أضواء فقهية على مذكرات "من أبراج الخليج الى قصور مأرب" 2-4
بقلم/ د. محمد معافى المهدلي
نشر منذ: سنتين و 3 أسابيع و 4 أيام
الثلاثاء 08 نوفمبر-تشرين الثاني 2022 07:49 م

مذاكرةٌ في شرعية جماعات وحركات الإنفصال في الوطن العربي. سبق الحديث في الحلقة الماضية عن استحالة حصول أي وجه من أوجه الاعتراف الدولي بحركات الإنفصال في الوطن اليمني أو العربي أو الإسلامي، وقصارى ما يمكن أن تثمره هذه الدعوات الجاهلية أن تجد اعترافًا محدودًا من بعض الدول

_ ذات الكيانات الصغرى الهامشية_كحركة الانفصال الصومالية "أرض الصومال" أو حركة جبهة البليساريو المغربية، لا أكثر، وأن النتيجة لهذا الاعتراف - إن وقع- هو إضعاف الدولة المركزية وتهميش دورها، وزرع الفتن والقلاقل في طريق سيرها، وتخريب وتدمير منجزاتها، وتفريق جمعها، وشقّ صفّها، وإهدارُ ثرواتها، وتسليط أعدائها عليها، وإفساد أُلفتها، وتسميم حياتها، وخَلْخلة كلمتها، واختلاف توجهاتها، وتبديد مقدراتها، وتسيّد الأقوياء عليها، فقط لا غير، أما أن تحصل هذه الحركات الإنفصالية على أيّ مكسبٍ كالاستقلال أو سيادة قرارها فهو من أمحل المحال، ولن تجد هذه الحركات نفسها يومًا ما إلا في مهب الريح، وورقةً رخيصةً يستخدمها أعداء الوطن أو منديلاً لتلميع بعض القاذورات ثم يُرمى بها في سلّة النفايات، كما هو الحاصل مع حزب العمال الكردستاني الذي لم ينل استقلالاً على مدى نصف قرن، وحتى اللحظة، رغم كل وسائل الدعم الخارجية، بالمال والسلاح.

بيد أنّ ثمة دعاوى للإنفصاليين يمكن مناقشتها، برويّةٍ وحكمة، لمعالجتها، وهي على النحو الآتي:

١. دعوى أنّ في الإنفصال تمكين للأقاليم المنفصلة من النهصة والثروة والمال، وبدلًا من أن تُصرف هذه الثروة على عدد كبير من الأقاليم فيمكن صرفها في نهضة إقليم واحد، أو أقاليم محدودة، ليفيض المال ويعم الرخاء والإزدهار.

وجوابه : أنّ هذا محض وهْمٍ وخيال فمعلوم أنّ الأقاليم الإنفصالية هي الأكثر تضرراً، فمتى سيملك هذا الإقليم قراره، وهو لم ينفصل إلا تنفيذًا لأجندة خارجية استعمارية، وفرّ الانفصاليون - في واقع الحال_ من رحاب الوطن الذي يسع الجميع، مهما تعددت فيه الآراء والمواقف إلى بؤس وفجور التبعية والذل للكفيل والوصي والمستعمر الخارجي، ومن الأدلة على ذلك:

١. عجز المجلس الإنتقالي اليمني-على سبيل المثال- حتى اللحظة عن إحداث أية نهضة في المحافظات الست أو السبع التي يسيطر عليها، بل ازدادت الخدمات تدهورًا منقطع النظير، على مدي سنيّ الانتقالي السبع العجاف، منذ ٢٠١٥م، وإلى اليوم.

٢. فشوّ معدلات العُنف والاغتيالات والجريمة في هذه الأقاليم الانفصالية،بسبب حالة الفقر والبطالة التي تضرب بكلْكَلها أنحاء المحافظات الجنوبية.

٣. شبه تعطل لكل المنافذ البرية والبحرية والموانئ وفي مقدمتها ميناء عدن التاريخي، وبالكاد يتم تشغيله بما يكفي جيوب الإنفصاليين.

فهل لعاقلٍ أن يتصور أن يجد نهضة أو ازدهارًا في ظل سيطرة الإنفصاليين في الوطن العربي ولو بعد مائة عام، والمجلس الانتقالي اليمني أنموذجا، كما سبق بيانه.

