربي، حتى في أدق خصوصياتنا وأهم قضايانا المصيرية، فإلى هذه اللحظة تعجز أنظمتنا العربية حتى عن قرار زراعة القمح والأرز، فضلا عن القرارات السياسية والمصيرية الكبرى، فشعوبنا وحكوماتنا أسيرة الديون الضخمة مقابل هذا البذخ القاتل من سيارات وفلل ومواد استهلاكية، فمتى نفيق؟ .

إنّ علينا ونحن نرنوا إلى إشاعة ثقافة التحرر العربي أن نشيع قبل ذلك ثقافة التحرر الاقتصادي، وقبل أن نعلن ثقافة المقاومة والاستبسال، علينا أن نشيع فينا ثقافة مقاومة مظاهر البذخ والترف القاتل، كما قال ربنا جل وعلا: ‏‏{‏ولا تجعل يدك مغلولة إلى عنقك ولا تبسطها كل البسط‏}. الإسراء. 29.

وإنا لله وإنا إليه راجعون.