٢. يزعم الإنفصاليون أنّ من أهم دواعي الإنفصال أنّ بعض الأقاليم ستكون عالةً على إقليم أو أقاليم محددة، وأنّ الأقاليم الأغنى ستعولُ الأقاليم الأفقر، أو الأقاليم غير المنتجة، وهذا توزيع للثروة غير عادل؟!.

وجوابه: لو نتدارس على سبيل المثال الأقاليم اليمنية فسنجد أنّ الكشوف العلمية لشركات النفط تؤكد أنّ المحافظات الشرقية من الأقاليم الشمالية هي أغنى الأراضي بالنفط والغاز في مأرب والجوف وما حولها، وباقي الأقاليم حباها الله أيضًا من الخيرات ما يجعلها هي الأغنى ليس فقط محليًا أو إقليميًا، بل حتى على المستوى العالمي، وإلى عهد قريب كان ميناء عدن هو الميناء الثاني عالميًا، ناهيك عن الثروات المعدنية والسمكية والأرض الخصبة، والمنافذ البرية والبحرية.

على أني هنا أشكّك في نزاهة شركات النفط الغربية، لأنها في معظمها ذات أهداف استعمارية، وغالبًا ما تكتشف هذه الشركات النفط في المناطق القبلية أو الدولية المتنازع عليها، لإذكاء الصراع والحروب البينية، ليسهل بعد ذلك استعمار هذه البلدان، كما يقول المثل "فرق تسد".

٣. يردد الإنفصاليون نغمة ماجنة جدا وهي أن ثمة فوارق اجتماعية وثقافية بين المحافظات الشمالية والشرقية والمحافظات الجنوبية والغربية؟!!. وهذه أقاويل يرفضها التاريخ اليمني على مدى ٥٠٠٠ سنة، من توحد الشطرين، ويرفضها الواقع اليمني، فقد التحمت معظم بل كل المحافظات اليمنية بالمصاهرات والطرقات والأسواق، فضلًا عن وحدة الدين واللغة والتاريخ والعادات والتقاليد والموقع الجغرافي، وبات فصلُ المجتمع اليمني إلى شطرين أو أكثر ضربٌ من ضروب الاستحالة، بل حتى في عهود الإنفصال إبّان سيطرة مغاوير الإمامة في الشمال وأذيال الاستعمار في الجنوب ظلت الوشائج الاجتماعية والتجارية والفكرية والثقافية قائمة على أشدها.

أخيرًا أجدُ من المهم في ختام هذه الدراسة أنْ أشير إلى الحل الأمثل والأجدى للجميع بمختلف مشاربهم وأفكارهم ألا وهو " وثيقة مخرجات الحوار الوطني" والتي تنص على إقامة حكم ذاتي لأقاليم البلاد الستة، وأن يتمتع كل إقليم بحكم نفسه، وذلك لتوسيع المشاركة الشعبية في القرار الوطني والثروة الوطنية، وألاّ يستأثر إقليم أو حزب أو قبيلة بموارد البلاد، شريطة ألا تكن هذه الأقاليم تمهيدًا للإنفصال والتشرذم والتشظي، كما وقع في بلدان أخرى.

وأن تخضع وثيقة مخرجات الحوار الوطني إلى استفتاء شعبي عام بعد أن تضع الحرب أوزارها.

ويلزم وضع القوانين والتشريعات والأنظمة الكفيلة بوحدة التراب الوطني اليمني والقضاء المبرم على كافة أشكال الوصاية والعمالة والإنفصال، وأن تنص القوانين والتشريعات على اعتبار دعوات الانفصال خيانةً عظمى، عملًا بالشريعة والقانون.

وأحسب أنّ هذا القدر بهذا التصور التوافقي لا يخالف قانوناً ولا شرعًا، بل على العكس من ذلك، بل هي تشريعات توافق روح الشريعة الغراء والقانون اليمني، وعلى أيدي سبأ أنْ تتفق وأنْ تنبذ كل أشكال العصبيات والحزبيات والمناطقيات والسلاليات.

في الحلقة القادمة بمشيئة الله سأتحدث عن المذهب الإباظي وهل هو أقرب إلى محيطه السني أو هو أقرب إلى عمقه التاريخي، وما هو دور الدول السنيّة في التقارب بين مذهب السنّة والمذهب الاباظي، وبالله تعالى التوفيق. والله من وراء القصد.